كتاب عربموضوعات رئيسية
الجزائر: أي ديموقراطية نريد ويريدون ؟/ دكتور محيي الدين عميمور
عندما اعتقل أحد رجال المال الجزائريين منذ عدة أسابيع راحت الجوقة اللائكية، ومن وراءها صحف فرنسية، تتهم السلطة أنها تحاول الالتفاف حول الحراك الشعبي بل واستهداف أثرياء منطقة معينة، وراح من بينهم من يتحدى السلطات بأن تجرؤ على اعتقال سعيد بو تفليقة، شقيق الرئيس المستقيل، وعندما حدث هذا أشارت الأصابع لعدد من كبار المسؤولين الذين تناقلت الألسن أنباء فسادهم متحدين السلطات باعتقالهم، وعندما أودع رئيسا حكومة مرة واحدة السجن لم نعدم من يشكك في نية السلطات اجتثاث الفساد من أصوله المالية والسياسية، وهكذا وجد هواة التظاهر ومن يجندهم، كما أوردت “رأي اليوم” في الجمعة السابعة عشرة من الحراك الشعبي، شعارات جديدة، ورُفعت لافتات كُتب عليها “الشعب يرُيد استرجاع الأموال المسروقة ” و “لا رحمة عند محاسبة العصابات “، وبالطبع فإن عنصر المزايدة واضح، فمن وراء المتظاهرين يعرفون، كما قالت ربيعة خريس، أن عملية استرداد الأموال المسروقة في نظر حقوقيين حلمَ صعبُ المنال لعدة أسباب، أبرزها أن حصر عائدات المتورطين وتحديد مكان تواجدها لن يكون بالأمر الهين، خصوصا وأن معظمها مودعة في البنوك الخارجية، والكثير من هذه تلتزم السرية التامة، وترفض في معظم الأحيان كشف المعلومات المتعلقة بزبائنها، وهو ما سيصعب مهام القضاء الجزائري في استرداد تلك الأموال، خاصة تلك الموجودة في الدول المصنفة في القائمة السوداء للدول التي تمثل ملاذًا آمنًا للتهرب الضريبي، كدبي ومولدفيا وبنما وإسرائيل وإسبانيا وفرنسا وسويسرا.
وبالطبع، فلم تكن هناك لافتة واحدة تحية للقضاء أو للسلطات التي مكنته من ملاحقة الفساد، ناهيك عن كلمة خير في المؤسسة العسكرية التي ضمنت الحماية الكاملة للإجراءات القضائية ولرئيس الدولة الذي تحمل مسؤوليتها السياسية.
وتتواصل المزايدات والمغالطات.
فقد تعرضت قضية المرحلة المؤقتة لمغالطة لا تجوز حتى على تلاميذ الابتدائي، عندما راح البعض يقول في بعض المنابر بأن المرحلة الانتقالية هي عنوان “الخلاف الأبرز بين الجيش والحراك الشعبي”، في حين أن الخلاف هو أساسا حول “مفهوم” المرحلة الانتقالية، وليس عن المرحلة الانتقالية نفسها، لأن هذه أمر واقع بمجرد انتهاء عهدة الرئيس الممارس في غير وقتها المحدد دستوريا، وقد عشنا هذه المرحلة إثر وفاة الرئيس هواري بو مدين وسارت الأمور بهدوء بفضل احترام الدستور، لكننا عشنا مرحلة دموية مأساوية في التسعينيات عندما انحرفنا عن الدستور، ويريد البعض اليوم أن يستنسخ تلك المرحلة التي لن يسمح وطني بعودتها.
والجانب الأخطر من المغالطة هو تقديم الأمر كخلاف بين الجيش والحراك، وهي في واقع الأمر خلاف بين الدولة، ممثلة في رئيسها الشرعي بحكم الدستور دائما، وبين الذين ينادون بمرحلة انتقالية لا دستورية محاولين ركوب حراك شعبي لم يعهد لهم بأي مسؤولية سياسية، وهدفهم هو انتزاع مواقع قيادية تسمح لهم بتطبيق سياسة لا تجسد إرادة شعب ثار على الفساد السياسي والمالي والاجتماعي الذي عانينا منه في السنوات الماضية، وقد تعيد فسادا أكثر خطورة.
ومن هنا نفهم خلفية بعض التجمعات التي تضمنها خبر نشرته “رأي اليوم” وأورده الإعلامي حسان جبريل من وكالة الأناضول الأسبوع الماضي، وكان عن تظاهرات الطلاب في الجزائر الثلاثاء الماضي، واختتمه بمعلومة جاء فيها أن بالجزائر “106 جامعة ومركزا جامعيا منتشرة عبر محافظات (ولايات ) البلاد الـ 48، وتضم الجامعات الجزائرية نحو 1.5 مليون طالب، و60 ألف أستاذ جامعي (كان عدد الطلبة في الجامعة الوحيدة عند استرجاع الاستقلال في 1962 نحو 500 طالب)” وكان الخبر تحت عنوان : “آلاف الطلاب في الجزائر يعودون للتظاهر وسط حضور لافت للشرطة.. وهتافات ضد الرئيس المؤقت ورئيس الوزراء ورموز النظام السابق.”
وأثارت انتباهي الموضوعية والنزاهة التي تكامل فيها مضمون الخبر مع عنوانٍ، كان بعيدا عن التهويل المألوف في بعض صحفنا وخصوصا المُفرنسة، أي الإشارة لعدد المتظاهرين، التقريبي بالطبع، وبغض النظر عن أن الهتافات لم تكن، كما جاء في العنوان، ضد رئيس الدولة ورئيس الوزراء، وإنما تركزت ضد الفريق قايد صالح، رئيس أركان المؤسسة العسكرية، الذي أصبح “هتلر” جديد تتفنن في رجمُهُ المصالح الفرنسية والتوجهات اللائكية والنزعات الانفصالية البربرية وبعض المتأسلمين ممن ذهبوا وعادوا، فلم ينسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا، كما قيل عن ملوك “البوربون”، والمقارنة مع الفارق.
وبرغم أن الخبر أشار إلى “حضور لافت لقوات الشرطة التي عززت تواجدها بالشوارع والطرقات المجاورة”، كما قال الصحفي، إلا أنه لم تُسجل أي محاولة لقمع التظاهرة أو لصدّ المتظاهرين المتحمسين، وهو ما أتصور أنه موقف حضاري يُسجل للجميع، متظاهرين وشرطة، ويمكن أن نتخيل لو حدث هذا في بعض البلدان الشقيقة، حيث شتيمة المولى عز وجل أقل خطورة من سباب المسؤول العسكري الأعلى في البلاد.
وجاءت تلك التظاهرات بعد فشل نفس التجمعات المُؤدلجة منذ أسبوعين في تجنيد الجماهير وراء هتافات كانت تصرخ باللغة الفرنعربية ( كابوتشينو من اللغتين) “يونا مارّ ( Y en a marre، أي ..مللنا) من حكم العسْكر يونّا مارّ”، علما بأنه لا يوجد في كل المراكز المدنية العليا والوسطى والدنيا أي مسؤول عسكري باستثناء الفريق قايد صالح، وهو مجاهد معروف من رجال جيش التحرير، وأول مسؤول عسكري سامٍ ليس من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي.
كل تلك المعطيات عَرَضَها، بالصوت وبالصورة، الإعلامي المصري المتميز “معتز مطر” في برنامجه اليومي على قناة “الشروق”، وظهر واضحا حجم المتظاهرين وسلمية التعامل معهم في الولايات الثلاثة التي حدثت فيها التظاهرات من بين الـ48 ولاية.
وربما كان مأخذي على معتز مطر أنه نظر إلى الأمر من موقع المناضل المصري الذي يحارب بكل قواه ما يسميه حكم العسكر، وقد يكون على حق في هذا بالنسبة لمواقع كثيرة في الوطن العربي، لكن المقارنة والمقاربة تفقده الكثير من مصداقيته عندما يطبق الأمر على الجزائر.
فمن واقع الهتافات التي استمعنا إليها مسجلة ومعادة عبر كل فقرات الشريط المكررة نلاحظ أن الشباب الغاضب لم يهتف بسقوط حكم “العسْكر” كما قال معتز، انطلاقا من خلفيته المعروفة والمفهومة، حيث كانت الهتافات على وجه التحديد “جيش، شعب …خاوة خاوة (إخوة) وقايد صالح مع الخونة”، أي أن التركيز هو على شخص رئيس المؤسسة العسكرية، وهو ما جسده عنوان الصفحة الأولى من مجلة “جون أفريك” الناطقة بالفرنسية.
ثم إن الصحفي المصري لم يتوقف إطلاقا عند محدودية التظاهرات، حجما ومكانا، ودائما من نفس المنطلق الذي لا يُلامَ عليه، لكن اللقطات المصورة التي بثها كشفت متظاهرين كانوا يرفعون راية الاتجاهات البربرية المتناقضة مع الانتماء العربي الإسلامي الذي تتميز به الجزائر، ويبدو أنه لم يلاحظ ذلك ولم يلاحظ اللافتة الكبيرة باللغة الفرنسية التي رأيناها في اللقطات “المكررة”، حيث تظهر أي لافتة باللغة العربية، وبينت اللقطات أن التظاهرات سارت بصخب واضح وسط لا مبالاة المارة ونظرات الفضوليين، وبدون أن يرتفع صوت “كلاكسون” واحد، محتجا أو متضامنا.
وفي تصوري المتواضع فإن الخبر المصور الذي عرضه مُعتز ، وحفاظا على مصداقية القناة التي تخوض حربا شعواء ضد الثورة المضادة، كان يجب أن يُقدّم ببساطة صادقة على أنه تعبير عن وجهة نظر شريحة شبابية جُمّعت في عدة شوارع تتوسط ثلاث ولايات جزائرية، وهي شريحة منظمة مهيكلة، يتقدمها حامل لجهاز “ميغافون” كما هو واضح في اللقطات، وتسجل تناقضها ورفضها لرؤية قيادة المؤسسة العسكرية، التي رفضت الخروج عن الدستور واستنساخ التجربة الانقلابية التي عرفتها الجزائر في بداية التسعينيات وكان ثمنها مئات الآلاف من الضحايا المدنيين والعسكريين، ومئات المليارات من الخسائر المادية، بالإضافة إلى خسائر اجتماعية لا تقدر بمال قارون.
ببساطة، هي شريحة من حقها أن تعبر عن توجهاتها، اقتناعا أو تجنيدا، لكنها لا تعبر عن ملايين الشعب الجزائري بأي حال من الأحوال، والصور المتلفزة لا تكذب.
وأعتقد أن هذه هي المعادلة الصعبة التي تواجهها الجزائر، والتي لم تستطع جُلّ القنوات تقديم صورة صادقة عنها، وهو فشلٌ نتحمل نحن مسؤوليته بالدرجة الأولى.
فبعيدا عن منطق توجهات لائكية معروفة ترفض المنطق الديموقراطي الذي يعتمد الانتخابات الشعبية، وترى أن الديموقراطية، وطبقا لتصريحات علنية منشورة لبعض قياداتها، هي اختيار سياسي يقود إلى “وضعية تسْحقُ الأغلبيةُ فيها الأقليةَ”، وهو افتراء على الديموقراطية التي تعيشها بلدان العالم المتقدم أجمع، ودول نامية مثل المغرب وتونس والسنغال وحتى رواندا.
وكان ردّ الفعل الطبيعي على من يرفضون الانتخابات الرئاسية بتشويه مفهوم الديموقرطية هو غضب كل الذين ينادون، عن إيمان وصدق، بالديموقراطية، والذين استنتجوا أن أقنعة “الخرطوقراطيين” (وهو تعبير اكتشفه الجزائريون) تتساقط الواحد بعد الآخر، وأن ما يريده هؤلاء هو فرض العودة إلى تجربة التسعينيات، حيث الأقلية تحكمت في الأغلبية بفضل دعم مؤسسة عسكرية كانت مختطفة من توجهات أمنية تم اليوم استئصال رؤوسها، في انتظار الباقي.
وتطور غضب الوطنيين إلى حدّ المبالغة في التحدي، حيث قرأنا لمن يقول إن البديل الوحيد في مواجهة أقلية شرسة لا تدين بما تدين به الأغلبية الساحقة هو تطبيق نظام “المحاصصة”، الشبيه بما يعيشه لبنان.
وبالطبع فإن جماهيرنا ترفض، حتى الآن، هذا الطرح، لأنها تعرف حجم الصعوبات التي واجهها القطر الشقيق والأهوال التي عانى منها خلال حرب أهلية دامت نحو 15سنة.
وهنا نكتشف أن حالة هيستيرية بدأت في البروز في مستوى بعض الحزيبات والاتجاهات اللائكية، راحت تستغل التعامل الرصين لرجال الأمن مع كل المتظاهرين.
وكان السبب المباشر وراء عدوانيتها ضمور مقدرتها على التجنيد الشعبي بعد أن سقطت مصداقية طروحاتها، وبعد أن أحسّتْ بانصراف الجماهير عن تغذية التجمعات الهائلة التي عرفتها الأسابيع الماضية عبر جلّ ولايات الوطن، وذلك برغم بيانات مطبوخة بعناية “إيديولوجية” واضحة نُسبت لبعض رجال الدين ولبعض الكتاب، وحاولت مرة أخرى الدعوة لفكرة مرحلة مؤقتة تقودها مجموعة معينة “خارج إطار الدستور”، بالادعاء أن التظاهرات الجماهيرية هي “استفتاء يجب أن يحل محل الانتخابات”، وهو ما أشرت له في أحاديث سابقة.
وسنلاحظ كيف أن بعض من اتهموا بالفساد المالي وتم القبض عليهم تمكنوا، والمال يصنع المستحيلات، من تجنيد بعض مساعديهم “الأوفياء” للتشويش على عمل القضاء، وهكذا رُوّجت اتهامات بأن العدالة تمارس عملها بشكلٍ انتقائيٍ جهويٍّ بتعليمات من خارج إطار العدالة، برغم أن رجال القضاء كذبوا وجود أي محاولة لفرض أي توجه على اختيار المتهمين أو أسلوب التعامل معهم، وتبقى البينة على من ادعى.
ولا تتوانى باريس عن بث السموم وزرع الشكوك، فتنشر وكالة الأنباء الفرنسية، كما نقلت “رأي اليوم” تعليقا، الأربعاء الماضي، تقول فيه : يخشى مراقبون (لم تقل بالطبع من هم) أن يكون الهدف من حملة المحاكمات والاعتقالات تقديم “قرابين” للحركة الاحتجاجية التي رفعت شعار “أكلتم البلد أيها اللصوص”، وفي الوقت نفسه اجتثاث رموز النظام السابق في إطار “صراع بين العُصب داخل السلطة”.
هكذا تقدم وكالة الأنباء الفرنسية حراك الجزائر.
ويجب أن نعترف بأن البلاد عاشت عملية تخريب كبرى خصوصا نتيجة للعشرية الدموية وما تلاها، وهي عملية تحالفت فيها أذرع أمنية مع عناصر سياسية ومترفين جدد، وتكونت طبقة رأسمالية طفيلية شرسة نمت مخالبها وطالت أنيابها وتضاعفت شهيتها، كالمصاب في بطنه بالدودة الشريطية، واستطاعت اختراق كثير من المواقع الإدارية والإعلامية بل والجامعية والديبلوماسية والحزبية، وبهذا أصبح الفساد قوة هائلة هي التي تحمل اليوم اسم “الدولة العميقة”، والتي تواجهها قوى “الدولة العريقة” بصعوبة تعانيها دائما كل الأغلبيات الصامتة التي تفتقد القيادات المستنيرة وتعوزها حيوية الروّاد وحركية المثقفين الوطنيين.
والطبيعة، كما هو معروف، لا تحتمل الفراغ، فأحزاب الموالاة، كما تسمى، تعيش الآن عقدة تأييدها الأحمق للعهدة الخامسة ولا تجرؤ على مواجهة الجماهير، وقيادات المعارضة لم تستطع ركوب الحراك لأنها لم تستطع إقناع الشباب بأنها تعبر عن طموحاتهم وتجسد آمالهم، وبعض تجمعات المعارضة لا يتجاوز لقاءات في غرف مغلقة شبّهها بعض طوال الألسنة ممارسة للسياسة بأسلوب العادة السرية.
وهنا أذكر مرة أخرى بأن من أسوأ نتائج الممارسات التي يتحمل النظام السابق مسؤوليتها تدمير هيئات الإعلام بمعناه الواسع، فقد جرى اختراق جل التشكيلات الصحفية المكتوبة والمرئية والمسموعة بتعيين قيادات كثيرة لا يُطلب منها إلا الولاء، إلى جانب عرقلة إقامة نقابة مستقلة للإعلاميين، وتفتيت الرأي العام بخلق أكثر من 150 صحيفة يومية باللغتين، وهو أكبر من عدد الصحف في أوربا الغربية كلها،.
وهكذا فشل الإعلام السياسي، ولا أقصد بذلك الصحف والتلفزة وحدها وإنما كل المؤسسات التي تتحمل مسؤولية صياغة الرأي العام وتوجيهه، فشل في شرح المعطيات التي تتعلق بأوضاع البلاد وباختياراتها، وبحيث لا نجد في مثل هذه الظروف الصعبة من يتحدث إلى الجماهير، والشباب بوجه خاص، ويعقد الندوات في كل القنوات ويلقي المحاضرات في كل التجمعات، ناهيك عن الشلل الديبلوماسي الذي يُعطي الشعور بأن الجزائر أغلقت كل بعثاتها الديبلوماسية.
وقد كانت رسالة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي فرصة تكاد تضيع لأن كثيرين يترددون في التعامل معها، بدلا من اعتمادها كورقة عمل يمكن استثمارها باستكمال ما يمكن أن يجعل منها برنامجا وطنيا للعودة نحو الحياة الطبيعية.
ولقد قلت شخصيا إن نقطة الضعف الأساسية كانت تجاهل تلك الرسالة لأهمية التعامل مع رئاسة الدولة، وأتصور أن هاجس التناقض مع الاتجاهات العامة للحراك هو العنصر الأساسي في ذلك، لكنني أرى أن المسؤولية الأولى لا تقع على عاتق طالب، وكنت أتمنى لو التفت حوله شخصيات وطنية تمثل كل الاتجاهات، ولو حدث التكامل بكل شجاعة أدبية مع رئاسة الدولة، ولو أمكن التوجه للجماهير بخطاب سياسي وطني مُقنع، ولوْ…ولوْ….ولوْ…
ولكن السياسة ليس فيها ….ولوْ.
تعليق واحد