الجزائر: لكيلا نقارن ما لا يُقارن/ دكتور محيي الدين عميمور
28 أبريل 2019، 00:42 صباحًا
تفضلتْ “رأي اليوم” فنشرت تحت اسمي وبترشيح مني مقالا كتبه الشاعر الجزائري محمد جربوعة التميمي في “الفيس بوك”، كان فيه الكثير مما أراه، ففضلت أن أترك له المجال، لكنني فوجئت بردود فعل سلبية من قراء كثيرين، راح بعضهم يذكرني، بمكر واضح، بالآية: “والشعراء يتبعهم الغاوون”.
وأعدت قراءة النص من جديد على ضوء تلك التعليقات وبعض الشعارات التي كان وراءها من يحاولون ركوب موجة الحراك الشعبي، وأدركت سبب غضب البعض ممن فضح المقال خلفيات مواقفهم، وشعرت بأنني قمت بواجبي الفكري بعيدا عن مشاعر التعالي والغرور التي يمكن أن تمنع كاتبا من أن يتواضع لله ويدرك أن فوق كل ذي علم عليم.
وأعود اليوم لأنشر مقالا آخر للتميمي، رأيت فيه جرس إنذار لكل من تلهيه أصوات الهتافات المخلصة عن التنبه لفحيح الأفاعي والثعابين، وهذا هو المقال، والكلمات بين قوسين هي تعليق لي:
“حينما كنا نقول إنّ الأمور أكبر وأخطر مما يظن البعض ، كان الكثيرون حينها يلتقطون صور “السيلفي” في المسيرات، وكأنه نزهة، بينما قناة “المغاربية” وقناة “فرانس 24” تحتفلان بنشوة ..كان كثيرون يتهموننا بالتشاؤم والتخويف … ولولا الوعي الذي انتشر في أوساط الشعب، كالنور في الظلماء .. لكانت البلاد الآن في وضع آخر.
بداية تلك الخطة كانت اقتراح بو شاشي (محامي وناشط سياسي ومن المحسوبين على التيار العلماني، وكنتُ كتبت أن ذلك ممكن لو رشحه مجموع المُحامين) ممثلا للحراك .. وهي الخطة التي أسقطها الوعي، ليُسقط بعدها خطوات كثيرة ..ليتحول الشعب إلى فاعلٍ واع ولينتزع الحراك لنفسه ، ليكون هو من يضع مخططه وشعاراته وتوجهاته ومطالبه .. وقد ظهر ذلك جليا في الجمعة التاسعة.
اليوم ، يكتشف الجزائريون أنّ كل الذي يحدث تلخصه ثنائية لمشروعين يتصارعان لأول مرة على الوجود والمصير، مشروع وطني ومشروع فرنسي .. ولأول مرة يصطف الجيش مع الشعب ضد مشروع فرنسا .. هنا يجب أن ننبه إلى أنّ الأمر ليس آمنا ولا سهلا ..بل فيه من التوقعات المزعجة الكثير .. لذلك سأقسم هذا المقال إلى نقاط:
– مشروع الفوضى :كان البسطاء من الناس يظنون أنّ هتافات المطالبة بالعدالة وتحريك الملفات التي يطلقها البعض ، صادقة .. غير أن “الدولة العميقة” التي كانت ترفع تلك المطالب كانت تقصد بها محاسبة شخصيات وجهات معينة ، يسهّل لها سقوطها الوصول إلى قيادة الجيش ثم المرادية ..(رئاسة الجمهورية) وحين أخذت العدالة مجراها الحقيقي ، لأول مرة ، لتقصد “عش الدبابير)” والقلب المالي للدولة العميقة، بدأ التشويش على العدالة ، ومحاولة تحريك الجماهير لعرقلة المحاسبة ، وإجهاض خطة استرجاع “سوناطراك” (شركة البترول الرئيسية) والخزينة والبنوك والمال العام.
المال، بعد الجيش ، هو عصب الحياة للدولة العميقة ، وحين استُهدفت العلبة السرية المالية التي كانت هي المتحكم الحقيقي في الخزينة العمومية ، استُنفرت جهات كثيرة موالية لفرنسا ، وتحركت .. بل لقد وصل هذا “النفير” إلى فرنسا ذاتها ، فتحركت لحماية ممثلي وممولي مشروعها في الجزائر (نفت السفارة الفرنسية أي تساؤل عن اعتقال أحد رجال الأموال الجزائريين من أصدقاء الرئيس ماكرون)..
هنا ضعوا سطرا على ما سأقول الآن :
سيحاول هؤلاء نشر الفوضى لعرقلة العدالة ولمنع فتح ملفات الفساد، وهم يراهنون على أن الشرطة ستمنعهم من ذلك، وهنا يحدث الصدام ليخرج الجيش ، وهو ما يريدونه .. وحين يخرج الجيش، يلجأ هؤلاء إلى التأزيم عبر “ميليشيات”، وهو ما يدخل البلاد في دوامة ، ويكون بابا للمطالبة الدولية بإدانة الجيش وإدراج أسماء منه ضمن قوائم الإدانة الدولية للمطالبة بمحاكمتهم في المحاكم الدولية ، وتحويلهم من جنرالات وطنيين ، إلى مجرمين مطلوبين للعدالة ولا يجوز لهم إدارة جيش .. (أي أن من خلفيات مطالبة تيارات إيديولوجية معينة بمجلس رئاسي له سلطات قيادية أن يتمكن هذا المجلس من “تنقية” قيادة الجيش من كل العناصر التي تؤكد الانتماء لثورة نوفمبر ولجزائر بن باديس، أي السيطرة على القوات المسلحة بما يجعلها تسير في خط عسْكر مصر)
لذلك ، فإن واجب حماية مسار العدالة اليوم ، من مسؤولية الشعب .. ليرى العالم كله أن المُطالب بالعدالة والواقف في وجه التشويش عليها هو الشعب نفسه، لا الجيش (وهو ما أكده بيان النيابة العامة الذي نفى تعرضه لأي ضغوط للقيام يدوره القضائي).
مسيرات فرنسا (هناك) لم تكن في صف خدمة الحراك الشعبي كما يظن البعض، ولا للضغط على فرنسا، بل كانت للضغط على الجزائر ومشروعها الوطني ..وإن بدا غير ذلك في الظاهر .. والذين حركوا تلك المسيرات من دول أوروبية ، كانوا يلتقون مع فرنسا في وجوب إسقاط المشروع الوطني الجزائري ومساندة المشروع الفرنسي ..لذلك ، لا بد اليوم (..) على فرنسا أن تدرك أن الرعب غيّر موقعه، وأذرع النفوذ العربية في فرنسا، المتمثلة في الملايين من الجزائريين والعرب والمسلمين في فرنسا، أقوى من أذرع فرنسا في الجزائر، وأن الضغط الداخلي ستمارسه الجزائر لا العكس.
– قصة نادي القضاة : بعد أن كان النادي ماضيا باتجاه معين غيّر فجأة اتجاهه وأصدر بيانا يتبرأ فيه من “الجنرال توفيق” (قائد المخابرات الأسطوري الذي كان قائد الأركان حذره علنا من التآمر، وهو مزيج من إدغار هوفر وصلاح نصر وماهر الأسد) وبطيبة الجزائري، صفق كثيرون لهذه الخطوة .. وهو ما يستدعي التوضيح ..
نادي القضاة لا يمثل كل قضاة الجزائر ، ولا مؤسسة القضاء .. وقد اكتشف أنه تورط في الظهور في ساعة حماس، لذلك ، فإن مسؤولية نقابة القضاء اليوم ، وسلك القضاء كله ، أن يقف موقفا واضحا ، في اتخاذ الإجراءات المسلكية المناسبة في حق هذا النادي .. حفاظا على استقلالية القضاء عن التحزب .
– الجامعة بين الواجب الوطني والولاء لفرنسا :يجب أن نكون صارمين في تسمية الأمور بأسمائها الحقيقية .. وسأضع القارئ أمام حقائق وصلتني من ملف أعده طلبة وطنيون في جامعات عدة.
يقول التقرير إن “بعضهم” قام مؤخرا بتأسيس تنظيم طلابي جديد ، اسمه (ERC).. وأنّ هذا التنظيم بادر أول ما تأسس إلى تنظيم محاضرات داخل الجامعة دُعيت إليها شخصيات سياسية من خارج الجامعة ، معروفة بانتمائها الفكري والسياسي إلى جهة معينة .. وقد اكتشف بعض الطلبة الأمر، فوقفوا في وجه هؤلاء المدعوين ومنعوهم من الدخول .. وللعلم فإن ابن شخصية من الشخصيات ، موجود ضمن هذا التنظيم في جامعة ابن عكنون.
لقد لجأت الدولة العميقة ، بعد أن خسرت الشارع واكتشف الشعب خطتها ، إلى تحريك الجامعة عبر هذا التنظيم الطلابي الجديد ، وهو ما يستدعي التحذير منه، مع كل الكلام الذي يقال عن الجهة التي أنشأت هذا التنظيم ، وعن أهدافه.
– رمال تتحرك في الخريطة الجديدة :
الذين اكتشفوا أن خطتهم قد انكشفت سيتحولون إلى مشروع الفوضى .. والذين اكتشفوا من المثقفين والسياسيين والإعلاميين ورؤساء الأحزاب أنهم استدرجوا بغباء سيتراجعون خطوتين أو عشر خطوات .. وسترون ذلك في مواقفهم .. أما من أصرّ على ألاّ يفهم فسيجد نفسه في صف غير صف الوطن ..خاصة إذا أخذت الأمور اتجاها عنيفا .. مع الحديث عن نية لدى بعضهم لخلط الأوراق في مشروع ميليشياوي خطير ..
وهنا أسجل بالبنط العريض ، أن مشروع التسعينيات الميليشياوي هو نفسه المشروع الميليشياوي الذي يحاول خلط الأمور اليوم، والفرق الوحيد هو أن هذا المشروع الميليشياوي في التسعينيات استعمل وسائل الجيش والمخابرات وأسلحة الدولة لتنفيذ مخططه، بينما اليوم، وحين وجد نفسه بعيدا عن قيادة الجيش والمخابرات والشرطة، يلجأ إلى طرق منها أن يتم تسريب وإخفاء أسلحة خفيفة وثقيلة من أسلحة الجيش الجزائري ..لذلك..فالذين لم يحسموا موقفهم إلى اليوم ، سيجدون أنفسهم في صف ميليشيات التسعينيات بكل وجوهها .. “
انتهى ما رأيت تقديمه مقال التميمي، وأضيف له ما يلي، وأعتذر عن أي تكرار لبعض ما سبق أن قلته:
الجيش الجزائري هو مؤسسة وطنية وُلدت من رحم الثورة الجزائرية، ولم يعد على رأسه اليوم من كان يرتبط، بشكل أو بآخر، بماضٍ في الجيش الفرنسي، وهو ما سبق أن شرحته، خصوصا عندما تناولت أحداث التسعينيات المأساوية، ومن هنا فإن أي مقارنة بين المؤسسة العسكرية الجزائرية وأي مؤسسة أخرى وخصوصا في الوطن العربي، يجب أن تؤخذ بكل حذر، لمجرد أن العقيدة القتالية للجيش الجزائري لم تتغير منذ انطلاق ثورة التحرير الكبرى في 1954.
وأذكر بأن ما قاله الشاعر عن الميليشيات يجب أن يعيد إلى أذهاننا قضية القبض مؤخرا على ضابط سامٍ، اتهم بتسهيل الحصول على أسلحة عسكرية لغير المؤهلين لذلك.
من جهة أخرى، يجب أن أعترف بأن الحراك الشعبي فشل حتى اليوم في إبراز من يتحدثون إعلاميا باسمه ويعبرون عنه ويجسدون مطالبه الحقيقية، ومن هنا تمكنت بعض العناصر الفكرية والسياسية التي يلفظها الشعب، لأنها لا تعبر عن حقيقة إرادته، من استثمار النتائج التي حققها تعميم التعليم ومجانيته، فزرعت الساحة الإعلامية، الداخلية والخارجية، بعناصر صحفية تدعي نقل الحقيقة وهي أبعد ما تكون عنها، لمجرد أنها قدرات ناشئة تفتقد الخبرة المهنية والإرادة الفكرية.
وقد سبق أن أشرت لنوعية من يختطفون ميكروفونات القنوات الفضائية، في الوقت الذي يتعالى فيه المواطن الجزائري العادي بل والمثقف عن ممارسة الصخب الإعلامي على شاشات التلفزة، والذي أصبح هستيريا حقيقية تعيشها فضائيات تعاني من شراهة غول التلفزة، وتريد أن تسبق غيرها في ملء ساعات البث المتلاحقة.
وللأسف، فقد سقطت قنوات كنت أحترمها في فخ الاستسهال والمنافسة المتسرعة، ومن بينها الجزيرة والعربي والشرق، وبالطبع فرانس 24.
وأتذكر أنني قلت يوما في حديث للقناة البريطانية (BBC) إنني آمل أن تقدم وسائل الإعلام معلومات أساسية سريعة عمّن تستضيفه في التعليقات الإخبارية، ليعرف الناس اتجاهه وارتباطاته السياسة والفكرية والإقليمية، وتوضع آراؤه بالتالي حيث يجب أن توضع، ونعرف على وجه التحديد باسم من يتحدث، ونتعرف على القيمة الميدانية الحقيقية لما يرويه.
ويومها قامت قيامة العديد من الصحف التي تصدر في الجزائر باللغتين، وتلقيت من اللعنات أكثر مما قاله مالك في الخمر، وأدركت يومها أن هناك من يعمل لتؤخذ آراؤه المشبوهة كتعبير عن فكر وإرادة الملايين، ممن اصطلح على تسميتهم بالأغلبية الصامتة.
وألاحظ هنا أيضا أن شخصيات المعارضة التي لفظها الشعب، وفشلت في اختيار مرشح من بينها تتقدم به إلى الانتخابات الرئاسية، عادت تكرر رفضها للانتخابات بحجة أن الوقت غير كافٍ للاستعداد، وتجترّ من جديد المطالبة بإنشاء مجلس رئاسي خارج إطار النصوص الدستورية، مبررة ذلك بالقول إن المادة 102 ومدة الـ 90 يوما وضعت لتنفذ في الأوضاع الطبيعية، لكن الجزائر الآن ليست في وضعية طبيعية.
وسوف يتصور من يتابعون الأحداث خارج الجزائر أن الجزائر تعيش حالة حرب شاملة، أو أن زلزالا مدمرا أو “تسونامي” أصابها، لا قدر الله، فشلّ الحياة فيها، أو أنها ضحية وباء جرثومي رهيب الخ الخ.
في حين أن الذي حدث هو أن هناك مئات الآلاف من الشباب كانوا يتظاهرون بسلمية وهدوء ثم يعود كل منهم إلى منزله بعد أن يكون ساهم مع رفاقه في تنظيف مكان التظاهر، وبعد تصفيقات مرحة لشباب الأمن الذي كان مجندا لحماية التظاهرات من اختراقات يقوم بها “بلطجية” مأجورون، وهو ما حدث فعلا في مناطق معزولة.
وفي الوقت نفسه بدأت بعض العناصر اللائكية واليسارية تشن حملة شرسة تندد بالمتابعات القضائية لبعض رجال المال ممن قدمت اتهامات ضدهم، وراح البعض يصرخ عبر مواقع التواصل الاجتماعي بأن الأسبقية اليوم يجب أن تتوجه للقضايا السياسية، وكأنهم يتصورون أننا نجهل دور رجال المال في التأثير على القضايا السياسية، وهو ما عانينا منه بالفعل في السنوات الماضية، بل وفي الأسابيع الماضية، حيث راجت إشاعات عن قوى مالية، داخلية وخارجية، تحاول اختراق الحراك الشعبي.
وكان المثير للانتباه أن بعض المنددين بالإجراءات القضائية حاولوا تشويهها بالادعاء أنها موجهة لأغنياء من منطقة معينة، وكان ردّ المواطن البسيط بأن معنى هذا هو أن هذه المنطقة تحتكر الثروة.
لكن لا بد من الاعتراف بأن المؤسسة العسكرية الجزائرية، وربما لأنها فوجئت بالتطورات غير المتوقعة، لا تملك الأذرع الإعلامية التي تمكنها من وضع الرأي العام، الداخلي والخارجي، في الصورة الحقيقية للأحداث، ولست أملك أي اتصال مباشر أو غير مباشر لأقول للقيادة في “الثغوريين” ما يجب أن تسمعه في هذا المجال، خصوصا وقد ثبت اليوم أن جلّ مسؤولي المخابرات الذين تعاملوا مع الساحة الإعلامية منذ التسعينيات كانوا يعملون غالبا طبقا لمواقفهم الشخصية، وربما التزاما مع توجهات إيديولوجية معينة، أو حفاظا على مصالح مالية وفكرية مشتركة مع العديد من الصحفيين، وهو ما يفسر الفوضى الإعلامية الحالية.
ولم يكن من الغريب أن عقيدا من أولئك أصبح، بعد تقاعده، مستشارا إعلاميا لرجل الأعمال الجزائري “إيسعد ربراب”، الموجود حاليا رهن التحفظ القضائي في سجن “الحراش”، والذي تردد أن السلطات الفرنسية طلبت توضيحات عن خلفية الاتهامات الموجهة له، وهو ما كذبته السفارة الفرنسية في الجزائر في بيان صدر، للمرة الأولى، باللغة العربية.
ويبقى أن التعاطف الذي عبرت عنه اتجاهات لائكية فور الإعلان عن وفاة عباس مدني فُهِم على أن أعداءه التاريخيين يحاولون استمالة العناصر المرتبطة بالجبهة الإسلامية للإنقاذ أو المتعاطفة معها للتحالف معها ضد قيادة المؤسسة العسكرية، التي رفضت مخالفة نصوص الدستور.
وستتضح بعض الأمور يوم توديع الشيخ إلى مثواه الأخير.