الآن، وبعد سنة على انتخابات الرئاسة الأميركية، نجد المجتمع الأميركي ما زال يعيش حالة انقسامٍ شديد بين مؤيّدي ترامب وما يرمز إليه من “أصولية أميركية”، وبين معارضيه الذين ينتمون إلى فئاتٍ متنوّعة اجتماعيًا وثقافيًا وعرقيًا، لكن يجمعهم الهدف بضرورة عدم عودة ترامب للحياة السياسية في الانتخابات النصفية بالعام القادم، أو بإمكانية إعادة ترشّحه للرئاسة في العام 2024. فعلى سطح الحياة السياسية الأميركية هو صراعٌ بين “الحزب الجمهوري” والحزب الديمقراطي” بينما الصراع الحقيقي هو الآن بين “أميركا القديمة” وأميركا “الحديثة”، بين الماضي وبين المستقبل، حيث شهدت وتشهد الولايات المتّحدة متغيّراتٍ كثيرة في تركيبتها السكّانية والاجتماعية والثقافية، ولم يعد ممكنًا العودة بها إلى الوراء.
وربّما هو الوقت المناسب الآن لكي يُراجع قادة الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتّحدة، والشعب الأميركي بشكلٍ عام، ما حصل في أميركا من “ظاهرة ترامب” وانعكاساتها الخطيرة داخل الولايات المتّحدة وخارجها.
لقد اشترك الحزبان الجمهوري والديمقراطي في خروج القاعدة الشعبية لدى كلٍّ منهما عن رغبات القيادات التقليدية، حيث ظهر دونالد ترامب في الحزب الجمهوري، وبيرني ساندرز في الحزب الديمقراطي، وكان الأوّل تعبيرًا عن هيمنة تيّار يميني متهوّر عند الجمهوريين، والثاني (أي ساندرز) كان تأكيدًا لقوّة تيّار يساري متنوّر ظهر عند الديمقراطيين منذ المؤتمر الحزبي في العام 2004، وتكرّس بفوز أوباما في العام 2008.
لكنّ فوز باراك أوباما في انتخابات العام 2008 لم يكن حتمًا ثورةً ولا انقلابًا في المعنى السياسي على ما هو قائمٌ في الولايات المتّحدة من مؤسّسات تصنع القرار عمومًا، بل يمكن اعتبار أنّه كان بمثابة “حركة تصحيحيّة” من داخل النظام الأميركي نفسه، بعد أن أوصلت إدارة بوش الابن “النظام السياسي الأميركي” إلى منحدرٍ ما كان يجب أن تهوي إليه.
بالمقابل، فإنّ ظاهرة فوز دونالد ترامب برئاسة “البيت الأبيض” في العام 2016 يمكن اعتبارها انقلابًا مضادًّا على الذي حدث عام 2008 لناحية المفاهيم الاجتماعية والثقافية الأميركية التي سادت لقرونٍ عديدة. فقد فشل القسّ جيسي جاكسون في السابق بالحصول على دعم الحزب الديمقراطي له بالترشّح لانتخابات الرئاسة لأنّه أميركي أسود، رغم موقعه الديني المسيحي وجذور عائلته العميقة في أميركا. أيضًا، فشل المرشّح الديمقراطي للرئاسة عام 1988 مايكل دوكاكس أمام منافسه جورج بوش الأب، بسبب عدم ثقة قطاعٍ كبير من الأميركيين ب”وطنيته” الأميركية لأنّه ابن مهاجر يوناني حديث، وأنّ عائلته لم تتأصّل في التاريخ الأميركي، ولم تنحدر من “الأنجلوسكسون” الأبيض المسيحي البروتستانتي! وكان جون كنيدي أوّل رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة الأميركية، ولم يأتِ بعده كاثوليكيٌّ آخر للرئاسة الأميركية إلى حين انتخاب جوزيف بايدن بعد ستّة عقود!.
إذن، انتخاب أوباما في العام 2008 كان صدمة كبرى لجملة “مفاهيم وتقاليد أميركية” متأصّلة تاريخيًّا، لكنّها غير منسجمة أصلًا مع نصوص الدستور الأميركي، ولم تعد لها قيمة لدى الجيل الأميركي الجديد، في ظلّ مجتمعٍ تتزايد فيه أعداد المهاجرين غير الأوروبيين، والذين سيشكّلون خلال عقدين من الزمن غالبية عدد السكّان في الولايات المتّحدة.
لكنّ خلف الوجه الجميل لأميركا الذي ظهر في العام 2008 بانتخاب مرشّح للرئاسة هو ابن مهاجر إفريقي مسلم أسود اللون، ولا ينحدر من سلالة العائلات البيضاء اللون، الأوروبية الأصل، خلف هذا الوجه لأميركا، يوجد وجهٌ آخر، بشعٌ جدًّا، يقوم على العنصرية ضدّ كل المزيج الذي رمز له فوز أوباما. فهكذا هي سمات التيّار العنصري الذي ساهم كثيرًا في وصول ترامب لمنصب الرئاسة، ثمّ استمرّ بعد خروج ترامب من “البيت الأبيض” مهيمنًا على الحزب الجمهوري وقاعدته الشعبية.
ومن المهمّ أن يُدرك العرب عمومًا أنّ هناك متغيّراتٍ جارية في الحياة السياسية الأميركية، وهي ليست وليدة المعارك الانتخابية الأخيرة، بل تعود إلى مطلع هذا القرن الجديد، وإلى تداعيات 11 سبتمبر 2001، حينما ارتبط موضوع الأمن الأميركي بحروب كبيرة في العراق وأفغانستان، وبمسائل لها علاقة بالعرب وبالمسلمين وبالأقلّيات الدينية والعرقية والإثنية في أميركا، إضافةً طبعًا للدّور الخطير الذي قام به من عُرِفوا باسم “المحافظين الجدد” في صنع القرار الأميركي، وفي تغذية مشاعر الخوف لدى عموم الأميركيين، ممّا دعم أيضًا الاتّجاه الديني المحافظ في عدّة ولاياتٍ أميركية، ثمّ ظهور “حزب الشاي” كحالة تمرّد سياسي وشعبي وسط الحزب الجمهوري ومؤيّديه، والتي استطاعت التأثير الكبير على “الجمهوريين” في الكونغرس الأميركي.
هكذا هي الآن أميركا، وهكذا ستكون معاركها الانتخابية القادمة، إذ لن تكون فقط حول الأمور الاقتصادية والاجتماعية التي تطغى أحيانًا على سطح الإعلام، بل حول المسائل المرتبطة بالدين والعرق والثقافات. أي ستكون معارك سياسية حول كيفيّة رؤية أميركا للمستقبل وللاتّجاه الذي سيسير نحوه المجتمع الأميركي.
لقد كان من الصعب في القرن الماضي التمييز بعمق بين برنامجيْ الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن حتمًا في محصّلة السنوات الأخيرة، أصبحت الخلافات تتّسع بين رؤى الديمقراطيين والجمهوريين لأنفسهم ولمستقبل أميركا ولعلاقاتها الدولية. ووجدنا هذه الفوارق واضحة في الانتخابات الرئاسية بالعام الماضي.
ومن المهمّ الانتباه دائمًا إلى أنّ فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية في العام 2016 لم يكن العامل الأساس فيه شخصه ولا طبعًا مؤهّلاته أو خبراته المعدومة في الحكم والسياسة، بل كان العامل الأساس هو الصراع الدفين الحاصل في المجتمع الأميركي بين المتمسّكين بأميركا الأصولية القديمة، التي قامت على الرجل الأوروبي الأبيض البروتستانتي، والعنصري أحيانًا، وبين أميركا الحديثة “التقدّمية” التي أصبح أكثر من ثلث عدد سكّانها من المهاجرين من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. أميركا التي فيها التسامح الديني والثقافي والاجتماعي، والتي أنهت العبودية وأقرّت بالمساواة بين الأميركيين بغضّ النّظر عن اللون والدين والعرق والجنس، والتي أوصلت باراك حسين أوباما ابن المهاجر المسلم الإفريقي إلى أعلى منصب في الولايات المتّحدة.
فجماعات “أميركا القديمة”، وهي وإن نجحت في إيصال ترامب للرئاسة في العام 2016، فإنّها لن تستطيع وقف التقدّم الأميركي نحو مستقبل مختلف عن معتقداتها، بسبب طبيعة التغيير الديمغرافي الحاصل داخل المجتمع الأميركي، ولعدم قبول معظم الجيل الأميركي الجديد بالمفاهيم والممارسات العنصرية. لكن هذا لا يقلّل من شأن ودور هذه الجماعات، والتي أصبحت “الترامبية” رمزًا لها، خاصّةً في ظلّ الانقسامات الحاصلة داخل الحزب الديمقراطي وعدم توفّر قيادة “كاريزمية” له في هذه المرحلة.
مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن