برلمان إيراني متشدّد لاستراتيجية “معاقبة” ترامب/ عبدالوهاب بدرخان
على رغم تغنّي بعضٌ من النظام الإيراني بما يسمّيه “احترام التعدّدية” في المجتمع، فإن التحكّم بالترشيح لانتخابات يوم الجمعة الماضي جعلها عملياً منافسة بين أعضاء الحزب الواحد الأوحد. وكان مجلس صيانة الدستور واضحاً في أنه استبعد المرشحين “الإصلاحيين” لمصلحة أولئك الموثوق في ولائهم للولي الفقيه والمقبولين لدى قادة الحرس الثوري.
لم يكن المطلوب متشدّدين فحسب بل متشدّدين متناغمين في تشدّدهم، وفي ذلك ما فيه من مؤشرات للمرحلة المقبلة. فالنظام لا يجد خياراً آخر غير التصلّب في مواقفه وشروطه، لذلك أخرج “الدولة العميقة” الى العلن، وما حاجته إليها في هذا الظرف إلا لإدراكه أن الأيام الصعبة آتية وأنه في أزمة داخلية هي الأسوأ منذ نشوئه. لذلك لم تعد تنفع ابتسامات محمد جواد ظريف وبهلوانياته الديبلوماسية، ولا الرمادية المتعرّجة لحسن روحاني الذي سيفقد منصبه السنة المقبلة. كان الرجلان مفيدين متى أرادت إدارة دونالد ترامب أن تليّن ضغوطها القصوى أو أن تمدّ جزرةً ما الى طهران، غير أن هذا الاختبار فشل وانتهى.
لن يُمنع النقاش في مجلس الشورى الجديد لكنه يجب أن يبقى في إطار “الثورة” ومصطلحاتها وصوتها الزاعق. وللمجلس وظيفة رئيسية، فعلى أعضائه أن يعملوا في مناطقهم لكتم النقمة المتعاظمة واستباق أي هبّة أو انتفاضة. وهذا هو فحوى الرسالة التي أُطلقت من صناديق الاقتراع: إذا كانت الاحتجاجات أحرقت صور المرشد ووصفته بالدكتاتور مطالبةً برحيله فإن الانتخابات الصوَرية ونتائجها هُندستا على النحو الذي يبرهن أن “شعبيته” لا تزال عالية، وبالتالي فإن المتظاهرين لم يكونوا سوى “عصابات” كما وصفها أقطاب النظام.
الوظيفة الأخرى للبرلمان أن يواكب تشدّد المرشد و”الحرس” في المواجهة مع الولايات المتحدة، وإذا كانت واشنطن لا تزال تراهن سرّاً أو علناً على “الإصلاحيين” أو تريد استنهاض “المعتدلين” فهؤلاء لم يُمنعوا فقط من الترشّح بل خُنقت أصواتهم، ولعل النظام أراد إبلاغ مَن يلزم أنهم كانوا “كذبة” أو “خدعة” وانتهت. فأي خلاصة يمكن أن تُستنتج من نتائج الاقتراع ستفيد بأن كل الكلام عن تفاوض مع الولايات المتحدة ليس وارداً في حسابات طهران. لكن الخاسر هنا هو الشعب، أما المخطئ فهو النظام لأنه يديم العقوبات ويفاقم الحاجة الى التنمية والتطوير في البلد ولا يجيب عن التوقّعات المستقبلية إلا بالأوهام. من الواضح أن النظام يفضّل لعق جروحه لكسر “استراتيجية ترامب” التي استهدفت ارغام إيران على التفاوض بشروطه النووية وغير النووية. والواضح أيضاً أن طهران أدركت أن رضوخها لهذه الاستراتيجية سيعني في نهاية المطاف تغييراً تلقائياً للنظام وربما سقوطه.
واقعياً، انصرمت الفترة الذهبية للنظام، وبالمعايير التاريخية لم يعد في إمكانه أن يستعيد أمجاداً أمست وراءه بل دخل مرحلة استهلاك أرصدتها. بدّد عملياً كل إنجازاته الداخلية لتقتصر مقوّماته الآن على ترسانة أسلحة و”حرس” مؤدلج، أما الإنجازات الخارجية فتتمثّل بميليشيات مذهبية مهووسة وبعقيدة قتالية متهوّرة. كل ذلك يشكّل عنصر قوّة لا يُستهان به لكن مضت الأيام التي كان خلالها محصّناً ولا يواجه عقبات تُذكر. والأكيد أن هذه القوّة نجحت في صنع حاضر تخريبي مرعب يستهتر بأمن الشعوب وبكل القيم والأخلاقيات، إلّا أنه أخفق في التحسّب لاستحقاقات المستقبل، داخل إيران فضلاً عن عواصم “الإمبراطورية” المفترضة.
ربما تكون طهران أقلعت عن المراهنة على رحيل ترامب وفشله في التجديد لنفسه، لكن ضربة اغتيال قاسم سليماني أوضحت لها السبيل الذي يجب سلوكه، سواء للثأر للرجل الأهم في نظامها بعد المرشد أو لاستخدام تغييبه المفاجئ وسيلة لشحذ استراتيجية ثابتة لديها وهي “طرد الاميركيين” من المنطقة. لم تستطع ذلك وهي بكامل عافيتها الاقتصادية والعسكرية، غير أنها ستحاول الإيحاء خلال شهور الانتظار الطويل المقبلة بأنها في صدد تفعيل هذا الهدف التاريخي. لديها ميليشيات العراق الجاهزة للتحرّك أيّاً تكن الخسائر، ولديها ميليشيات الحوثي في اليمن على رغم تهالكها وعيشها على نهب الشعب الواقع تحت سطوة اجرامها، ولديها رهانات على صدام لن يحدث بين الروس والأميركيين في سورية، ولديها أخيراً “حزب الله” اللبناني وورقة “القضاء على إسرائيل” مع أن قائد “الحرس” يعتبره مؤجّلاً…
ثمة إشارات في المحادثات الأخيرة لمايك بومبيو في السعودية وتناولها غير العادي لـ “الشراكة الاستراتيجية” الى أن الولايات المتحدة لا تقلل من شأن هذا التهديد الإيراني، خصوصاً أنه – عدا ثأريته – يرمي: أولاً الى اختبار التعزيزات الأميركية – السعودية التي أعقبت ضرب منشآت “أرامكو”، وثانياً الى زعزعة استراتيجية “الضغوط القصوى” التي قاربت ذروتها وتريد إيران الردّ عليها، وثالثاً الى التأثير مباشرة في الحظوظ الانتخابية لترامب. ولا شك أن دفع الرئيس الأميركي الى خطوات عسكرية حاول دائماً تجنبها يمكن أن ينعكس على المتردّدين بشأن التصويت له.
في المقابل، لا بدّ أن تبتّ طهران أمرين. الأول يتعلّق بما إذا كانت قادرة على تحمّل العقوبات لسنتين مقبلتَين، فحتى لو لم يُنتخب ترامب لولاية ثانية وفاز خصمه الديموقراطي لا يمكنها أن تتوقع رفعاً تلقائياً للعقوبات، ومع افتراض تخفيفها فإن أي رئيس لن يستطيع التخلّي كليّاً عن الشروط المطروحة للمفاوضات والتعديلات المطلوبة للاتفاق النووي. أما الأمر الآخر الذي دخل حساباتها منذ اغتيال سليماني فهو مدى استعدادها لتحمّل مواجهة مع اميركا في حال أصبحت أراضيها نفسها معرّضة، خصوصاً أنها اختبرت أخيراً كيف أن الاعتماد على الميليشيات الموالية مهما كان فاعلاً لم يعد خياراً يعفيها من النتائج والارتدادات.