في فلسطين فقط
فقط فى فلسطين يقف الأب فخورا ومنتصب القامة أمام جثمان ابنه الشهيد، يصوب بصره نحوه ويؤدى له التحية العسكرية فى آخر لقاء لهما فى الدنيا. فى الخلفية يحتشدوا الآلاف الذين وقفوا فى خشوع، منهم من شرع فى قراءة فاتحة الكتاب وقد انهمرت الدموع من عينيه، ومنهم من انفجر غضبا وسخطا ومضى يكبر ويهتف داعيا للانتقام تارة. ومحييا مسيرته الجهادية وداعيا إلى وقف التنسيق الأمنى مع العدو تارة أخرى.
عن اللحظات التى سبقت الجنازة، كتبت رئيس تحرير موقع «الحدث» الفلسطينى قائلة: فى غرفة المستشفى الحكومى كان باسل مرتاحا. التف الجميع حول جسدك يا باسل. كأنهم يحيطون بجسد الملك يريدون حمله على العرش. الفخر فى أعين الممرضين. هذا يلفك بالعلم. وذاك يلفك بالكوفية. ثالث يضع وسادة تحت رأسك. رابع يتأكد من أن جسدك فى مكانه الصحيح. أحدهم يقبل وجهك، وكأن لسان حال كل واحد منهم يريد أن يقول لك إنه فعل شيئا لأجلك، لأنك فعلت الكثير لأجلنا.
البطل المسجى كان باسل الأعرج الصيدلى ابن الثلاثين عاما الذى هجر الصيدلة وقرر أن يتفرغ لتحرير فلسطين، حتى صار يوصف بأنه المثقف المشتبك والفدائى الكامل. تكفل التنسيق الأمنى باعتقاله مع بعض رفاقه بتهمة حيازة سلاح لاستخدامه ضد أهداف إسرائيلية. فى سجن السلطة أهينوا وعذبوا فأضربوا عن الطعام حتى تم اطلاق سراحهم، لكن الإسرائيليين تعقبوهم واعتقلوا رفاقه، فيما اختفى هو عن الأنظار منذ خريف العام الماضى (٢٠١٦). قبل أسبوعين، فجر يوم ٦ مارس الحالى اقتحم الإسرائيليون بيتا اختفى فيه، فتصدى لهم بسلاحه، لكنهم قتلوه بعشر رصاصات ثم اختطفوا جثته. وبعد تسويف ومساومة سلموها لأهله عند آخر حواجز بيت لحم يوم الجمعة الماضى (١٧/٣). فى جنازته المهيبة التى سبقت دفن جثمانه فى بلدته «الولجة» ببيت لحم، فلسطين كلها كانت هناك. وحين أدى الأب التحية العسكرية أمام جثمانه فقد كان ذلك إعلانا عن ثباته إلى جواره فى جيش تحرير فلسطين الذى لم يلق سلاحه بعد.
فى فلسطين فقط تتزوج مناضلة محكوم عليها بالسجن المؤبد ١٦ مرة من ابن عمها المحكوم عليه بالمؤبد. وبعد سبع سنوات يطلق سراحهما ويلتقيان فى عمان، لكن وزارة العدل الأمريكية طالبت أخيرا بتسليمها حين قالت إنها غير نادمة لمشاركتها فى التخطيط والتنفيذ لعملية تمت فى القدس منذ ١٦ عاما وقتل فيها أمريكيان. هذا تلخيص متقضب لقصة الفتاة أحلام التميمى التى غادرت الأردن إلى الضفة الغربية لتكون قريبة من ابن عمها وفتى أحلامها نزار التميمى المحكوم عليه بالمؤبد فى سجن عسقلان. كان نزار ضمن عناصر فتح لكن أحلام التحقت بحماس، واعتقلت بتهمة المساعدة فى توصيل أحد مناضلى الحركة لينفذ عملية تفجير بأحد مطاعم القدس فى عام ٢٠٠١ أدت إلى مقتل ١٥ إسرائيليا بينهم اثنان يحملان الجنسية الأمريكية. بسبب هذه العملية أدينت أحلام وحكم عليها بالمؤبدات الـ ١٦. لكنها أمضت فى السجن ٨ سنوات وأطلق سراحها فى عملية لتبادل الأسرى. وبعدما استقرت فى الأردن أدرجت وزارة العدل الأمريكية اسمها ضمن المطلوبين فى قضايا الإرهاب، ولكن الأردن رفضت تسليمها لعدم وجود اتفاقية للتسليم مع الولايات المتحدة، وفى الأسبوع الماضى وصل إلى إسرائيل ممثلو وزارة العدل الأمريكية لإبلاغ ضحايا عملية القدس (فى ٢٠٠١) بقرار محاكمة أحلام التميمى بسبب مشاركتها فى قتل الأمريكيين.
فى إسرائيل فقط يقبع فى السجون ٣٥٠ طفلا فلسطينيا تحت ١٥ عاما، فى حين يقدم للمحاكم سنويا ما بين ٥٠٠ و٧٠٠ طفل. أحدهم الطفل شادى فراح، الذى اعتقل فى ٣٠ ديسمبر عام ٢٠١٥ وكان عمره آنذاك ١٢ عاما. اعتقله الإسرائيليون حين كان منتظرا فى محطة الحافلات بمدينة القدس. حيث اتهم زورا بأنه كان يحمل سكينا وحكم عليه بالسجن ثلاثة أعوام، فى يوم المرأة العالمى نشرت أمه فيرهان دراغمة رسالة روت فيها قصة ابنها الذى أصبح أصغر أسير فى سجون الاحتلال. كان عنوانها: من يعيد شادى طفلا؟ (نشرتها جريدة الشرق الأوسط فى ٨/٣) فى الرسالة تساءلت: كيف لعيناى أن تغفوا وهما لا تريان إلا طفلى الصغير وحيدا فى زنزانة باردة مظلمة؟ وهو لم يكن يستطيع النوم إلا فى حضنى وهو يضع أصبعه فى فمه؟ وفى ختامها دعت جميع الرجال والنساء إلى الانضمام إليها لاستعادة شادى وأمثاله من ضحايا سياسة الاحتلال الإسرائيلى المسكون بالغطرسة والظلم والقهر.
فهمي هويدي