حرب النووي تستعر على طاولة فيينا… فهل ستُغلق الدبلوماسية أبوابها قريباً؟/ براء سمير إبراهيم
منذ استئناف مفاوضات الإتفاق النووي في ڤيينا بين إيران والدول الأربعة زائد واحد يوم التاسع والعشرين من الشهر الماضي، وأنظار العالم تتجه إلى هناك ترقباً لما ستؤول إليه المباحثات، التي سيكون لها بلا شك تأثيراً كبيراً على الحياة السياسية الدولية ومستقبل المنطقة.
[ عقبة التنازلات]
لا تشكل الاتهامات المتبادلة بين أطراف المحادثات بعدم الجدية، العقبة الرئيسية في سير العملية الدبلوماسية بقدر ما يشكله امتناع كلٍ من طهران وواشنطن عن تقديم التنازلات للطرف الآخر والبدء في الخطوة الأولى من طريق الحوار الطويل، فمنذ شروع إدارة بايدن بالتفاوض مع إيران، وكلا الطرفين يطرحان شروطاً يعتبرها الطرف الآخر صعبة أو حتى مستحيلة.
فمطالبة طهران برفع كافة العقوبات عنها قبل العودة للإلتزام ببنود الاتفاقية التي أُبرمت عام 2015 وانسحبت منها إدارة ترامب عام 2018، بالإضافة إلى اشتراطها تقديم تعويضات عن الأضرار التي لحقت بالبلاد جراء التهور الأمريكي، ودعوة الولايات المتحدة إلى تقديم ضمانات بعدم الانسحاب مرة أخرى من الاتفاق، تجدها الإدارة الأمريكية الحالية غير منطقية. بالمقابل ترفض طهران جملةً وتفصيلاً كافةَ الشروط المطروحة من الجانب الأمريكي، حول توسيع الاتفاقية لتشمل النشاط الإقليمي لإيران وبرنامج صواريخها الباليستية.
وبناءً على ما سبق يمكننا القول أن إيران وأمريكا لا تزال الآن في مرحلة دراسة الطرف الآخر ومطالبه وشروطه ومقدار استجابته لتقديم أي تنازلات مقبلة، وتقييم الموقف التفاوضي وبحث كافة الخيارات الممكنة والمطروحة.
[ طهران تفضل نهج واشنطن]
إن وصول كل طرف إلى هدفه من التفاوض يقتضي رفع سقف مطالبه الكثيرة حتى يبدو طلبه الوحيد والفعلي أفضل من جملة مطالبه الأخرى مجتمعة، وهذا هو النهج الذي تتبعه واشنطن وتتعامل به إيران معها فيما يتعلق بمفاوضات ڤيينا.
فعندما تطلب واشنطن من طهران بحث وجودها في المنطقة والحد من برنامجها العسكري إنما هي تريد دفع طهران، إلى القبول بإبرام اتفاقية نووية جديدة على مبدأ أنها أفضل من إبرام اتفاقية أوسع تناقش ملفات أخرى غير النووي.
كذلك فإن تزامن المحادثات الحالية مع استهداف مرفأ اللاذقية وتفجير ذخيرة حماس في لبنان، هدفه ليس إقناع إيران بمناقشة ملف وجودها العسكري في المنطقة، وإنما فتح خيارات أخرى أمام إيران في جولة المفاوضات الجارية، كأن تطالب بوقف الهجمات ضد “محور المقاومة” حتى تعود للإلتزام بالاتفاق النووي، أو أن تكف عن المطالبة برفع جميع العقوبات بما فيها المتعلقة بما تسميه واشنطن “دعم الإرهاب” على اعتبار أنه كما لا تريد إيران التفاوض حول نشاطها في المنطقة وصواريخها الباليستية عليها ألاّ تطالب الجانب الأمريكي برفع العقوبات الخاصة بهذين الأمرين.
وفي هذا الصدد نشير إلى ما قاله نائب رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد المنتهية ولايته لصحيفة “يديعوت أحرنوت” في آذار الماضي، حيث أكد أن دفع طهران إلى “وقف برنامجها النووي وتطوير الصواريخ ودعم الوكلاء الإقليميين – كانوا بمثابة حلم لم يتحقق مثل السعي لتحويل الإيرانيين إلى ميرتس”، في إشارة إلى حزب سياسي إسرائيلي يساري، وأضاف أن إيران “لم توقف انتشارها في المنطقة للحظة. فالإيرانيون يطورون الصواريخ… والصفقة التي أبرمناها [في العام 2018، الضغط من أجل انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة] لم تكن جيدة؛ فقد عدنا الى نفس المكان”.
وعلى الجانب الآخر من المشهد، فإن وضع طهران قائمة شروط طويلة إنما تهدف من خلالها إلى إقناع واشنطن بالقبول برفع العقوبات دون تنفيذ بقية المطالب الأخرى، مع التأكيد للجانب الآخر أن لا تفاوض إلا حول الاتفاق النووي الحالي.
[ كرة التفاوض في العارضة]
وفي ظل المعطيات الحالية فإننا واقعياً، لا نستطيع القول أن الكرة في الملعب الإيراني أو الأمريكي، فالواقع أن كلا الطرفين لديه نقاط قوة ونقاط ضعف لا يمكن تجاهلها.
فالبنسبة لإيران فإن نقاط ضعفها تكمن في الضغط الكبير والتدهور الحقيقي الذي تسببت به العقوبات وأصاب الاقتصاد الإيراني الداخلي بشكل ملحوظ، كما أثّر على دعم إيران لفصائل المقاومة المنتشرة في دول المنطقة المختلفة، وهو واقع يجعل إيران غير مستعدة للدخول في اي مواجهة عسكرية مع أي طرفٍ كان، وبالتالي الامتناع عن الرد على الهجمات التي تطال قواعدها في سورية أو التي تستهدف مواقع الفصائل الموالية لها في العراق ولبنان، أو حتى الرد على أي هجوم يُنفذ على أراضيها، مما أضعف مصداقية تهديداتها لأعدائها في الآونة الأخيرة.
أما واشنطن فإن نقطة ضعفها الأساسية تكمن في عدم رغبتها برؤية عدوها الأكبر في الشرق الأوسط يمتلك سلاح نووي، بالإضافة إلى ذلك فهي لا تريد الانجرار إلى حرب نووية أو حرب عالمية ثالثة بسبب إيران، لأن اقتصادها المتعافي لتوه من تداعيات الإغلاق جراء جائحة كورونا، وتكاليف الحرب الباهظة جدا، والحفاظ على الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، كلها أسباب تجعل الولايات المتحدة مضطرة للجلوس إلى طاولة التفاوض مع إيران والتحاور معها، وكل هذه العوامل ساهمت هي الأخرى بالتقليل من هيبة وعظمة الولايات المتحدة الأمريكية خاصةً بعدما عجزت عن الرد على الهجوم الأخير الذي استهدف قاعدتها في التنف السورية.
وفي هذا السياق نذكر ما قاله “جون باير” في كتابه “الفوضى التي صنعوها: الشرق الأوسط بعد العراق”، حول أن الولايات المتحدة لا تستطيع استخدام القوة ضد إيران، وأن مجرد تلويحها باستخدام القوة هو موقف خاطئ، أما شنها الحرب فعلياً ضد إيران فسيؤدي حتماً إلى هزيمة أمريكا كقوة عظمى في العالم وسينجم عنه انهيار حلف الناتو وتغيير جذري في الشرق الأوسط.
[ مصير المفاوضات]
مستقبل المباحثات في ڤيينا على المدى القريب لا يعدو أن يخرج عن ثلاثةِ احتمالات هي كالتالي :
_ تأجيل المفاوضات والمماطلة في التفاوض.
_ رفع جزئي للعقوبات بحيث لا يشكل انفراجة كاملة للاقتصاد الإيراني مقابل التزامات نووية محدودة من جانب طهران.
هذان الخياران هما المرجحان الآن بشدة ولذلك للسبب الآتي:
إدارة بايدن هي فعلاً تريد العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني وربما ليس لديها مشكلة بفكرة رفع العقوبات عن إيران لكن مشكلتها الحقيقية بتوقيت رفع هذه العقوبات، فبعد عدة أشهر سيشهد لبنان انعقاد الانتخابات البرلمانية التي تعمل واشنطن على التدخل بها على غرار ما فعلت في العراق بهدف إزاحة حزب الله وحركة أمل من مجلس النواب اللبناني، فإذا جرى رفع العقوبات قبل هذا التاريخ فأنه لن يكون لدى واشنطن شماعة تعلق عليها سبب فشل حزب الله في الانتخابات، أما في حال بقاء العقوبات فإن لدى واشنطن الحجة التي ستبرر بها ما حدث.
وهنا نستعرض بعض ما جاء في مقال نشرته “حنين غدار” الباحثة المختصة في الشأن اللبناني على موقع “كارافان” الإلكتروني قبل عدة أيام، إذ تقول فيه :
“أن قوة الحزب السياسية والعسكرية باتت مصحوبة بعدة تحديات. أولًا، خسر حليفاه الرئيسيان _التيار الوطني الحر
وحركة أمل – جزءًا كبيرًا من الدعم الشعبي. فبحسب استطلاعات جرت في لبنان، لم يعد التيار الوطني الحر، الذي كان يتمتع بتأييد أكثر من 50 في المائة من الشارع المسيحي اللبناني، يحظى بدعم أكثر من 13 في المائة من المسيحيين اليوم. ومن دون حلفائه، لا يمكن لـحزب الله الفوز بأغلبية في الانتخابات البرلمانية المقبلة – المزمع إجراؤها في آذار/مارس 2022″
مضيفةً : “أن الحزب فقد جاذبيته كشخصية أبوية للشيعة. ففي الثمانينيات، قدّم الحزب نفسه بصورة الأب-المعيل-الحامي للمجتمع الشيعي وطلب ولاء الشيعة مقابل القوة والمكانة والخدمات. لكن هذه الصورة دمرتها الصعوبات المالية التي يواجهها الشيعة بسبب العقوبات الأمريكية على إيران…فقد علّق الحزب الخدمات الاجتماعية بسبب الصعوبات المالية وعدم امتلاكه للعملة الصعبة. ووحدهم القادة العسكريون والمقاتلون بدوام كامل يقبضون رواتبهم بالدولار الأمريكي – في حين يُطلب من الآخرين أن يتحلوا بالصبر. والحال أن الفجوة في أوساط الشيعة (أعضاء الحزب وغير الأعضاء فيه، والأعضاء العسكريون وغير العسكريين، وحركة أمل مقابل حزب الله) تتسع وتولد تحديات داخلية خطيرة”.
أما الخيار الثالث والأخير والأقل ترجيحاً فهو :
_ فشل المفاوضات والمباحثات الدبلوماسية.
رغم تحذير وزيرة الخارجية البريطانية” ليز تراس” يوم الأحد، الذي قالت فيه : “هذه آخر فرصة أمام إيران للجلوس إلى طاولة المفاوضات بعزم جاد في هذه القضية”.
إلا أن لا أحد من الأطراف يريد الوصول إلى هذه المرحلة، لكن ومع استبعاد هذا القرار، إلا أنه يبقى خياراً مطروحاً على الطاولة خاصةً مع ثبات الموقف الإيراني الصلب، لكن الاختلاف هذه المرة يكمن في أن الولايات المتحدة لن تكون وحيدة على الأغلب في اتخاذ هذا القرار بل ستنضم إليها الدول الأوروبية على الأقل، مما يسبب انهيار الاتفاق بالكامل وبشكل نهائي وستفرض على إيران عقوبات دولية وجماعية هذه المرة، وستكون أقسى بالتأكيد من حزمة العقوبات الحالية المفروضة على إيران.