بداية أعتقد بأن بوتين هو أثقف شخيصة سياسية- أمنية – استخبارية قيادية في العالم، حيث تزاوجت قدراته الشخصية الفردية وذكاؤه الفطري مع سيرته الذاتية في عمله العام الطويل والعميق في صلب وعمق شؤون بلاده السوفييتية، ولم يكن مغامراً أو سطحيا أو تكتيكياً بسياساته العسكرية كرئيس لروسيا، بل هادفاً لما هو أبعد من ذلك بكثير وأثبت ذلك نجاحاته الهائلة فيما رمى اليه في كل موقع، ولن تستطيع عليه العقليات والسياسات البالية، وهنا أعود للوراء لنعرف الأرضية التي يقف عليها بوتين في ما اصطلح عليه وهماً بالأزمة الأوكرانية، وما هي في الواقع إلا أزمة نظام دولي.
لقد كان الغموض يلف قرار تفكيك الاتحاد السوفييتي بتلك الطريقة، وتلك السرعة، وثبت بأن أمريكا أخطأت التقدير وتعاملت مع القرار على أنه هزيمة وتسليم للراية للولايات المتحدة وتنصيبها كقطب امبراطوري واحد في العالم، ولا شك بأن القرار السوفييتي وفهمه الأمريكي الخاطئ انعكس بالضرر البالغ على قضايا الشعوب ووسعها وعمقها وخذل المبادئ الإنسانية والحرة، وكان العرب من أبرز الضحايا، ولم تكن الرؤية الروسية فقط الضحية.
وهنا علينا النظر في توقيت وطبيعة المرحلة التي جاء فيها القرار السوفييتي بتفكيك الإتحاد، للوقوف على السبب الأعمق للتحول الروسي الحثيث، ونتذكر هنا بأن قرار التفكيك جاء في أعقاب أو إثر الوعي على تطور معايير القوة على الأرض من عسكرية الى اقتصادية، وتطور ثقافة الشعوب وزيادة الدول وسكانها، وما رافق هذا أو ترتب عليه في الثمانينيات من القرن الماضي من مخاض على صعيد الأمم المتحدة لإعادة هيكلتها وبالذات هيكلة مجلس الأمن وعضويته الدائمة بصفته يمثل النظام السياسي العالمي منذ انتهاء الحرب الثانية، وكان الاتحاد السوفييتي حينها يتناغم مع الموقف الأمريكي بعدم المساس بسلطة ومزايا وعضوية المجلس الدائمة، ويرفض إلغاء حق النقض أو توسيعه ليشمل دولا أحرى.
ومن نقطة تغيير معايير القوة من عسكرية الى اقتصادية بدأت روسيا كزعيمة للمعسكر السوفييتي تفكر بنفسها ومستقبلها على الخارطة، الدولية من منظور إقتصادي وأن ترمي خلفها الحرب الباردة وكلفة سباق التسلح، وأن تجعل من دول الإتحاد عوناً وشريكاً لها لا عبئا عليها في عملية استباق لمستحقات استشرافها للمستقبل، وكانت قبل قرار تفكيك الإتحاد قد طبقت فكرتها على حلفائها من خارج الاتحاد، ولا أستطيع القول سوى أن بوتين بحكم موقعه الوظيفي كان في صلب القرار السوفييتي بالتفكيك ويتحمل مسؤولية.
ليس من مراقب حصيف لا يرى بأن بوتين كرئيس لروسيا فحسب يتصرف سياسياً وعسكريا بعقلية الإتحاد السوفيتي ويرفض الانصياع أو الاعتراف أو التعامل مع فكرة القطب الواحد التي تساوي روسيا بغيرها من الدول، فكيف حين يجري استهدافها، وهو الرجل الذي عايش النتائج بعد تفكيك الإتحاد السوفييتي وصلف العقلية الأمريكية الإمبريالية التي طالت مصالح روسيا وأوقعت وتوقع أبلغ الخسائر والضرر بروسيا باستهداف الدول الشريكة لها في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية رغم أن الداعي المعلن لتفكيك الاتحاد السوفييتي كان إقتصاديا، وروسيا بوتين تعلم بأن هذا الصلف الأمريكي جاء على أرضية نتائج إنهائها الحرب الباردة ونتائج قرارها بالسماح لعودة الإنسجام في عمل مجلس الأمن ووقفها استخدامات الفيتو الذي استغلته أمريكا بتمرير القرارات حيث كانت أمريكا تخرقها أو تفسرها طبقاً لمصالحها وتقفز عن المصالح الروسية أو تطعنها.
أقفز عن كل هذا وعن تاريخ من سنين ملاحقة واستهداف أمريكا للمصالح الروسية والتعامل معها كدولة من الدرجة الثاني وأقول بالمحصلة، أنه أمام الوعي الروسي على عبثية تغيير العقلية الأمريكية الإمبريالية وأمام اتجاه روسيا لإعادة فرض وجودها كدولة كبرى وعظمى بمعيار الاقتصاد الحر وتطوير شراكاتها الإقتصادية المفتوحة في أوروبا الغربية على قاعدة خالية من تصدير الأيدولوجيا وسباق التسلح وخالية من حلف وارسو، انتفض الفكر الإمبريالي في أمريكا وأخذ يهجم على شراكاتها الإقتصادية ومواطئ حماياتها العسكرية في انحاء العالم.
إلّا أنه ومع النجاحات الإقتصادية الروسية في أوروبا وشراكاتها الحيوية بمشاريع الطاقة الإستراتيجية الكبرى والتي تحل مشاكل وتحديات حقيقية لأهم دول اوروبا، وأمام امتدادات التدخلات الروسية في الأماكن الساخنة بنجاح، بدأت أمريكا بإحياء مفهوم الحرب الباردة من طرف واحد ضد روسيا إلى أن انتهت اليوم بإعادة تصدير قصة تهديد الأمن الأوروبي والقيم الغربية وفرضها على أوروبا على اعتبارها مسألة تفوق مصالح أوروبا الحيوية في، عملية تضليل واستخدام واضحة.
من المعروف جداً بأن روسيا تركت قطبيتها لا عن قصور في قوتها العسكرية أو العلمية أو الإقتصادية، وإنما للحفاظ على هذه القطبية بمعيار القوة العصري وهو الإقتصاد، ولن تسمح بسوء فهمها ولا لاستخدام القوة العسكرية لكبحها كدولة بنت عملاقيتها في اثنين وعشرين قرناً من قبل دولة قامت على الغزو منذ قرنين، وتعيش في هذه الفترة أسوأ حالاتها وضعفها وهشاشتها وانكساراتها.
فالقصة هي روسية، وهي لروسيا ليست أوكرانيا، وربما أكرانيا الوحيدة التي لا تحتاج روسيا لغزوها من أجل رفع الهيمنة الأمريكية عليها، فهذه مهمة يمكن إنجازها بواسطة دعم الأوكرانيين المسمييِّن بالانفصاليين، ولا المشكلة بدول البلطيق مثلاً أو غيرها، القصة هي في إعادة نظر روسيا بمجمل الغزو الأمريكي الغربي لدول الإتحاد السوفييتي السابق ولكل حلفائه في أوروبا الشرقية وعسكرتها في الناتو لمحاصرة روسيا، القصة في تطلع روسيا لإعادة كتابة إسمها بالدولة العظمى والكبرى، وهي اليوم تمتلك كل الإمكانات لذلك، وأعتقد أن الكرة الآن هي في ملعب الدول الأوروبية التي عليها أن ترد لأمريكا بضاعتها التالفة، فما يهدد الأمن الأوروبي والقيم الأوروبية وأمن وقيم العالم بشعوبه هي السياسة الأمريكية.
لا حرب كلاسيكية بين دولتين نوويتين بحجم روسيا وأمريكا مُمكناً وقوعها، فخسارة إحدهما لا يُسمح به لأنها ستتحول للحرب النووية، والحرب النووية لن تكون إلا خيار الصفر وهذا الخيار لا وجود له بين تلك الدول، وستتفهم الشعوب الأوروبية وجهة النظر الروسية وخاصة الألمانية والفرنسية، ولا بديل آمن في النهاية لاستقرار العالم والحفاظ على استقراره ومنجزاته وأمنه الجماعي إلا بنظام عالمي جديد لا يقوم على معيار القوة العسكرية والتحالفات العسكرية، وبعيداً عن الفكرة الإمبريالية وعن استحقاقات الحرب العالمية الثانية التي نعيشها،
وهذا بدوره لن يكون من منتجات واستحقاقات حرب جديدة فيها منتصر ومغلوب، بل يمكن ببساطة بواسطة إلغاء كل استحقاقات الحرب الثانية وبجعل الأمم المتحدة “منظمة تبقى ونظاماً يرحل ” وكان هذا عنوان كتاب لي صدر قبل سبعة عشر عاماً، وأن يجري التعديل على ميثاقها لتحريره وديمقرطته، وبشكل محدد، تنزع منه فكرة العضوية الدائمة في مجلس الأمن وكل امتيازاته وصلاحياته التي تقوم على سلب اختصاصات الجمعية العامة، وإعادة هيكلته على أساس ديمقراطي ليتصرف وفق إرادة الجمعية العامة التي تمثل إرادة المجتمع الدولي، والصيغ في هذا كثيرة.