على ساحل المحيط الأطلسي المتلاطم الأمواج، احتضن أخيراً منتجع بياريتز الفرنسي السياحي العريق، حيث أُنشئ في القرن الثاني عشر، قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، تترقبهم الآمال بإيجاد سُبل فعالة لمواجهة الكثير من التحديات التي تواجه المجتمع الدولي.
بداية، فإن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، أميركا والمملكة المتحدة واليابان وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وكندا, نشأت بغرض تبادل الأفكار والحلول المحتملة لأزمة الاقتصاد العالمي، وكانت أول قمة للمجموعة عام 1975 بست دول فقط؛ حيث انضمت كندا في العام التالي 1957، كما انضمت روسيا عام 1998 حتى تم استبعادها بعد ضمها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014 بعملية عسكرية خاطفة، أعقبه استفتاء شعبي مشبوه. وتتخذ المجموعة قيم الحرية، وحقوق الإنسان، والديموقراطية، وحكم القانون، والرخاء، والتنيمة المستدامة كمبادئ رئيسة لها. وبالتناوب ترأس الدولة المضيفة أعمال القمة لمدة عام. ورغم أن الصين عضو في مجموعة العشرين، ورغم كونها صاحبة الاقتصاد الثاني في العالم، إلا أنها حسب معايير المجموعة التي تهتم بنصيب الفرد من ثروات البلاد، لا تعد من دول الاقتصادات المتقدمة؛ ومن ثم فهي ليست عضواً بالمجموعة.
حملت القمة الأخيرة عنواناً إنسانياً خادعاً: “التكافؤ والمساواة”، لا يعبر عن مجريات الأمور على الساحة الدولية، وربما حاول به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مداعبة وتهدئة معارضيه من أصحاب السترات الصفراء، الذين كانوا أكثر حنكة وواقعية، وشاركوا في القمة على طريقتهم؛ إذ تجمعوا على مدى أيام القمة بالآلاف، وكانت أطرف تظاهراتهم تلك التي حملوا فيها صوراً مقلوبة لماكرون، كانوا قد سرقوها على مدى الأشهر الماضية من مقرات البلديات الفرنسية، وانضموا إلى معارضي العولمة ومناصري البيئة وطالبي العدالة الاجتماعية، بتنظيم من منظمة “كوب 21″، إضافة إلى مجموعتين من الباسك هما “الترناتيبا” و”بيزى”، وساروا جميعاً تحت شعار “أطيحوا بماكرون”.
في هذه الأثناء، كان ماكرون يواصل جهوده في لعب دور فاعل على الساحة الدولية؛ إذ سعي جاهداً أن يحقق نجاحاً لافتاً للقمة التي يستضيفها، عساه يرفع من أسهمه في الداخل. وواقع الأمر أن ماكرون أعد للقمة بوعي حقيقي بأزماتها المتوقعة، وإيمان واقعي بأهمية “فن الممكن”. فاستقبل الرئيس الروسي بوتين قبل القمة، وأمسك بالعصا من المنتصف، فلا هو أيد عودة روسيا إلى المجموعة، فيكون قد أفرط وخرج عن السياق، ولا هو رفض العودة فيصطدم برغبة الرئيس الأميركي ترامب، وهو الذي سيحتاج إلى تهدئة الأجواء معه قبل بحث الدور الاستثنائي الذي ينهض به في أزمة النووي الإيراني التي بسببها أجرى مباحثات متواصلة قبل القمة مع الجانب الإيراني، حتى أنه دعا وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف أثناء القمة، وكان ذلك بحسب ما أعلن ماكرون “بعلم الرئيس ترامب”.
واستلهاماً مؤلماً مد دروس المأزق الذي عاشته القمة السابقة التي عُقدت بكندا العام الماضي، عندما رفض ترامب البيان الختامي بعد أن كان قد قبله، تجاوزت قمة بيارتيز عن هذا تقليد “البيان الختامي”، الذي لا يتناسب وشخصية ترامب وخطواته غير المتوقعة، واستُبدل الأمر بعدد وافر من المؤتمرات الصحافية التي جمعت القادة وبشكل ثنائي، فضلاً عن وثيقة أصدرتها الحكومة الفرنسية، بتحفظ شديد، باعتبارها المنظمة للقمة. وبالفعل نجحت جهود ماكرون في تشكيل انطباع عام بوجود قدر كبير من التوافق بين قادة القمة. إلا أن التفاصيل لا تدعم ذلك إلى حد بعيد.
فمن جهة نجد أن الحرب التجارية الصريحة بين قطبي الاقتصاد العالمي، أميركا والصين، لم تُنتج القمة شيء يُذكر من أجلها، والتهدئة الواردة علي لسان ترامب في ختام القمة كانت نتاج رسالة من الصين أبدت فيها رغبتها في مواصلة التفاوض بشأن النقاط الخلافية بين البلدين. حيث أعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستستأنف “قريباً جداً” المفاوضات التجارية مع الصين، كما أشاد بالرئيس الصيني شي جين بينغ، ووصفه بأنه “زعيم عظيم”. وهو رد منطقي إزاء تصريح ودود لكبير مفاوضي الصين في المحادثات التجارية مع أميركا قال فيه إن بكين مستعدة لحل نزاعها مع أميركا عبر “مفاوضات هادئة”، وإنها تعارض بشدة تصعيد الصراع. لكن في النهاية، لا يمكن القول بأن القمة نجحت في إثناء ترامب عن سياساته الحمائية التي تدفع الاقتصاد العالمي إلى أزمات كبرى. وفي ذلك نكون قد أعدنا مرة أخرى الإخفاق الذي حققته قمة العشرين الماضية في هذا الشأن.
بل أن قمة بيارتيز جاملت ترامب بإعلانها الرغبة في “تغيير منظمة التجارة العالمية بعمق لتكون أكثر فاعلية في حماية الملكية الفكرية، وتسوية النزاعات بسرعة أكبر والقضاء علي الممارسات التجارية غير العادلة”؛ إذ يعترض ترامب بشدة على أسلوب عمل المنظمة، ويري أنها تعادى بلاده، وهدد بالانسحاب منها. كما أن حقوق الملكية الفكرية تمثل ملمحاً أساسياً في الخلاف الأميركي ـ الصينين حيث يتهم ترامب الصين بسرقة حقوق الملكية الفكرية الأميركية. ويلاحظ أن تعبير الممارسات التجارية “غير العادلة” كثيراً ما يرد على لسان ترامب وهو يمارس حربه التجارية استناداً إلى “الظلم” الذي تتعرض له بلاده.
كذلك، ليس جديداً، اتفاق دول مجموعة السبع على ضمان عدم قدرة إيران على امتلاك اسلحة نووية. لكن أزمة الملف النووي الإيراني تبقي أسيرة الإرادة الخاصة بالمرشد الأعلى الإيراني خامنئي، فترامب عرض منذ فترة إجراء حوار مباشر مع طهران، بغرض تعديل بنود الاتفاق (5+1) الذي أُبرم مع إيران في الرابع عشر من تموز (يوليو) 2015، ويعتبره ترامب “غلطة” من سلفه أوباما. لكن طهران رفضت في البداية إعادة التفاوض بشأن الاتفاق، ثم حدث تراجع طفيف، أمكن للقمة، مع الأخذ في الاعتبار “فن الممكن”، البناء عليه، إذ بات رفض إيران مُعلقاً على إلغاء العقوبات الأميركية التي أعادتها واشنطن، وهو ما يرفضه ترامب. وفي قمة بيارتيز أعلن ماكرون أن تهيئة الاجواء لعقد لقاء بين ترامب وروحاني يمكن أن يتم برفع “جزئي” للعقوبات الأميركية، أي السماح لإيران بتصدير جزء من نفطها. ومع ذلك فإن الآمال المتفائلة، وإن كانت مشروعة، إلا أنها قد لا تكون قريبة، حتى مع تصريحات روحاني الأخيرة التي واجه بها معارضي زيارة ظريف لفرنسا أثناء القمة، والذين رأوا فيها خضوعاً لا يليق بالثورة الإيرانية؛ إذ دافع روحاني عن وزير خارجيته وقال أنه شخصياً لن يتأخر عن التحرك في الاتجاه ذاته إذا كانت مصلحة الوطن في ذلك. ومعروف عن السياسة الإيرانية أنها دائماً ما تعمد إلى إرسال رسائل متضاربة إلى الخارج، توحي للمجتمع الدولي بأن الرئيس روحاني ووزير خارجيته ظريف يمثلان أفضل ما يمكن التفاوض معه، وأنهما يواجهان معارضة داخلية لرغبتهما في إيجاد حلول توافقية. وهو أمر شائع عن إيران، ولا يغير من الأمر شيء في النهاية إلا إرادة المرشد الأعلى.
كانت هذه أولويات قمة بيارتيز، التي وكأنها “نوهت” فحسب إلى مجموعة من القضايا المتنوعة، حيث أشارت القمة إلى أن فرنسا وألمانيا سيمهدان لعقد قمة في نورماندي الفرنسية في الأسابيع المُقبلة لتحقيق نتائج ملموسة فيما يتعلق بالتوترات بين روسيا وأوكرانيا. والمعروف أن إعادة شبه جزيرة القرم أمر مستبعد تماماً في ظل نمو القوة الروسية على الصعيد الدولي، فضلاً عن رغبة ترامب في دعوة روسيا إلى المجموعة لتصبح مجموعة الثماني، علماً بان القمة المُقبلة للمجموعة ستستضيفها أميركا؛ ومن ثم فمن المرجح أن يحضرها بوتين، ولو كضيف مدعو من جانب الدولة المضيفة.
وغير ما سبق، وبشيء من “سد الخانة”، تناولت القمة مجموعة من القضايا بقدر يسير من الاهتمام؛ إذ لم تنل قضايا البيئة جهداً كبيراً من القمة، فذلك تعهد هزيل بتوفير دعم مالي فوري قدره 20 مليون دولار لمواجهة حرائق الأمازون. وتلك إطاحة بعيدة بالأزمة الليبية إلى أجندة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، لعقد قمة بين الليبيين داعين إلى الحل السياسي باعتباره السبيل الوحيد لاستقرار ليبيا. وفي ذلك توافق كبير مع الأولويات الأميركية، فمن الملاحظ أن أميركا ترامب لن تنخرط بجدية في الأزمة الليبية. كما لم تبخل القمة عن “مناوشة” بكين، وبلطف ينسجم والرغبة في عدم إثارتها تمهيداً لتهدئة الحرب التجارية بينها وبين واشنطن؛ فأكدت القمة أهمية الإعلان الصيني – البريطاني لعام 1984 بشأن هونج كونج وتمتعها بالحكم الذاتي، بما يعني دعوة بكين إلى وقف العنف هناك والإقرار بحقوق المحتجين في الحرية والديموقراطية.