قرار تأجيل الانتخابات الفلسطينية بين القانون والحسابات الفصائلية/ د. باسم عثمان
أن القرار بتأجيل الانتخابات الفلسطينية(دون تسويغات قانونية ووطنية),شكّل انتكاسة لكل الجهود الوطنية وصدمة حقيقية للرأي العام الفلسطيني ، الذي راهن على أن تكون الانتخابات بمحطاتها الثلاث مدخلا لإنهاء الانقسام واستعادة وحدة النظام السياسي الفلسطيني, وخطوة جوهرية على طريق بناء نظام ديمقراطي تعددي, وتوازنات سياسية جديدة تحيي الأمل لدى الفلسطينيين بفجر سياسي جديد, يُنهي “الثنائية السياسية” التي تحكمت بالمشهد السياسي الفلسطيني لعقود طويلة, وكانت المبررات في تمرير قرار التأجيل “واهية” و”ذريعة” لا تنطلي على احد من متابعي المشهد الفلسطيني وتفاعلاته, وليست مسألة ذات صلة بالشأن الداخلي الفلسطيني وتعقيداته, خاصة وأن قرار التأجيل اعتمد على تنكر الكيان الاسرائيلي للبروتوكول الملحق “باتفاقية أوسلو” بشأن اجراء الانتخابات في مدينة القدس, والذي يحصر حق المشاركة في الانتخابات فقط في بضعة الاف من الفلسطينيين, يدلون بأصواتهم في مراكز بريد إسرائيلية, والذي يحظر ايضا على لجنة الانتخابات المركزية وعلى القوائم الانتخابية وممثليها مجرد التواجد فيها, ويحرم المقدسيين أصلا من حق المشاركة في أية انتخابات فلسطينية ترشيحا وانتخابا ودعاية داخل القدس, ويُحيلهم الى الانتخاب في مراكز الاقتراع في مناطق السلطة خارج المدينة.
من الناحية القانونية:
-لا يجوز للسلطة التنفيذية تأجيل الانتخابات إلا بتوصية من لجنة الانتخابات المركزية، تُقرر فيها تأجيل الانتخابات لفترة تراها مناسبة ولأسباب قاهرة، أما وقد أعلنت لجنة الانتخابات بأنها قادرة على إجراء الانتخابات، فيجب الاستمرار في هذه العملية.
– المادة (115) من قانون الانتخابات عالجت موضوع القدس، إذ تنص على إعداد سجل للناخبين الفلسطينيين في القدس، وعلى أن للجنة الانتخابات الحق في اتخاذ أية إجراءات واتباع أية وسائل تراها مناسبة، لضمان تمكين الناخبين الفلسطينيين من ممارسة حقهم في الاقتراع، وهذه المادة تؤكد تجاوز اتفاق أوسلو، فضلًا عن أن الدستور والقانون يقران بانتهاء أوسلو.
-الطعن في المرسوم لدى محكمة النقض، كون مرسوم التأجيل مخالفًا للدستور والقانون، بغض النظر على ان القضاء الفلسطيني مُسيّس بمحاكمه الإدارية والدستورية، لكنه يبقى خيارا قانونيا وشكلا من اشكال تعبئة وجمهرة الرأي الفلسطيني العام.
-القانون والنظام الأساسي الفلسطيني لا يتضمن في مواده وبنوده, فقرة تخص نائب الرئيس، مثلما تم الإعلان عنه في بعض القوائم الانتخابية، والذي يتطلب اقراره موافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي، لذلك فهو لا يستند إلى أساس قانوني أو دستوري، والهدف منه حل خلافات شخصية داخل الحزب الواحد, او عدم السيطرة على تشكيل القوائم الانتخابية داخل الحزب الواحد وخاصة(حركة فتح)، فهناك قائمتان تشكلتا خارج قائمة الحركة الرسمية، وهما قائمة (المستقبل) بقيادة محمد دحلان وقائمة (الحرية) بقيادة مروان البرغوثي وناصر القدوة، فضلًا عن إصرار البرغوثي على الترشح للانتخابات الرئاسية.
أسباب التأجيل:
– لن يغير جوهريًا من فلسطينية القدس ومن حقوقها الوطنية والتاريخية، وفق كل المعايير الداخلية والدولية، من إجراء الانتخابات في مراكز البريد الإسرائيلية (المهينة للشعب الفلسطيني وتضحياته الجسام) او من عدمها، في الوقت التي يجب العمل على تحويلها الى معركة وطنية مع الاحتلال وبكل السبل والمقاييس، من خلال تثبيت حضورها الوطني في نصرة تاريخها وفلسطينيتها، في الاقتراع في المساجد والكنائس والمؤسسات الفلسطينية والدولية ومقرات الاونروا والأمم المتحدة الممثلة بهيئاتها الحقوقية والإنسانية.
– بعد هبة القدس الوطنية واصرارها على التأكيد على هويتها وفلسطينيتها، في وجه كل القرارات الامريكية والإسرائيلية بهدف تهويدها وطمس هويتها الوطنية، فصيغة الانتخابات في مراكز البريد الإسرائيلية هو الذي يكرس سيادة “إسرائيل” عليها وينعش روح الحياة في صفقة “القرن”.
– فشل الصفقات الثنائية (الوطنية والبينية الداخلية) بخوض الانتخابات، والتي تجعل النتائج مضمونة في التوافق على الرئيس عباس، كمرشح توافقي واحد في الانتخابات الرئاسية.
– تعدد القوائم الانتخابية الوطنية وداخل الحزب الواحد وبدون “تفاهمات حزبية داخلية “، كالراقص على العزف المنفرد، زاد الطين بلة؟!، خصوصًا أن (15) قائمة منها تنتمي لحركة فتح، ومنها قائمة وازنة هي قائمة “الحرية” بقيادة مروان البرغوثي ورئاسة ناصر القدوة، الأمر الذي يجعل قائمة “فتح” الرسمية معرضة لتشتت أصوات جمهورها، ولن تحوز حتمًا على الأغلبية، فضلًا عن التزام قائمة “الحرية” بدعم ترشح البرغوثي للرئاسة.
– ان الحديث على التمسك بخوض الانتخابات بمراكز البريد الإسرائيلية، هي رسالة وثيقة الارتباط ومقدمة للتحلل من قرارات “وقف التعامل مع أوسلو”! ولضمان استئناف مسيرة المفاوضات كخيار أوحد لدى النخبة السياسية السلطوية.
– عدم التوافق الإقليمي والدولي على إجراء الانتخابات الفلسطينية، ورضوخ النخبة السياسية الفلسطينية لهذه الاملاءات.
خلاصة القول والرأي:
للتأجيل تداعيات وخيمة سياسية ووطنية وقانونية وديمقراطية، وسيعمق حالة الإحباط واليأس للشعب الفلسطيني وقواه السياسية والمجتمعية بنخبته السياسية، الامر الذي سيزيد الهوة وانعدام الثقة بين السلطة السياسية والكل الفلسطيني بمجموع شرائحه وفئاته وقواه الوطنية والسياسية، الامر الذي سيفتح الباب على مصراعيه، لتدخل الاحتلال والمحاور الإقليمية والدولية أكثر فأكثر في الشؤون الداخلية الفلسطينية، وتقويض ما تبقى من نقاط القوة في الحالة الفلسطينية ومشروعها الوطني.
لقد دعونا مرارا وتكرارا, بأن الانتخابات الفلسطينية حاجة أساسية لبناء نظام ديمقراطي يحظى بالمشروعية الوطنية والسياسية، كما باتت ضرورة لتجاوز أزمات “الاستعصاء ” الفلسطينية على الصعيدين البنيوي المؤسساتي ومشروعية النظام السياسي الفلسطيني, ومما لا شك فيه أيضا، ان الانتخابات الفلسطينية بالإضافة إلى كونها استحقاقا دستورياً وديمقراطيا، فلا بد لها ان تأتي كنتيجة طبيعية لضرورة وطنية استكملت شروطها الداخلية: في أسس استعادة الوحدة الوطنية وانهاء الانقسام, ومن ثم العمل على تشريع مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني، من خلال التوافق على الحل السياسي واستراتيجيته الوطنية, في إيجاد مخرج وطني لمأزق سياسي وبنيوي عصف بكل مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني وشرعيتها.
في هذا السياق, تكون الانتخابات الفلسطينية جزء من الحل, ونتيجة طبيعية للحل الوطني العام لتحديات الحالة الفلسطينية وتعقيداتها, وليست كل الحل، وليست وسيلة لتقويم المسار السياسي, بل ممكن ان تكون اداة لتكريس الانقسام وتبعاته بغياب الحل السياسي والتنظيمي!، هي الأداة والوسيلة لأهداف وطنية وسياسية وبرنامجية كبرى, وليست هدفاً بحد ذاته، لذلك،تكون عملية اجراء الانتخابات بدون انهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات, والتوافق على رؤية وطنية في اطار الشراكة السياسية – مغامرة غير محسوبة العواقب وقفزة في المجهول، الّا اذا كان الهدف منها إدارة الانقسام وإعادة انتاج الذات المأزومة سياسيا, واستنساخ ” المشهد البديل”و تزيينه ببعض الرتوش والضوضاء الإعلامية و شيء من المشروعية الشعبية امام الرأي العام العالمي والرهان من جديد على المتغيرات الإقليمية والدولية.
ان “التفاهمات الثنائية” بديل عن الحوار الوطني الشامل والفاعل، شأنها ان تكرس نهج “الأبوة ” السياسية واحتكار المسؤولية، وإدارة انتكاسات الحالة الفلسطينية “صورياً”، والامعان في إدارة الظهر لإرادة الجمهور الفلسطيني واغترابه الوطني والسياسي عن حالته الوطنية ومرجعيته السياسية.
ان تجاهل متطلبات النهوض الوطني الفلسطيني والياته، وتجاهل تحديات مشروعه الوطني وقضايا الخلاف الأساسية، بمعزل عن التوافق والاتفاق الوطني العام، سنغرق مجددا في دوامة من الانتكاسات الوطنية، ولن نرتقي بالورقة الفلسطينية الى مستوى المخاطر والتحديات الراهنة، لأن العملية الوطنية ليست انتقائية او تجريبية، بل رزمة كاملة ومتكاملة، والحل في التوافق والاتفاق على استراتيجية وطنية.
اضف الى ذلك, ان حصلت الانتخابات الفلسطينية كخيار وطني(بالتوافق على رؤية وطنية او بدونها), يجب أن تجري في القدس والضفة الفلسطينية وقطاع غزة, وعلى الطريقة الفلسطينية الخالصة, باعتبارهم وحدة جغرافية واحدة غير قابلة للتجزئة ، واعتبار القدس أولوية : وذلك لكونها عاصمة الدولة الفلسطينية, واعتبار اجراء الانتخابات فيها معركة وطنية, لتجديد التأكيد على موقف الشعب الفلسطيني الرافض لكافة الاجراءات الأحادية التي أقدمت عليها سلطات الاحتلال, بهدف تغيير الوضع القانوني للقدس وطمس هويتها الوطنية، كما يمثل هذا الموقف, بمثابة تأكيد جديد على الموقف الفلسطيني الرافض للمواقف والاجراءات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية, باعتبار القدس عاصمة لكيان الاحتلال وما تبعه من إجراء في نقل السفارة الأمريكية إليها.
ان الحالة فلسطينية ومتطلباتها، بحاجة الى ثورة على وقائع وتفاصيل سياسات باتت مسيطرة على العقل القيادي الفلسطيني وفلسفته، تجاه مختلف قضايانا الأساسية والجوهرية، وبهذا السياق، لابد من اعادة تموضع جديد في سياسة النخبة الفلسطينية وفلسفتها، فلسفة تقوم على ديمومة المقاومة وابتداع ادواتها والياتها، ونبذ “فن التكتيك” والمراوغة في احتراف العمل السياسي ودهاليزه، التي اصبحت تُثقل كاهل قضيتنا وتحملها ما لا يمكن احتماله.
لذلك، وقبل الدعوة لانتخابات فلسطينية جديدة، لا بد من حلحلة العوائق التي حالت دون إجرائها حاليًا، وهي حسابات فصائلية داخلية، لأن قطار التغيير انطلق، وهو ما لا يمكن إيقافه أبدًا، والصراع سيستمر بين التجديد والتغيير وبين الفئوية والانتظارية واحتلال المواقع الثابتة، ولهذا، فان تأجيل الانتخابات هو في واقع الأمر تأجيل لمعركة القدس المهددة يومياً بعمليات التهويد والأسرلة والتطهير العرقي، كما يجري هذه الأيام من تهديد عشرات العائلات بالتهجير من حي الشيخ جراح وحي البساتين ووادي الجوز والعيسوية.
في هذا السياق, يجب تحويل الانتخابات في القدس الى معركة سياسية ووطنية, لكسر المعادلة السياسية التي تحاول سلطات الاحتلال فرضها بالقوة على المدينة ، مستلهمين في ذلك العبر والدروس من تجارب خاضها المقدسيون, معززين بدعم وإسناد ومشاركة الكل الفلسطيني في الوطن وفي الشتات, بدءا بانتفاضة البوابات في المسجد الاقصى المبارك في تموز من العام 2017, مرورا بهبة الحفاظ على مصلى باب الرحمة عام 2019, وانتهاء بهبة باب العامود, وهي تجارب كفاحية أثبتت الجماهير الفلسطينية في القدس أنها قادرة على الفوز فيها وعلى دفع العدو المحتل الى التراجع .