كتاب عربموضوعات رئيسية
الأزمة البيولوجية بين جدلية التفسير العلمي والفلسفي/ سامية بن يحي
بعد الحرب العالميتين أُطلق العنان لقوة العلم، وأضحى العلم «إله العصر» الذي يخلص البشرية من كل الأزمات والعقبات، وهو الكفيل بتفسير كل مبهم، لكن هذا التوصيف والتأله للعلم أثبت عجزه في كثير المحطات التاريخية التي مرت بالإنسان، والحضارة الغربية، بما فيها الأزمة البيولوجية الحالية ” فيروس كورونا covid 19 ومن هنا تثار مجددا الجدلية الأزلية بين قدرة الفلسفة مقابل قدرة العلم على تقديم تفسيرات يتقبلها منطق الفكر البشري واعتقاده الروحي لكل ما يحدث من طفرات في عالمنا المعولم، في هذا الصدد يمكننا أن نتوقف قليلا إلى الوراء بالضبط إلى الطرح الذي قدمه لنا الفيلسوف الألماني Karl Jaspers كارل جاسبرز من خلال مؤلفاته المثيرة للجدل خاصة فيما يتعلق بالتفسيرات الميتافيزيقية والفلسفية، اذ يرى أن العلم ليس شاملا و يتضمن في طياته القصور، والمحدودية، ولا يستطيع أن يكتفي بنفسه، بل أكثر من ذلك إنه محاط بنوع من الإيمان في كل جوانبه؛ فالقوة التي تدفع الإنسان حسب كارل إلى البحث العلمي لا تنتمي إلى مجال العلم ذاته، وإنما هي نوع من الإيمان، والهدف الذي يكتسب الإنسان المعرفةَ العلمية من أجله لا يُسْتَمد من مجال العلم، بل من مجال الإيمان، ويقول جاسبرز في كتابه «الإيمان الفلسفي» “إن الفلسفة يجب أن تُثبت أنها قادرة على الاهتداء إلى الصيغ أو بعث المشاعر الدافقة التي يمكنها أن تنتشر بين الناس”، فهو طالما انتقد الحضارة الغربية التي حولت الإنسان الى آلة انتاجية، محتكما إلى فلسفة الوجود في كتابه الرائد «الموقف الروحي للعصر» Existenzphilosophie الذي ألفه عام 1930 بينما أثار كتابه «القنبلة الذرية ومستقبل الانسانية” عام 1961 Atomic Bomb and the Futu of Humanity ضجة كبيرة، متسائلا كيف ينبغي للبشرية أن تتعامل مع قدرة البشرية على إنهاء الإنسانية بطرق أكثر فاعلية لإبادة بعضها البعض، وقد دفع هذا الانحدار السريع في إمكانية موت الأنواع النووية الحرارية، فالشرط المسبق حسب طرح كارل لكل شيء هو التفكير، والنظر حولنا لمراقبة ما يجري، و تصور الاحتمالات وعواقب الأحداث، والإجراءات لتوضيح الوضع في الاتجاهات التي تظهر، وبالطبع يمكننا القيام بذلك حول أزمة كورونا اليوم وفق جاسبيرز عن طريق استخدام عقلانيتنا حتى اذا لم نتمكن من “اعادة الأعماق النهائية” لكن وفق فلسفة جاسبيرز لا يستطيع العقل أن يمنحنا الوضوح بشكل مطلق، ونحن نختبر مصيبة الأحداث التي يسببها وينفذها البشر – طالما أننا نبدأ عقدًا جديدًا مدركًا تمامًا لهشاشتنا، ليس فقط كأفراد ، ولكن كأنواع اذا سلمنا بواقعية مؤامرة الفيروس الصيني، أو الأمريكي- حيث يجادل التأمليين اليوم بالنظر إلى هذه الحقيقة القاتمة عن فيروس كورونا أن لدينا أزمة وجودية،لأن الناس يدركون مدى هشاشة التفسير العلمي، فلا يمكن إثبات اليأس، ولا الثقة بالمعرفة العقلانية، واستنتاج حتمية المعرفة الكلية، ولا الحجج التي تثق في انتصار الفطرة السليمة، وهو ماجعل جاسبيرز ينتقد في كتابه «الإيمان الفلسفي» الروح العلمية، ويؤكد أنها لا تستطيع أن تستوعب كل جوانب الروح الإنسانية، فعلى الرغم من الخطر الذي يمثله فيروس COVID-19 إلا أن الرواية العالمية كانت مغايرة لدى الكثيرين تمامًا عن حقيقة الفيروس، والهروب إلى التفسيرات الماورائية، فهل تتراجع مثالية العلم الوضعي ؟
حتى لا نكون نمطيين في تحليلنا نحن في عصر طفرة التكنولوجيا، ومع ذلك كثيرا ما نعود لرأب الصدع إلى فطرتنا الأولى و تغلغل الفكر الميتافيزيقي لدى أوساط العامة كلما عجز العقل والعلم عن ايجاد تفسير في وقت عدم اليقين، رغم أن كلا من الميتافيزيقيا والعلوم تحاول شرح ما يوجد في العالم طالما أنهما يسيران معًا بحثًا عن المعرفة، قد يستوقفنا التحليل مرة أخرى أمام جدلية ثانية في الفلسفة المعاصرة بين “الميتافيزيقيا العقلانية” و “الميتافيزيقيا التجاوزية” وهذا ليس موضع تحليلنا الأساسي لكن يمكن اعطاء منحى لفهم أكثر التشوهات الحاصلة في كنه الاعتقاد الذي صاحب أزمة كورونا من خلال هذه الجدلية بأن المذاهب الميتافيزيقية، على الرغم من أنها لم تكن قابلة للتحقق منها تجريبيا ،لأنها دائما غير مقبولة عقلانيا لدى الوضعيين، لكنها قابلة للنقاش، خاصة بعد ظهور الإبستيمولوجيا واثارة مجموعة من الأسئلة التي طرحها الفلاسفة حول مصادر المعرفة، وإمكانيتها والتساؤل أيضا عما إن كانت هناك حواس أخرى غير التي يمتلكها الإنسان، هذا التطور المثمر للميتافيزيقيا جعلها تهتم بـقضايا الانطولوجيا ” علم الوجود”، والإبستيمولوجيا ” نظرية المعرفة”، الميثولوجيا” علم الأساطير” الكوسمولوجيا” علم الكون” وبالتالي فهي ليست مجرد تعبيرات ذاتية وعاطفية بقدر ما أنها تسعى إلى استكشاف ما يمكن أن يكون في الواقع، طالما أن التجربة وحدها لا يمكنها تحديد ما هو فعلي، في غياب تحديد ميتافيزيقي لما هو ممكن، لذا لا بد أن يقودنا بحثنا عن الحقيقة الخفية نحو استفزاز أكثر للعقل، والتعمق في منظورات ما بعد الحداثة وفلاسفة المدرسة النقدية.
رأي اليوم