بين الحين والآخر يخرج إلى العلن فصلاً جديداً من فصول التطبيع مع اسرائيل، إذ لم يعد مستغرباً الحديث عن تطبيع خليجي علني مع اسرائيل، فالأمر بات يتم بصورة علنية ودون مواربة، صحيح أن أشكال التطبيع متعددة الأوجه، إنما الصحيح ايضاً أن ما يتم هندسته خليجاً، سيكون بعد مدة وجيزة أمر واقع، فالتطبيع الإعلامي والسياحي والرياضي والثقافي، ما هو إلا واجهة لما يدور في الغرفة المغلقة اسرائيلياً وخليجياً، عدا عن التنسيق السياسي المباشر بين بعض حُكام الخليج واسرائيل. فالواضح أن طبخة التطبيع باتت في مرحلة التخمر، على الأقل هذا ما ترشح به العديد من المؤشرات، وإن كانت البحرين تتبنى التطبيع علناً، بعد ضوء أخضر سعودي، خاصة أنه عندما سافر وزير خارجية إسرائيل “يسرائيل كاتس” إلى مؤتمر في واشنطن العام الفائت، التقى علناً وصافح ووقف لالتقاط صورة مع نظيره البحريني “خالد بن أحمد آل خليفة”. وفي وقت سابق من يوليو/تموز من العام الفائت، سافر “كاتس” إلى أبوظبي للمشاركة في مؤتمر للأمم المتحدة، في حين ادعى مدير وكالة الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) “يوسي كوهين” أن إسرائيل حصلت على موافقة لفتح بعثة دبلوماسية في سلطنة عُمان. ونفت الحكومة العمانية، التي اتخذت خطوة غير اعتيادية باستضافة رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” العام الماضي، هذا الإعلان بشدة، لكن ليس هناك شك في أنه يوجد شكل من أشكال التقارب يجري وراء الكواليس.
يمكننا أن نقول أن الجليد بين دول الخليج واسرائيل، قد بدأ بالذوبان، فالنشاطات الدبلوماسية الأخيرة تشي صراحة إلى تقارب واضح الأركان والمضمون، ولعل الحقيقة الواضحة للجميع ضمن هذا السرد، بان قضية فلسطين لم تعد ذا أهمية لدى حُكام الخليج، كما أن ماهية الصراع بشقيه الفلسطيني الاسرائيلي، والعربي الاسرائيلي، قد تراجعت أهميته ولم يعد مطروحاً للنقاش أو تأويل مساراته، ولعل الأمر الأكثر أهمية الذي سمح لدول الخليج بتحريك المياه الراكدة مع اسرائيل، قضية ايران فوبيا التي هندستها واشنطن، ويبدو أنها نجحت في تعفيل هذه الفكرة لدى الكثيرين، الأمر الذي يُفسره تقاطع الهواجس الخليجية وتحديداً السعودية مع الهواجس الاسرائيلية، تُجاه ايران. هذا الأمر سمح لحكومات دول الخليج باتخاذ خطوات علنية، وإن كانت حذرة، نحو تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، حتى إن هذه الدول وافقت على سياسات إدارة “ترامب” المؤيدة لـ إسرائيل، مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان.
الجانب الأهم في عملية التطبيع السعودي مع إسرائيل، تكمن في تهيئة الرأي لعام الخليجي عموماً، والسعودي خصوصاً، فقد عمل القادة السعوديون على تحسين صورة اسرائيل عبر الإعلام، لتصل الصورة إلى متابعي هذه الإعلام السعودي ناصعة البياض، وقد سمحت السلطات السعودية لعدد من الشخصيات السعودية بمقابلة الإسرائيليين علناً، بل واستقبال كبار المتحدثين باسم إسرائيل في وسائل الإعلام السعودية. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، على سبيل المثال، نشر موقع “إيلاف” الإخباري السعودي مقابلة مع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك “غادي أيزنكوت” اقترح فيها على إسرائيل أن تتبادل المعلومات الاستخبارية مع السعودية في إطار كفاحهما المشترك ضد إيران. كما تسمح المملكة للمدونين بالتشجيع على التطبيع مع إسرائيل. وتلقى أحد المدونين، ويسمى “محمد سعود”، تصريحا من حكومته للقيام بزيارة علنية إلى القدس في يوليو/تموز الماضي، كجزء من وفد إعلامي عربي من 6 أشخاص التقى رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست، “آفي ديختر”.
قيام الحكومة السعودية بالسماح لهذه التبادلات أو تشجيعها، يُشير إلى أنها تسعى إلى أقلمة الرأي العام بالمملكة، مع المزيد من العلاقات المفتوحة مع إسرائيل. وبدأت الاستراتيجية في العمل بالفعل؛ ففي استطلاع أجراه “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” عام 2017، وافق ثلثا المجيبين السعوديين على أنه “يجب على الدول العربية أن تلعب دورا جديدا في محادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، وأن تقدم للجانبين حوافز لاتخاذ المزيد من المواقف المعتدلة”. وبالمثل، يوافق نحو 20% إلى 25% من المصريين والأردنيين والإماراتيين والسعوديين “إلى حد ما” على أن الدول العربية يجب أن تعمل مع إسرائيل، حتى عندما لا يأتي السؤال على ذكر القضية الفلسطينية.
في جانب لابد من الإضاءة عليه، حيث أنه وبعد أيام، ومع اقتراب ذكرى “المحرقة اليهودية”، سيجتمع عدد من زعماء العالم في معسكر الاعتقال النازي السابق آوشفيتس في بولندا، وبحسب المعلومات فإن هناك شخص مقرب من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، سيُلقي خطاب ضمن هذه المناسبة، وهذا يشي صراحة إلى تبني واضح لعملية التطبيع، بل والتقارب أكثر فأكثر مع اسرائيل.
وفي ذات الإطار، ففي أبريل/نيسان 2018، أثار ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” موجات من الجدل عندما حث القادة الفلسطينيين على “قبول السلام مع إسرائيل”، محذراً من أنهم يجب أن يقبلوا بمقترحات السلام أو أن “يصمتوا”. ويبدو أن تعليقات ولي العهد غير العادية تشير إلى أن السعوديين كانوا على استعداد للتحرك نحو التطبيع مع إسرائيل دون انتظار الفلسطينيين. ولكن هذا لم يحدث. وطالما لم يحدث تقدم حقيقي في عملية السلام، فسيتوجب على السعودية إبقاء العلاقات المفتوحة مع إسرائيل قيد الانتظار، علناً على الأقل.
في النتيجة، يبدو أن مسار التطبيع يسير بشكل قوي، دونما عوائق أو تأخيرات، حتى أن الانقسامات داخل المجتمع الخليجي، لن تؤثر على حُكام الخليج، فهل نشهد زيارة مرتقبة لشخصيات من العائلة الحاكمة في السعودية إلى إسرائيل، خاصة أن يوم الخميس القادم، سيزور اسرائيل أكثر من 40 زعيماً، في إطار مناسبة “محرقة اليهود”؟، وهل سيكون محمد بن سلمان من ضمن هذه الشخصيات؟.