الميزة الوحيدة لإسرائيل أنها أحسنت اختيار مكانها فى المنطقة العربية الرخوة ثم حرصت على تطويع المنطقة من خلال مراكز التأثير فيها. ذلك أن شعور إسرائيل دائماً بأنها قامت على الغصب وأن القوة بكل أصنافها هى التى تحمى الغصب، ولذلك فهى شديدة الحساسية لمصادر تهديد الغصب من أى مصدر، وتعتمد على حسها وحدها فى تحديد مصادر الخطر ودرجته، كما أنها لديها قرون استشعار بالخطر حتى قبل أن يتشكل. ولذلك فإن أجراس الخطر لديها عالية الصوت، وعندما ترصد رنين الأجراس ولو همسا، فإنها لا تنتظر بل تدرس الخطط الكفيلة باقتلاع مصدر الخطر. على الجانب الآخر يشعر العرب بالأمان والاسترخاء ولايقدرون مدى الخطر الذى يحيق بهم إلا بعد أن يحل، وحتى إذا حل بهم، فإنهم لا ينتبهون إلى أن كل خطر عليهم لابد أن يكون لإسرائيل يد فيه قل أو كثر.
وأجراس الخطر عند إسرائيل بالغة الحساسية تهزها النسائم ولا تحتاج إلى عواصف ورياح . تحضرنى فى هذه المناسبة برنامج إسرائيل لإبادة العرق الفلسطينى بكل صور الإبادة بدءاً بالأطفال والشباب وشاملاً كل الأعمار، بالاعتقال للعمر والصحة والاقتلاع من الحياة، بالقتل المباشر والاغتيال، بالقهر والإحراق حياً، بإبادة وسائل العيش والبقاء، بالقهر وتمزيق الصفوف، ولكن الكل مجمع على برنامج الإبادة لأن إسرائيل تريد الأرض.
من ناحية أخرى، تريد إسرائيل تأمين البيئة الدولية والإقليمية لكى يسير برنامج الإبادة باطمئنان دون توقف أو اعتراض، وتبادر إلى اقتلاع النذر الأولى للخطر وهى فى مهدها، كما تستطيع أن ترى بوضوح الفرق بين المكاسب العاجلة والأرباح الاستراتيجية الآجلة. ففى شأن معاهدة السلام مع مصر كتب أحد المؤرخين اليهود وكان وزيرا للخارجية فى إحدى الدوريات الأمريكية أن إسرائيل ولدت مع معاهدة السلام وليس عام 1948، اذ ما قيمة الميلاد المحاصر من مصر والمحكموم عليه بالموت خنقا وعزلة فى منطقة تقودها أكبر وأهم الدول العربية، لقد انفتح الطريق إلى مصر وفى مصر ومنها إلى العالم العربى وما بعده، والمقابل هو إعادة سيناء مكبلة وهى فى كل الأحوال، ردها شراء لمصر وإرادتها، وفى النهاية تكسب مصر كلها بما فيها سيناء. وأكد المحللون الإسرائيليون أن رد سيناء بقيود أسعد المصريين وأكبر السادات الذى انتظر المصريون أن يترجم نصره فى أكتوبر إلى مقابل مباشر فى وسائل المعيشة، ولاعلاقة للشعب بالبعد الاستراتيجى، فصفقة السلام هى مقايضة العاجل بالآجل. كما أكدوا أن المعاهدة فتحت مصر أمام إسرائيل لتقويض قوتها.
مثالان بارزان على أجراس الخطر عند إسرائيل.
المثال الأول هو أن إسرائيل وعلى لسان شارون فى مذكراته المنشورة بالعربية عام 1992 والمنشور تحليلاً لها فى كتابنا حول الفكر الصهيونى في مذكرات إينشتاين وشارون عام 2003، أن اختراق مصر هو الجائزة الكبرى مهما كانت الأثمان العاجلة التى سرقتها إسرائيل من مصر وهى احتلال سيناء عدوانا وتخطيطاً فى إطار خطة بعيدة الأمد نجحت إسرائيل نجاحاً باهرا فيها طوال أربعة عقود. فقد أدركت إسرائيل أن أهم دروس حرب أكتوبر 1973 هو خطورة مصر وجيشها إذا استفاقت قيادتها فاحتفلت بالسادات بطلا للحرب، وأودت به بطلا للسلام الإسرائيلى رغم أن البعض يرى أن مصر هى التى كسبت فى الحرب والسلام واستردت سيناء ولو لم يتم ذلك ولوانتظرت التنسيق مع العرب لكان مصير سيناء كمصير الجولان وفلسطين، وهذا تحليل صحيح من الناحية التكتيكية لكنه خاطئ من الناحية الاستراتيجية على تفصيل لا مجال له فى هذا المقام. وضعت إسرائيل وواشنطن خطتها الطويلة الأجل للاستيلاء على الإرادة المصرية والتحسب من الجيش الذى أدركت الدولتان أنه فى مصر أداة الحرب ضد إسرائيل والجيش فى الداخل هو الذى يهيمن على الحكم، فإذا كانت إسرائيل جيش لبس ثوب الدولة، فإنها تنظر إلى مصر الدولة على أنها الجيش مصدر السلطة والقرار، ولذلك وضعت الخطة لاستنزاف الجيش، واستلاب إرادة الحكم، ولذلك كان كل همهم خلال يناير 2011، وأحداث يوليو 2013 التزام النظام أيا كان اسمه برمز هذه الخطة وهى معاهدة السلام، الإسم الرمزى لهيمنة إسرائيل واختراق مصر، لولا أن إسرائيل لاتزال غير مطمئنة للمصريين ولذلك تعتبر مصر رغم كل ذلك “عدواً”. كان أداء الجيش والحكم خلال أكتوبر 1973 نذيرا خطيراً لإسرائيل خططت لما يتطلبه الخطر وبعد 6 سنوات كان الحل فى معاهدة السلام لسلخ مصر عن محيطها تمهيدا للهيمنة على بقية العالم العربى ساحة مصر الطبيعية والإقليمية، فتحولت مصر من جمع العرب ضد المشروع الصهيونى إلى جمع العرب فى محراب هذا المشروع، ولكن الوضع قد ينقلب فى أية لحظة!.
أما المثال الثانى فهو موقف إسرائيل من المقاومة. فقد أدركت إسرائيل ودق ناقوس الخطر عندها عندما فشلت فى اختراق عبد الناصر وراقبت تصعيده ضدها فى الوعى العربى العام، وبشكل أخص عندما شجع عبدالناصر على قيام المقاومة المسلحة الفلسطينية، لأن أى مقاومة حتى لو كانت ثقافية فإنها مقاومة لأساليب المشروع الصهيونى فى الانتشار. أما المقاومة من جانب الفلسطينيين بالذات، فالامر مختلف جذرياً، ذلك أن مناط هذا المشروع هو إبادة صاحب الحق حتى يختفى الحق نفسه وتقوم بحوالته على اليهود، فيحل اليهود فى الجسد العربى محل المكون الفلسطينى. وكان رد إسرائيل على المقاومة الفلسطينية توجيه الضربات للأردن ولبنان ليختار بين خيار دعم المقاومة، وبين الردع الإسرائيلى، حتى صارت لبنان أكثر المتضررين من الصراع رغم أنها ليست طرفا فعلياً فيه، ولم توقع الهدنة فى رودس مع إسرائيل عام 1949. أما مصر، فقد أعدت لها إسرائيل ضربة قاصمة للقيادة والمشروع المناهض للصهيونية وللجيش المصرى، للهزيمة الشاملة عام 1967 التى أدت إلى قعود مصر حتى الآن، وهو قعود قننته معاهدة السلام.
ولما كان الجسد العربى بعد هزيمة مصر 1967 ونفرتها عام 1973 بمساعدة العرب، لم يستسلم للمشروع الصهيونى، فقد ظهرت مقاومة شرسة لهذا المشروع تعويضاً عن فشل المواجهات العسكرية الرسمية وقبل أن تأكل الحشرة الصهيونية “النسأة العربية”، فتظل الجيوش واقفة بميزانيات هائلة، ولكن القدرات العربية موجهة إلى أى شئ إلا إسرائيل. ظهرت المقاومة فى لبنان بعد احتلال بيروت فظهر حزب الله، عام 1982، ومعه إيران كطرف مهم فى الصراع ضدإسرائيل لتحل محل مصر التى خرجت بالمعاهدة من حلبة الصراع فى فلسطين ثم ظهرت حماس عام 1987 فى الانتفاضة الأولى بدعم إيرانى أيضاً، مما أدى إلى التماس بين إيران والسعودية فى هذه المساحة الخطرة، ويبدو أن دخول إيران أو جس السعودية الداعم الرئيسي ماليا للفلسطينيين، فصارت المقاومة من هذه الزاوية جزءا من الصراع الإيرانى السعودى، لصالح إسرائيل. وقد دقت أجراس الخطر من إيران وحزب الله معا منذ تمكن الحزب من طرد إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 بلا أى مقابل أو ميزة لإسرائيل واضطر عملاء إسرائيل فى جيش لبنان الجنوبى إلى الفرار إلى داخل إسرائيل. وكانت تلك الواقعة سببا كافيا لضرب جرس الإنذار عندها بضرورة التخلص من حزب الله، وقد حاولت ذلك بكل الطرق، فشنت هجوما شاملاً على لبنان عام 2006 وحصلت بقرار مجلس الأمن 1701 علي مالم تحصل عليه فى القتال، ولكن بقيت المشكلة وهى أن حزب الله هو الوحيد الذى يفهم طبيعة المشروع وهو يملك وسائل القوة، ثم أن المقاومة فى لبنان وغزة مقاومة إسلامية كما أنها مقاومة تمثل السنة والشيعة، ولذلك فتحت إسرائيل الجبهة السورية أمام جحافل التطرف باسم الإسلام وساعدت أوضاع العراق على الفتنة الشيعية السنية التى زرعتها واشنطن فى العراق عام 2003 كمشروع أساسي للاحتلال. واليوم أدى الوضع السورى إلى تورط إيران وحزب الله فى صراع القوى المتطرفة السنية وكأنه صراع دينى شيعى سنى، رغم أنه صراع هدفه القضاء على المقاومة، كما غادرت حماس دمشق، وضعفت مصادر دعمها، ثم جاءت تطورات الساحة المصرية، فكانت عمليات الإبادة فى غزة محنة أخرى للمقاومة واختبارا لأثر كل تلك العوامل فى شلل المقاومة. هكذا صار حزب الله يدافع عن الساحة اللبنانية ضد القاعدة وداعش، ولا تزال عرسال اللبنانية ساحة تهديد للدولة اللبنانية وتنتظر توريط حزب الله، كما أن الجيش السورى تم توريطه مع معارضة سلحها الخليج مع الجماعات المتطرفة، ولم تعد القضية صراعا بين الحاكم والمحكوم فى سوريا من أجل الديمقراطية، لأن الدول الضالعة هى نماذج رفيعة فى مضادات الديمقراطية والاستقرار. وكان العدوان على غزة مناسبة جديدة للقضاء على المقاومة وارباك الساحة الفلسطينية وهدم التقارب بين فتح وحماس، ثم نزع سلاح المقاومة.
ومعلوم أن الساحة السورية التى أضعفت المقاومة الفلسطينية أشعلتها الدول المناهضة لإيران، وذلك لاستنزافها فى سوريا ولبنان وكذلك استنزاف حزب الله وعزل حماس. وهكذا كانت الساحة السورية المكافأة الكبرى لخطة إسرائيل وواشنطن ولكن استخدام داعش والقاعدة وفروعها من مسميات يحقق لإسرائيل وواشنطن أهم المزايا وهو استنزاف العرب وتقطيع أوصالهم وهزيمة الإسلام فى الشرق تبريراً لضربه فى الغرب وانصراف الجميع لخدمة المشروع الصهيونى واستمراره وازدهاره وتلك ثمره الحساسية الإسرائيلية وناقوس الخطر الحساس الذى تعيش عليه إسرائيل، وتفاهة أعدائها المفترضين.
وأخيراً، بدلا من أن تصبح معركة أكتوبر مقدمة للقضاء على المشروع الصهيونى. تحولت بالسلام إلى قضاء مبرم على مقومات العداء لهذا المشروع، وتمكين للمشروع وهزيمة أعدائه، فلا تزدهر فى المنطقة سوى إسرائيل التى يقول الغرب بكل فخر (صحيح للأسف) إنها النموذج الوحيد للديمقراطية والاستقرار فى وسط إقليمى يضج بالفوضى والتطرف والإرهاب.
السفير د. عبدالله الأشعل-
*مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق والمقال من رأي اليوم