لعنة الجغرافیا ۔فی الشرق الاوسط / محمد سعد عبد اللطیف
قيل دوما أن الجغرافیا أم العلوم ، وإن السياسة هي ابنة التاريخ، والتاريخ هو ابن الجغرافيا، وقیل أن الجغرافيا ثابتة لا تتغير ،،
وسواء كانت الجغرافيا الطبيعية أو الجغرافيا السياسية “الجیوسیاسیة، فإن المقولة في الحالتين خاطئة، فحتى الجغرافيا الطبيعية، بمحيطاتها وبحارها وجبالها وصحاريها وسهولها ، ليست ثابتة ولم تكن يوما ثابتة، بل لعلها كانت تابعة دوما للسياسة وليس العكس ،،
تبدو الصورة الحدثية للخریطة السیاسیة للعالم مألوفةً على سكانه داخل هذه الخرائط مرسومة الحدود، لدرجة أنها لا تثير التساؤل عن أصلها وكيفية صنعها.
وتغيُّرُ الخرائط الجغرافية تبعا لتغير خرائط القوى السياسية ليس أمرا جديداً، بل لقد كانت الجغرافيا في تغير مستمر دوما حسب راسميها، والمراكزِ الذي يعتمدونه في انطلاقهم لرسمها ،، فقد دخلت ضمن بديهيات الأمور التي لا يتبادر للذهن التفكير فيها، وإن كان هذا في بقية العالم أمرًا أصبح مألوفًا هذا الشکل ، بعد الحرب العالمیة الثانیة ، الذي أنتجته الأحداث الأوروبية على دول التجزئة. عقب إتفاقیة” سایکس بیکو”
إن إنهيار الحدود الجغرافيّة بين الدول وسقوط المعادلات التي رسمتها اتفاقية (سايكس – بيكو ) الشهيرة يُنذر بتحولات غير مسبوقة على مستوى المنطقة برمتها لا سيّما أن هذه المتغيرات الدراماتيكيّة ليست وليدة عوامل سياسيّة طبيعيّة نتجت عن اتفاقات أو تفاهمات بين الدول أسوةً بالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، الذي أعاد رسم هويته السياسية من خلال ترفع الأعضاء عن مكتسبات ذاتيّة وطنيّة للمصلحة العامة والمشتركة.
وتتزامن هذه الحقبة الجديدة من نزاعات الشرق الأوسط مع تفكّك النظام العالمي. ففي مرحلة “ما بعد الحرب الباردة” التي نعيشها اليوم، لم يعد المجتمع الدولي
قادراً على الاستجابة بشكلٍ فعّال للنزاعات الدولية، ناهيك مع تراجع دور الأمؒم المُتحدة فی فض النزاعات الإقلیمیة المنؑوطة بها فی حفظ السلام وتهدید السؑلم الإجتماعي العالمي ، لم تکن لها دور فی وقف نزیف الدم علی الخریطة السیاسیة فی الشرق الأوسط من حروب أهلیة ۔۔
وسط هذه التطورات الحالیة فی سوریا ، والعراق ، والیمن ، ولیبیا ،، إن النزاعات في الشرق الأوسط. تُعنى المشكلة الأولى بترسيم الحدود أو مبدأ عدم قابلية تقسيم الدولة). فنظراً إلى أن الحروب الحديثة بين الدول تنتهي في غالب الأحيان من دون المساس بوحدة وسلامة أراضيها کما حدث فی حرب “إیران والعراق” علی ترسیم الحدود ، لذلك کان من الصعب ۔ إيجاد حلول وسط تتأرجح بين الانتصار والهزيمة فی فترات الحرب التی استمرت ” 8 سنوات ” إن الصراعات الداخلية والحروب الأهلیة فی العراق خلق شکل جغرافي جدید من المطالبة بالتقسيم بسبب استحالة إحداث فصلٍ جغرافي بين طرفَي النزاع فی شمال العراق بسبب تداخل الدیمغرافیه والعرق والدین ، فيجب في هذه الحالة أن يحصل أحد الطرفين على كل شيء تقريباً، إذ لايمكن أن يكون هناك حكومتان لدولة واحدة” (کما فی الحالة العراقیة حکومة کردستان وحکومة بغداد کذلك الحالة اللیبیة والیمنیة )
إلى أن مشكلة ترسيم الحدود تُعتبر حادّة في حالة النزاعات التي ترسم معالمها الانقسامات ( الإثنية والطائفية ) لذا، طالما أن احتمال التقسيم الرسمي لدول الشرق الأوسط لايزال يلقى معارضة إقليمية ودولية قوية، سيكون من الصعب تفادي الحصيلة الصفرية ودلیل علی ذلك صفقة القرن . وقد لاتكون التسويات المتفاوَض بشأنها والتي تحافظ على سيادة الدولة ممكنة إلا من خلال تحقيق عملية انتقال السلطة السياسية عبر تعزيز الحكم الذاتي المحلّي. وهذا ما طرح فی مفاوضات جنیف بشآن الوضع السوري ۔بطرح نموذج یوغسلافیا فی تقسیم سوریا ،
هذا الانهيار على المستوى العربي يعيد رسم الحدود الجغرافيّة بالدم وليس ” بحبر ” صحيحٌ أن الأهداف الاستعماريّة في مطلع القرن العشرين لم تكن تبحث في تلك التقسيمات السياسيّة إلا عن مصالحها المباشرة والدليل على ذلك هو مساعدتها الحثيثة لزرع الكيان الإسرائيلي في قلب فلسطين والمنطقة العربية، ولكن سرعان ما تحوّلت هذه الحدود إلى أمرٍ واقع تولدت عنه ممارسات وعادات وتقاليد وأعراف سياسيّة ومجتمعيّة وشعبيّة أدت إلى تمتع كل الكيانات العربيّة بخصوصيات لم يعد التراجع عنها بالأمر السهل لا سيّما إذا كان هذا التراجع يتم بالقوة والعنف ولمصلحة مشاريع إیدولوجیة وأطماع إقلیمیة ودولیة للدول العربیة ،،هذا التقسيم في الحقيقة تقسيم سياسي بحت، يضع الغرب نفسه فيه في مواجهة مع الشرق طمعا بمصالح سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى. وستأخذ هذه المواجهة غير السلمية في غالب الأحيان شكلا أكثر نبلا في عيون التاريخ والشعوب الأوربية لو بررتها ( الجغرافيا المزيفة ) كصراع حتمي لا مفر منه، ولو جعلتها الفروق الثقافية والدينية بمثابة حرب مقدسة للدفاع عن الهوية ،،وهو يقننا من مرونة الجغرافيا في خدمة السياسة، سيجعلنا حذرين جدا من التسليم بالمصطلاحات الجغرافية. كما أن الترويجَ لحالة من الصراع بين الشرق الذي كثيرا ما يُستخدَم مرادفاً ( جغرافياً عن العرب والإسلام ) والغرب الذي يعني دول العالم الأول بهويتها ومرجعيتها المسيحية، على أنه صراعٌ تحتمه الجغرافيا أمر يحتاج إلى إعادة نظر، حيث تنقضه عشرات الوقائع والأزمات التي يصطلي المسلمون في جحيمها. فالصين مثلا التي تضطهد ملايين المسلمين في إقليم شنغيانغ تقع إلى الشرق منا، وكذلك ميانمار، وثمة أيضا روسيا الدولة العابرة للقارات والتي غرست خنجرها في العالم العربي، وثم إبادة تعرض لها المسلمون في إفريقيا الوسطى، وهناك إسرائيل التي تقع في قلبنا الذي أسموه “الشرق الأوسط”، وكلهم لا ينتمون للغرب بالمفهوم المراد لنا برمجة عقولنا على جغرافيته. وعندما یتم التلاعب بالجغرافیا فی فترات السیطرة والقوة ، ففی عام 1884م عقد ” مٶتمر میریدیان ” الدولي بتحديد خط الطول “جرينيتش ” كخط فاصل بين شرق الأرض وغربها. لم يكن المقصود من ذلك تسهيل إجراءات التجارة والملاحة وقياس الوقت فقط، بل يحمل الأمر بعدا سياسيا واضحا، يتمثل باعتبار بريطانيا العظمي، نفسها نقطة صفر للجغرافيا ومركزا للعالم تقاس الدول تبعا له شرقاً وغرباً. وهو تقسیم سیاسي بحت ۔وهذا ما يؤكد لنا صحة تغير الجغرافيا تبعا للسياسة. ففی عصر الخلیفة المأمون ، دعي علماء وجغرافیین وفلکیین لوضع خريطة جديدة للعالم، أسفرت عن خريطة تقع بغداد عاصمة الدولة العباسية في مركزها تماما، وتبدو أوروبا فيها صغيرة نسبيا، في حين تمتد إفريقيا وآسيا امتدادا واسعا، وإختفاء وجود قارتي أمريكا وأستراليا فيها، فاختفاؤهما من الخرائط لم يكن يعني فقط عدم اكتشافهما، بل كان يعني أيضا غيابهما عن الخریطة ،إن قدر الشرق الأوسط بما فیهم ترکیا وإیران تجاوزا ، أن يكونوا سكاناً لأكثر مناطق العالم سخونة على مدار التاريخ؛ فمنذ سقوط الدولة العثمانية والشرق الأوسط، على خلاف مناطق كوكبنا الأرضي الأخرى، على صفيح ساخن مستمر السخونة والاشتعال، كلما خبت نار صراع اندلعت نيران صراع آخر، من صراعات الحروب مع المستعمرين الذين تقاسموا تركة «الرجل التركي المريض»، إلى الصراعات والحروب غير المتكافئة بين العرب وإسرائيل حول فلسطين، إلى صراعات القوى الطائفية في لبنان إلى صراع الانقلابات العسكرية إلى حرب صدام مع إيران ثم صراع صدام مع جيرانه الخليجيين ثم الاحتلال الأميركي للعراق إلى صراع إقلیمي إیراني وترکي علی من یقود هذه المنطقة ،، إلى ثورات الربيع العربي وما أحدثته من دمار وفوضى هائلين في سوريا وليبيا، ثم صعود «داعش»، وأخيراً التهديد بحرب أميركية خطيرة ضد النظام الإيراني.
قدر الشرق الأوسط الجميل أن يكون مهد الديانات التوحيدية الثلاث: الإسلام واليهودية والمسيحية، هو أيضاً سبب لأن يكون قدراً من معاناة الصراعات الدينية والمذهبية، وقدر الشرق الأوسط أن يكون حاضناً لحضارات عريقة: الحضارة العربية الإسلامية والفارسية والعثمانية، ومركزاً لطوائف مسيحية متنوعة في كل من لبنان وسوريا ومصر، وحاضناً لملل وأعراق ومذاهب مختلفة كالسنة والشيعة۔ والدروز والآشوريين والصابئة ، والأکراد ، والترکمان ، والعلویین والبربر ،والنویین ،والأرمن ۔والزنج ، والتتار والصقلاب والبشناق والشرکس،والسریالیین ،والکلدنیین ، والازیدیین ، هذا ناهيك عن الهويات العرقية ، هو تنوع مثیرٍ في مفردات لغة الحضارة، ولكنه تحول على نار تحت رماد الخریطة السیاسیه فی الشرق الأوسط المُلتهب إلى كوارث وصراعات ولعنةالجغرافیا ،،
النفط في منطقة الشرق الأوسط، والمقدر بثلثي الاحتياطي العالمي، هو الآخر منحة قد يتحول في بعض الأحيان إلى محنة، جعلته محل تنافس شديد بين الدول المستهلكة وجعل المنطقة كلها في بؤرة هذا التنافس الأن صراع الغاز شرق المتوسط ، (كل ذي نعمة محسود)، ناهيك عن الصراع المتوقع في منطقة الشرق الأوسط على المياه، فی مصر ودول المنبع فی إفریقیا ، وفی الشؒح الماٸی فی العراق وسوریا وهی اكثر المنطقة التي تعتبر الأكثر فقراً بالنسبة إلى الموارد المائية في العالم.
من يسبر حوادث التاريخ في منطقة الشرق الأوسط بالذات سيخرج بمحصلة تؤكد أن المنطقة ستظل ملتهبة بالصراعات السياسية والاقتصادية والطائفية والعسكرية في سلسلة ممتدة في عمق التاريخ.
محمد سعد عبد اللطیف *
کاتب مصري وباحث فی الجغرافیا السیاسیة *