في الذكرى الخامسة عشرة لإستشهاد صدام حسين.. صدام موحد الأمة بالفكر والساعد/ سفيان بن مصطفى بنحسين
31 ديسمبر 2021، 13:08 مساءً
لم تعد ذكرى إستشهاد صدام حسين مجرد لحظة إستذكار لهمجية تتار العصر وأذنابهم في العراق المحتل وفي ربوع الوطن العربي المكلوم، ولا هي اليوم شاهد آخر على أن هذا الإنسان الأعلى القادم من وراء البحار هو الذي وصفه الشاعر الراحل عبدالله البردوني بالقول “أنصاف ناس طغوا بالعلم وإغتصبوا”، ذكرى الإستشهاد تجاوزت ألم وأثر ذلك الجرح الدامي المحدد بإطاريه الزماني والمكاني لتتحول إلى إرث نضالي عظيم يحييه أحرار “العالم الثالث” والإنسانية قاطبة، أولئك الذين عقدوا الخناصر على مناطحة النظم الكولونيالية التي لا تعرف أي معنى للقيود أو التخوم، لا نستطيع اليوم أن نكتفي بالإدانة السياسية وإنما علينا السير في درب الإنعتاق من ربقة الهيمنة الغربية بثبات “صدامي” لا يلين.
لحظة الإعدام وما سبقها من حصار وغزو ونهب ثم ما تلاها من إحياء للفتنة أو صُنْعِهَا من العدم لم تعد محطة تاريخية نحييها كلٌّ من زاوية فكره وقناعاته، لهذا الحدث بعد فلسفي بمقدار ماهو تاريخي وثقافي بمقدار ما هو إقتصادي وسياسي بمقدار ما هو أنثروبولوجي، صدام هو الإنتقال العربي من ملكوت الأفكار إلى دنيا التطبيق والإنتاج، وما الإنتاج في زمن الهيمنة الغربية إن لم يراع مصالح الإمبريالية إلا إعلان حرب عليها وإلا فصل آخر من فصول معارك التحرير، صدام هو خط الوصول إلى النقطة التي يتعين فيها على الموقف المنهجي أن يسلم الصولجان إلى الموقف البنائي والسياسي، هو اللحظة التي يتجلى فيها أفق مقاومة ترفض نظام الهيمنة الغربية وتجترح مسارات تأسيس بديلة بعيدا عن خيار التبعية والخضوع للقوة الإمبريالية التي تبسط أجنحتها على الفضاء العالمي بأسره، كان العراق هو الحقل المناسب لتطبيق فلسفات التحرير العربي بما هيأ له زعيمه ورفاقه من أسباب النجاح. تأممت الثروات وأُستصلِحت الأراضي الزراعية وتطور الإنتاج الصناعي وبات العراق منارة للبحث العلمي وعادت بغداد إلى إشعاعها الذي بلغته زمن العباسيين وباتت عاصمة العرب الأولى ومبعث الأمل في إستكمال مهمة التحرير. عكف العراق على إعادة بناء الإنسان لا بناء “الجدران” كما تفعل أكشاك النفط اليوم موقنا أن بناء الإنسان خطوة نحو بناء الأمة من العدم وأن المجتمع لا يتطور في الأصفاد والأغلال الثقيلة للإمبريالية بل ينطلق من أساس التحرر من الهيمنة الإقتصادية والثقافية الغربية. ثمة حلم قديم بات يبدو ممكنا زمن صدام وثمة وعي بأن تحرير الإنسان من براثن الجهل وتحرير الإقصاد من براثن الشركات الغربية وإمتلاك أسباب القوة العسكرية هو السبيل لإستكمال السيادة المنقوصة، كانت قيادة العراق واعية بأن لا مستقبل للأمة في ظل الوصاية الغربية ولا أمل في التقدم في ظل وجود الكيان كفاصل بين جناحي الأمة الشرقي والغربي فوقف العراق بكل ما إمتلكه من أسباب القوة ندا للكيان وخطط في السر والعلن لإستعادة زمام الكفاح المسلح وخوض معركة وجودية ضد الكيان وعدم القبول به ولو رمزا في قرية نائية بالنقب.
خاض العراق معاركه المقدسة دون حسابات الربح والخسارة إدراكا من قيادته أن الإبقاء على توهج ثقافة الصراع هو إنتصار “فالثأر تبهت شعلته في الضلوع إذا ما توالت عليها الفصول” ولا غرو أن تصبح قيادته الوطنية المجاهدة بعزمها وإيمانها هدفا لأرباب النظام العالمي الجديد الذي عوّل على فكرة “نزع الأسلحة” و”نشر الديمقراطية” بإعتبارها التسويق الملائم للغزو والتسلط الإمبرياليين وقد وجد العدو بين ظهرانينا إخوة يوسف الذين سوقوا لأكاذيب كولن باول أكثر مما سوق هو لها، إن العدوان الثلاثيني أو “حرب الخليج” أُريدَ لها بالفعل كما زعم سيء الصيت جورج بوش أن تكون إعلانا لميلاد نظام عالمي جديد لكنه كان بداية لأم المعارك التي ستتوارثها الأجيال حتى التحرير الكامل من النظم الكولونيالية في أثوابها المتجددة
كان الهدف من العدوان على العراق كسر روح التحرر التي قادها صدام في المنطقة والعالم، وفي مشهد يعيد إلى الأذهان صورة جيش “إدموند ألنبي” وهو يدخل فلسطين مع نهاية الحرب العالمية الأولى بجيش قوامه أساسا من الهنود والمستعمرات البريطانية الأخرى كان الجيش الأمريكي الغازي للعراق يتقدمه كدرع بشري جيش عربي لم تقدر فلسطين زمن النكبة ولا النكسة ولا العبور على تجميعه تحت راية واحدة. لم يكن العدوان على العراق عمليا إلا إمتدادا للإمبريالية الأوروبية من جانب الولايات المتحدة، كانت القوى الكولونيالية الأوروبية قد خسرت معاركها في الوطن العربي منذ عقود وكان نجمها موشكا على الأفول، وكما يحدث مع أبطال المصارعة المسنين راحت هذه القوى تغادر الحلبة خائرة القوى تاركة الساحة للولايات المتحدة بوصفها البطل الجديد، تصرف الأمريكيون خلال العدوان على العراق بأقصى أشكال العنف والقسوة التي تتناسب مع أي قوة إمبريالية أوروبية حتى بدا وكأن الولايات المتحدة تعلن نفسها الوريثة الشرعية للقوى الأوروبية المتقهقرة مرتدية عباءتها الإمبريالية ومتفوقة عليها في ممارستها الإمبريالية فرأينا في معركة المطار وفي أبو غريب وفي الفلوجة والرمادي ما حدثنا عنه التاريخ في صحراء الجزائر ومدنها في الأغواط وأولاد رياح وسكيكدة وفي ليبيا شمالها وجنوبها وتونس والمغرب وسوريا والعراق والجزيرة العربية وغيرها، كأن أمريكا ليست سوى إمتدادا لجيش موسليني وديغول وكليمنصو واللويد جورج.
فجر ذلك اليوم المشؤوم من أواخر سنة 2006 كان شعورنا خليطا من عجيبا من الحزن ومن الغضب ومن النخوة والعزة والكرامة إلى الحد الذي يجعلك ترى الأمريكان وأذنابهم همج أقزام لا حضارة ولا قوة لهم، إنتصرت إرادة صدام وسار إلى الموت دون وجل كما سار إليه أبطال الإغريق وأبطال معارك التحرير وكما سار إليه فارس عودة ومحمد أبو خضير والآلاف من أبناء فلسطين الحبيبة، لم يكن موت صدام نهاية لملحمة أسطورية وإنما إنبعاثا جديدا أكثر قوة وأشد تأثيرا، صدام اليوم إنتقل من ثائر أممي إلى منارة للأحرار وللباحثين عن الإنعتاق، اليوم نرى الطريق أمامنا واضحة لا لبس فيها، صراعنا ليس بين إسلامي وشيوعي وقومي وليبرالي ولا هو صراع طائفي أو ديني، كان صدام قوميا مسلما متدينا يقطع أهم إجتماعاته إن حضرت الصلاة، رفيقه كردي وصديق عمره مسيحي، نائبه شيعي والشاعر الأقرب إلى فؤاده صابئي مندائي، كأن الأمة بكل أطيافها وألوانها وتنوعها قد تجسدت فيه، علّمنا أن الحديث عن عداء بين القومية وبين الدين لا يؤججه إلا مشايخ فنادق لندن ونيويورك. علّمنا أن معركة الحرية أولها محاربة الملكية الأجنبية وليس آخرها فرض جودة التعليم، علمنا أن إستجداء التدخل الأجنبي خيانة وأن مؤتمرات الخارج لا يشارك فيها إلا من باع وطنه بثمن بخس، علمنا أن المعارضة التي تتنقل من عاصمة غربية إلى أخرى هي حفنة من الجواسيس المأجورين وأن التحرر يبدأ أولا بتعرية هذه الشبكات، هل يختلف مجلس الحكم زمن بريمر عن بعض سياسيي بلدي تونس وهم يستجدون تدخل فرنسا وامريكا لإعادة تجربة لعبة الديمقراطية القادمة على ظهر الأبرامز؟
إن بومة مينرفا لا تحلق إلا في الظلام لنشر الحكمة والفلسفة وللإدلال على طريق الإنعتاق، وفي أرض تتوالى على أديمها النكبات سيورق الأمل الذي يبشر بنهاية عهد الإمبريالية، من هنا من أرض صدام الممتدة من المحيط إلى الخليج.