الورشة التي دعا اليها كوشنير مستشار الرئيس ترامب وصهره للانعقاد في البحرين تحت عنوان “السلام من اجل الازدهار” كخطوة على طريق تنفيذ “صفقة القرن” التي سيعلنها في نهاية شهر رمضان المبارك، تذكرنا بالعديد من المؤتمرات والاجتماعات المماثلة التي دعت اليها واشنطن تحت اسم “السلام” ولم يسفر عنها سوى الحروب والتوترات في المنطقة، والتي لم تساو مقرراتها ثمن الحبر الذي كتبت به.
ففي مارس/اذار 1996 انعقدت في شرم الشيخ قمة ضمت اكثر من 80 دولة بينها امريكا وروسيا والصين ودول الاتحاد الاوروبي، وبينها الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية بعد ان اعتذرت سورية ولبنان ومعهما العراق عن الحضور… اسم تلك القمة كان “قمة صانعي السلام” وكان هدفها محاربة الارهاب (اي المقاومة الفلسطينية واللبنانية) وكانت حصيلة تلك القمة عملية “عناقيد الغضب” على لبنان ومجزرتي المنصوري وقانا وغيرهما في نيسان (1996)… وافضت الى “تفاهم نيسان” الشهير الذي كرس خطياً تفاهم تموز 1993 الذي جاء اثر عدوان اطلقت عليه تل ابيب اسم “تصفية الحساب” والتفاهمان، الشفهي والخطي، شرّعا وجود المقاومة التي كان الغاؤها اساسا هو السبب الرئيسي للحرب المغطاة عربياً واقليميا ودوليا.
وقبل ذلك الاجتماع الشهير في شرم الشيخ، انعقدت مؤتمرات ثلاث للتطبيع تحت اسم “الشرق الاوسط وشمال افريقيا” وفي القلب منها الكيان الصهيوني، وجرى احتضان هذه المؤتمرات في القاهرة وعمان والدار البيضاء وكاد المؤتمر الرابع ان ينعقد في الدوحة لولا تعاظم الاعتراض الشعبي على التطبيع مع العدو الصهيوني. ولولا تفاهم قادة عرب ثلاثة ، كلّ لاسبابه الخاصة، وهم الرئيس حافظ الاسد لاعتراضه من حيث المبدأ على مثل هذه المؤتمرات التطبيعية فيما الارض العربية ما زالت محتلة، والحقوق الفلسطينية ما زالت مغيبة.
اما الرئيس السابق حسني مبارك فقد استاء جدا عندما علم ان شمعون بيريز رئيس حكومة الكيان، وصاحب مشروع “الشرق الاوسط الجديد” في كتابه الشهير، قد اجتمع مع رجال اعمال خليجيين مشاركين في مؤتمر الدار البيضاء وقال لهم :” ما لكم ومصر… تعالوا الينا تجدون فرص استثمار عندنا افضل بكثير من مصر”.
اما الملك الراحل فهد بن عبد العزيز آل سعود فلم يعجبه اعطاء هذا الدور القيادي للدوحة التي كانت تلعب بالسر دوراً منافسا للرياض في المنطقة وهو الدور الذي ما لبث ان تفجر صراعاً بين البلدين (السعودية وقطر) قبل عامين…
المحاولة الثالثة في الاطار نفسه برزت مؤخراً في مؤتمر وارسو الذي دعت اليه واشنطن ايضا، وكان بومبيو عرابه، ونتنياهو نجمه، وقاطعته منظمة التحرير فيما كانت المشاركة العربية هزيلة رغم الرهان الامريكي الشديد على انجاحه كخطوة على طريق “صفقة القرن”…
بين هذه المؤتمرات الممتدة على مدى اكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، بالاضافة الى مؤتمر “جنيف” عام 1973 بعد حرب تشرين، ومؤتمر مدريد عام ( 1991) بعد الحرب الاولى على العراق، انعقدت اجتماعات ثنائبة عديدة، وبرزت مبادرات تطبيعية فاقعة، وشنت حروب متعددة بدءاً من حرب احتلال العراق (2003) الى حرب تموز في لبنان (2006)، الى حروب غزة الى الحروب المفتوحة منذ 8 سنوات على سوريا واليمن وليبيا وفيها.. وصولا الى مؤتمر “ريادة الاعمال” في المنامة الذي حال اجماع القوى البحرينية في “مبادرة وطنية مناهضة للتطبيع” دون مشاركة ايلي كوهين وزير الاقتصاد الصهيوني.
لكن كل هذه المؤتمرات باءت بالفشل الذريع، بل ان من يرسم خطاً بيانياً لمسار المقاومة يكتشف دون صعوبة انها في خط متصاعد، فقد تصاعدت انتصاراتها ولم يعد العدو يخف ارتباكه من تنامي قوتها وتزايد خبرتها وتحسن موازين القوى لصالحها…
يبقى السؤال ، لماذا اذن تصر واشنطن على المضي بهذا النوع من المؤتمرات رغم ما منيت به من فشل…؟
الجواب على هذا السؤال مؤلف من شقين الاول شكلي يتصل باصرار الادارة الامريكية على الايحاء بان ما يسمى عملية السلام مستمرة لكي يتهرب الكيان الصهيوني من الايفاء بالتزاماته المحددة بالقرارات الدولية، تحت ذريعة ان المفاوضات مستمرة.. وهي سياسة لخصها الراحل الكبير الدكتور كلوفيس مقصود (الذي ودعناه في مثل هذه الايام قبل اعوام ثلاثة) حين قال :” انه المسار وليس السلام Process not Peace”…
اما الشق المتصل بالجوهر فان الادارة الامريكية ظنت انها بعد كل ما حدث في الاقطار العربية من احتراب وفوضى ودمار لا سيما في سورية والعراق واليمن وليبيا، الى حد ما في مصر، فان الاجواء العربية باتت مهيئة لقبول مشاريع التفريط بالحقوق الوطنية والقومية الثابتة لشعب فلسطين والامة العربية…
وكما هي عادتها في العديد من ملفات السياسة الخارجية الامريكية، أخطأت واشنطن التقدير مرة اخرى لأنها لم تلاحظ ان محور المقاومة الممتد من ايران الى لبنان مروراً بسوريا والعراق قد بات اكثر تماسكا وقوة من أي وقت مضى… وان المحور المعادي للمقاومة من واشنطن الى تل ابيب وصولا الى القوى التي تدور في فلكهما قد بات محل ضعف وارتباك ويعاني من تراجع استراتيجي في اكثر من موقع في المنطقة وعلى مستوى العالم…
غير ان المفارقة الاكثر “فضائحية” في هذه المحاولات الامريكية هو “ربط الازدهار بالسلام” فيما نلاحظ مع المؤتمرات الثلاث (القومي العربي، القومي الاسلامي، الاحزاب العربية) في بيانها الاخير حول ورقة كوشنير في البحرين:
“عن اي ازدهار تتحدثون عنه في مصر بعد “سلام” كمب ديفيد، وعن اي انجازات تتحدثون عنها في فلسطين بعد “سلام ” اوسلو، وعن اي رخاء تتحدثون عنه في الاردن بعد سلام “وادي عربة…”
فالسلام الامريكي لم يجلب الى المنطقة سوى الدمار والدماء، والخراب والحرائق، والفقر والعوز، والفوضى والانهيار….
بعد توقيع السادات على معاهدتي “كمب ديفيد” في اذار (1979) كتبت في “السفير” المغدورة مقالا بعنوان “معاهدة السلام المستحيل” اشرت فيها الى ان الدماء التي ستسيل في المنطقة بعد معاهدة السلاىم تلك ستكون اكثر مما سال قبلها…
ومنذ توقيع الاتفاقية والدماء تسيل في ارجاء امتنا العربية من محيطها الى الخليج ودون توقف.
تعليق واحد