كتاب عربموضوعات رئيسية
أجندات ومصالح تصنع الرأي العام المعاصر /د. صبحي غندور
هناك مزيج يفعل فعله الآن، ليس فقط في صناعة الرأي العام، بل أيضاً في صناعة الأحداث نفسها. وهذا المزيج يقوم على الدور الخطير الذي تلعبه الشبكة المعلوماتية وملحقات الهواتف النقالة في تحويل وسائل “الإعلام” و”التواصل الإجتماعي” إلى وسائل “تحريض” أو “تغيير” أو “تضليل”، بل ربما أحياناً وسائل “فتنة”، فالأمر يتوقف على الأجندة السياسية لمن يملكون هذه الوسائل وأيضاً على ما يتوفر لها من “تسريبات معلوماتية” أو شبكة مصالح خاصة مرتبطة بشركات أو جهات خارجية. وقد كان لهذا الأمر تأثيرات كبيرة على انتخابات الرئاسة الأميركية في العام 2016 حيث ساهمت المعلومات التضليلية في وسائل التواصل الإجتماعي بدعم دونالد ترامب وبإيصاله للبيت الأبيض.
أيضاً، شهدت تركيا في العام 2016 محاولة إنقلابية عسكرية جرى احباطها نتيجة تمكن الرئيس اردوغان من استخدام هاتفه النقال لإجراء مقابلة تلفزيونية دعا فيها مناصريه إلى الخروج للشوارع لتأييده ضد الإنقلابيين، ونجح في ذلك. أيضاً، شهدت الولايات المتحدة خلال فترة رئاسة ترامب تظاهرات شعبية في عدة مدن أميركية ضد ممارسات بعض عناصر الشرطة بحق الأميركيين الأفارقة، وهذه الممارسات ما كانت لتعرف لولا استخدام الهواتف النقالة وشبكات التواصل الإجتماعي لتصويرها ومن ثمّ نشرها عبر وسائل الإعلام الكبرى في الولايات المتحدة.
إنّ الإعلام، في أيّ مكانٍ أو زمان، هو وسيلة لخدمة سياسة أو ثقافة أو مصالح معيّنة. وهذا ما انطبق أيضاً على مرحلة نشوء الإعلام العربي في مطلع القرن الماضي حيث كان الإعلام “العربي” انعكاساً لصراعات السياسات والمصالح والمفاهيم التي سادت في ذاك الزمن. ولذلك وجدنا أنّ الدول الغربية الفاعلة آنذاك – خاصّةً بريطانيا وفرنسا- حرصت على موازاة تأسيس الكيانات العربية الراهنة، واحتلال بعضها، بتكوين مؤسسات إعلامية، تخدم الطروحات الثقافية الغربية وتعزّز أعمدة التقسيم الجغرافي الجديد للمنطقة. ومن أجل ذلك كانت الحاجة الغربية لمنابر إعلامية، ولأدباء وكتّاب لا ينتمون فكرياً وثقافياً إلى المدافعين عن “الهويّة العربية”. فالغرب أدرك أنّ تجزئة المنطقة العربية، عقب الحرب العالمية الأولى، تتطلّب محاربة أي اتّجاه وحدوي تحرّري عربي مهما كان لونه، تماماً كما أدرك الغرب في مرحلةٍ سابقة أنّ إسقاط الدولة العثمانية ووراثة أراضيها يستدعي إثارة النعرات القومية بين الأتراك وغيرهم من المسلمين في العالم. لهذا تميّزت الطروحات الثقافية لمطلع القرن العشرين بألوان قومية أولاً (في تركيا وفي البلاد العربية) مدعومةً من الغرب، ثمّ جرى الفرز الغربي فيما بعد بين تعزيزٍ للطرح القومي التركي، وبين محاربةٍ للطرح القومي العربي بعد أن استتبّ الأمر لبريطانيا وفرنسا في المنطقة، وأُقيمت الحدود والحواجز بين أبناء الأرض العربية الواحدة.
وفي المرحلتين، استهدِفت أيضاً الهُويّة الحضارية والثقافية للأمّة العربية لأنّها تعارضت مع المشروع الغربي الاستعماري بوجهيه (هدم الدولة العثمانية أولاً، ثمّ بناء الكيانات العربية الإقليمية والسيطرة عليها بشكلٍ لا يسمح بوحدتها في المستقبل).
لكن من الضروري الإشارة إلى مسألتين تجنّباً للتعميم فيما سبق ذكره.
- المسألة الأولى: أنّ الإعلام العربي في مطلع القرن العشرين (وهو هنا إعلام الصحافة) لم يكن كلّه تغريبياً، بل ظهرت مطبوعات عربية كان لها الأثر البالغ في إحياء حركة الإصلاح الديني والدعوة للنهضة الحضارية العربية (“العروة الوثقى”، و”المنار”).
- المسألة الثانية: أنّ الكثير من الأدباء والكتّاب المسيحيين العرب قد لعبوا دوراً هامّاً في الحفاظ على اللغة العربية وتنقيتها وتخليصها من الشوائب التي لحقت بها في عصور الانحطاط، وكذلك في إعداد مجموعات كبيرة من كتب قواعد اللغة العربية (البستاني، اليازجي)، وكان لهم الفضل أيضاً في استيراد المطابع وتسهيل عمليات النشر والطباعة وتكوين النواة التقنية لمؤسسات إعلامية عربية كبيرة.