وعلى هذا فلن يُتاح لي أن ازور “القدس الشريف” مرة أخرى، علماً أنني المرة اليتيمة التي “لمحت” فيها القدس كانت مع انعقاد الجلسة الأولى للمجلس الوطني الذي انشأته منظمة التحرير الوطني الفلسطيني، وكان يرئسها آنذاك الراحل احمد الشقيري.
كان ذلك في 15 ايار 1964… وقد التقيت في مطار بيروت المبدع الراحل غسان كنفاني، وكان ـ يومها ـ عضواً (أي نائبا) في ذلك المجلس.
فرح كلانا بالمصادفة، وصعدنا معاً إلى طائرة الداكوتا الصغيرة في الطريق إلى عمَّان.. وطفق واحدنا يراهن الآخر انه سيُمنع من زيارة القدس.
وصلت بنا الطائرة إلى مطار عمان، وكان، بعد، عبارة عن “هنغار” ضخم من الصفيح، والى جانبه مبنى للأمن، وقاعة وصول محدودة المساحة. تقدمنا بجوازي سفرنا فأمرنا الضابط بأن نقف جانباً، فوقفنا، وعندما انتهى مما بين يديه نادى احد الجنود وقال لنا: اتبعوه!.. فتبعناه، فاذا به يخرج بنا من المطار ويتقدمنا نحو سيارة رانج عسكرية، ويأمرنا بأن نصعد اليها… فسأله غسان: ولكن اخبرنا اولاً إلى اين؟!
قال بلهجة الامر: إلى الرمتا.. (على الحدود الاردنية ـ السورية)
قال غسان: ولكنني محكوم بالإعدام في دمشق .. ولن اذهب اليها الآن لأواجه هذا الحكم..
كان طبيعيا أن اتضامن مع غسان، خصوصاً وانني ممنوع من دخول “البر السوري”.
ارتبك الرقيب، ولم يعرف كيف يتصرف، فعدنا معه إلى القاعة الصغيرة للدخول لنجد أن الركاب قد انصرفوا وبقيت حقيبتانا عند باب الدخول.
بعد حوالي نصف ساعة، وصل “العقيد”، فروى له الرقيب حكايتنا، بينما هو يهز برأسه، قبل أن يصرخ: يا صخر..
ودخل “الرقيب صخر” بقامته الفارعة وعينيه الزرقاوين وشعره الاشقر، فوقف متأهبا ليسمع العقيد يأمره: خذهما إلى المخابرات في عمان..
رفع الرقيب يمناه بالتحية.. ثم خفضها وتوجه إلى العقيد سائلاً: وبيش ارجع سيدي؟!
قال العقيد: دبر راسك! انشاء الله ترجع بصاروخ؟
دارت عينا الرقيب الذي رجحنا أن يكون من بقايا السلاحقة لزرقة عينيه وبياض سحنته وشعره الاشقر، ثم رد قائلاً، بعد لحظة تخلينا خلالها انه يتابع مسار “صاروخ العقيد”، قبل أن يجيب بصوته العالي: لا والله، سيدي، بصاروخ ماني راجع..
انتهى الامر بان تعهدنا بان ندفع له نفقة عودته بالسيارة.. وهكذا تقدمنا فصحبنا إلى مديرية المخابرات.
هناك، سمحوا لنا بأن ننام في فندق قريب. وصحبنا شرطي قبع في الخارج بعدما طلب منا كرسيا.. لينام عليه.
اول ما فكرنا فيه بعد ما بتنا داخل الغرفة. الاتصال ببيروت..
تحدث غسان، بداية، مع المحرر المناوب في جريدة “المحرر” التي كان يكتب افتتاحيتها ليطلب اليه أن يحذف من نهايتها “القدس” التي كان كتبها إلى جانب اسمه.. ورفض المحرر حتى صرخ به: شيل الاسم وبس..
وحين اعطاني السماعة لأتحدث مع دار الصياد، كانت “الحرارة” قد انقطعت.. وبعد دقائق، دخل علينا مدير الفندق ليبلغنا أن “الامن” قد قطع الحرارة عن “المربع” الذي يقع فيه الفندق!
امضينا الوقت في الثرثرة.. وعند الخامسة صباحاً قرع علينا “الحارس” الباب صارخاً: هيا، تعالوا لآخذكم إلى المطار!
كان خط سير الطائرة في العودة: عمان ـ القدس ـ بيروت..
فرحنا، وقال غسان: سنجدهم، لا بد، ينتظرون اعضاء المجلس الوطني في مطار القدس..
في مطار عمان وجدنا اربعة من رجال الامن في انتظارنا، ولقد صعد اثنان منهم معنا إلى الطائرة، وربطوا لنا احزمة مقعدينا ثم ترجلا..
وصلنا فضاء القدس، فأخذنا نتأملها من الجو وقد ترقرقت في عيوننا الدموع… اللهفة والشوق إلى مدينة الاقصى “حيث صلى عمر” خارج الكنيسة حتى لا يأخذها المسلمون.
هبطت الطائرة فتكرر وقائع الاستقبال في مطار عمان: رجال الشرطة ينتظروننا ويقودوننا إلى صالة الترانزيت، في انتظار الطائرة التي ستعود بنا إلى بيروت.
لمح غسان كنفاني هاتفاً معلقاً بأحد الاعمدة في الصالة، فقال لي: شاغل رجل المخابرات الجالس هنا يتشاغل بقراءة صحيفة عتيقة.
لم تنجح محاولتي بإشغاله.. ولا نجحت محاولات غسان مع الهاتف المعلق..
.. وحين علا الصوت ينادي الركاب بالتوجه إلى الطائرة المتوجهة إلى.. بيروت، مشينا نحوها نتعثر بتنهدات الحسرة لأننا حرمنا من أن نرى القدس.. ونحن عند بابها!
طلال سلمان- رئيس تحرير صحيفة السفير- المقال من رأي اليوم