“عبد الناصر مين يا نبوي؟! ابعتوه لعبد الناصربتاعه”. فى مثل هذا اليوم من 42 سنة (في 26 فبراير عام 1980)
كتب شفيق أحمد علي و سعيد الشحات
رن هاتف الرئيس أنور السادات الشخصى وتناوله بنفس اليد التى أزاج بها البايب عن فمه وبدا مصغيا لمحدثه على الطرف الآخر ثم قال بصوت غاضب.
– فيه إيه يا نبوي.. أنا لسه بقول لكارتر بداية دافية ورائعة ..
على الطرف الآخر كان النبوى اسماعيل وزير الداخلية يرد متلعثما: أبدا يا ريس .. حتة واد فلاح من بلد اسمها أجهور تبع طوخ حاجز موظفين فى الوحدة المحلية ويبقول إذا لم نطرد السفير الإسرائيلى من القاهرة ونذيع بياناً خلال 24 ساعة هيقتل الرهاين ويقتل نفسه بالرشاش اللى معاه.. وصمت النبوى قليلا ثم واصل.. ولا مؤاخذة يا فندم الولد معاه ميكروفون وعمال بيشتم الست هانم وكمان شتمنا كلنا.
– السادات : قله أدب وبذاءة تبع مين ده يا نبوي.
– النبوي : لسه مدير الأمن «مكلمني» وبيقول إنه ييذيع خطب لجمال عبد الناصر يا ريس.
– السادات : عبد الناصر مين يا نبوي.. أنت مستنى إيه، هو مش بيقول إنه حيموت نفسه.. يبقى خلاص.. ابعتوه لعبد الناصر بتاعه، الاشكال دى ما ينفعش معاها إلا كده، وللا مستنى لما يعملوه بطل، ويطلع لنا ولد مجنون من القرية اللى جنبه واللى جنب اللى جنبه، وشوية الرعاع إياهم يطلعوا لى تانى فى الشوارع ويقولوا انتفاضة شعبية.. جرا لك أيه يا نبوي.. أنت مش عارف شغلك واللا إيه.. حط سماعة التليفون وخليك على اتصال بيا من هناك.
كانت التعليمات إذن واضحة من رئيس الجمهورية إلى وزير الداخلية وهى تصفية هذا المجنون المتمردد.
ولكن من هو هذاالمجنون الذى وصفه السادات بهذا الوصف ولماذا كان متمرداً..؟
الشاب الفلاح المتعلم الذى وصفه السادات بالجنون كان الشهيد سعد إدريس حلاوة ابن أكبر عائلات قرية أجهور الكبرى وذهب النبوى إسماعيل وزير الداخلية آنذاك بنفسه ليشرف على اغتيال وتصفية سعد ادريس حلاوة تنفيذا لتعليمات رئيسه السادات.
النبوى بمجرد أن نزل من سيارته التقط الميكروفون من اللواء حسن أبو باشا الذى تولى الوزارة بعده وأمر بضبط واحضاره المواطنين سليمان عبد العزيز عبد المؤمن سليمان سائق «الموتوسيكل» الذى نقل سعد وحقيبته إلى الوحدة المحلية ونصيف أبو خاطر سكرتير الوحدة المحلية.
ثم نادى على المقدم وجدى بيومى مفتش المباحث الجنائية لتفتيش منزل سعد حلاوة وضبط واحضار والديه واشقائه أما لماذا حدث هذا كله ولماذ اثار السادات ولماذا قاد النبوى تصفية الشخصية بنفسه فالإجابة فى السطور التالية:
صباح يوم 26 فبراير عام 1980 كان سعد الدين حلاوة من بيته فى أجهور يستعد للخروج لمتابعة الأراضى الزراعية والمرور على الوحدة الزراعية فى نفس الوقت الذى خرج فيه السادات من بيته بالجيزة إلى مكتبة بعابدين لاستقبال الياهو بن اليسار واعتماده كأول سفير لإسرائيل فى مصر وكان قبل خروجه من بيته قد انتهى من تجهيز حقيبة سفر كبيرة وضع بها مدفعاً رشاشاً وجهاز «كاسيت» وشرائط قرآن كريم مسجلة للشيخ عبد الباسط عبد الصمد وبعضا من خطب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر واغانى وطنية بصوت عبد الحليم حافظ واستقل «موتوسيكل» يقوده سليمان عبد العزيز عبد المؤمن واخترق الطريق إلى الوحدة المحلية وعندما وصل كان هناك ثلاثة موظفين يجلسون أمام الوحدة المحلية فى دفء الشمس الشتوية ثم نادى على سكرتير الوحدة نصيف خاطر وأخبره بأنه أحضر لموظفى الوحدة المحلية بضائع ممتازة لمن يريدالشراء، هرع الموظـفون وطلبوا منه فتح الحقيبة لفحص البضاعة ثم استأذنهم لدخول دورة المياه وعاد بعد دقيقة وبيده مدفع رشاش صوبه تجاه الجميع، وفى هذه اللحظة فر الموظفون من أمامه وبقى اثنان فقط داخل غرفة تطل على فناء الوحدة ولا تزال قائمة حتى يومنا هذا.. فى هذه اللحظة بالتحديد كان السادات مع السفير الإسرائيلى بن اليعازر فى إحدى الغرف المغلقة بقصر عابدين بعيدا عن رجال الصحافة وبعد اللقاء بثت الإذاعات المصرية تفاصيل اعتماد السفير الإسرائيلي.
فى هذه اللحظة تحديداً بدأ سعد فى إطلاق دفعات من الرصاص الحى من شرفة الوحدة ثم إغلق الراديو الذى يذيع خبر اعتماد السفير الإسرائيلى ثم أدار الكاسيت على أغنية وطنية لعبد الحليم حافظ بدلا من صوت الراديو الذى كان يذيع بيان اعتماد السفير الإسرائيلى فى القاهرة، ثم وجه مكبر الصوت ناحية القرية حتى يطغى صوت غناء عبد الحليم على صوت إعلان التطبيع بين مصر وإسرائيل، وأعلن أنه لن يفك اعتصامه إلا بعد طرد السفير الإسرائيلى من مصر.. فى نفس اللحظة أسرع عمدة القرية وهو عم سعد حلاوة شقيق والده الاتصال بالمركز ليخبرهم أن ابن شقيقه قد إصابه الجنون واتصل المأمور بمدير الأمن ثم اتصل مدير الأمن بالوزير النبوى اسماعيل الذى اتصل بالسادات.
كانت تعليمات السادات واضحة.. استعان النبوى اسماعيل بوالدة سعد حلاوة للتأثير عليه وطلبت منه أن يعود عما برأسه إلا أنه قال لها: «عودى يا أمى وافتحى قبر والدى واعتبرينى من الشهداء دفاعا عن الوطن ضد الخونة»،كما رفض سعد حلاوة توسلات خاله الشيخ نور حلاوة واتهم عمه العمدة بالخيانة ووصفه بالعميل المنتمى للحزب الوطني.
فى هذه اللحظة اطلق النبوى إسماعيل الاشارة لقتل الشاب سعد ادريس حلاوة الذى كتب بدمه قبل أن يسلم الروح : “لا إله إلا الله تعيش مصر حرة” وبعدها أصبح من الشهداء الذين أمر السادات بقتلهم.
يقول مروان سليمان حلاوة ابن شقيق سعد إن «عمو سعد» كان فى طفولته محبا لأشقائه، يتميز بالذكاء وعندما انتقل للدراسة بالقاهرة سرعان ما عاد بعد وفاة والده حيث قرر البقاء فى أجهور لمتابعة ارضه التى تركها له والده وكانت 15 فدانا زراعيا.
سعد لم يؤذ أحداً ولم يقم بإهانة المحتجزين ولم يطلق طلقة واحدة لإصابة أحد، ووصف بـ «المجنون» كما يؤكد أبناء قريته وأبناء عائلته أنهم يشرفون بتسميته.. البطل «المجنون» لأن من رفض التطبيع مع إسرائيل وعبر عنه فى هذا الوقت- بمثل ما عبر عنه سعد- كان يعنى مقاومة كبيرة لم يتوقعها أحد، ولهذا تم وصفه بـ «المجنون».
وعلى الهامش كتب نزار قباني : “مجنون واحد تفوق علينا جميعا واستحق مرتبة الشرف فى ممارسة الثورة التطبيقية قى حين بقينا نحن قى نطاق التجريد والتنظير، هذا المجنون العظيم اسمه سعد إدريس حلاوة، وعلاماته الفارقة مجنون.
سعد إدريس حلاوة كان مصريا مثقفا، ومتوازناً، وهادئ الطباع، نال شهادة البكالوريوس فى الهندسة الزراعية وربط قدره بتراب مصر، وبالنسبة لتاريخ المقاومة المصرية فإن سعد إدريس حلاوة هو أول مجنون عربى لم يحتمل رأسه رؤية السفير الإسرائيلى يركب عربة تجرها الخيول إلى قصر عابدين فى القاهرة ويقدم أوراق اعتماده إلى رئيس جمهورية مصر. فأخد مدفعا رشاشاً واتجه إلى قاعة المجلس البلدى قى قرية أجهور فى محافظة القليوبية واحتجز سبع رهائن مطالباً من خلال مكبر الصوت الذى حمله معه بطرد السفير الإسرائيلى لقاء الإفراج عن رهائنه، هذا هو مجنون مصر أو مجنون الورد الذى تناقلت وكالات الأنباء قصته باهتمام كبير فى حين قرأ العرب قصته كما يقرأون قبل النوم قصة مجنون ليلى”.
فسعد كان مثقفاً ودائم القراءة، وكان على إطلاع واسع، كونت له وجهة نظر فى الحياة، وكان يشرف على أراضى والده التى ورثها هو وإخوته ومساحتها 30 فداناً من أجود الأراضى الزراعية وجده الأكبر «إبراهيم حلاوة» عمدة أجهور الكبري، قال عنه عبد الرحمن الرافعى فى كتابه الثورة العرابية إنه كان أحد عمد القطر المصرى الذين ساندوا الثورة العرابية ووقفوا إلى جانب جيش عرابى بالخبز والتمر والمال لشراء الأسلحة، ووقعوا على عريضة مطولة تأييداً لعرابى ثم أرسلوها إلى الخديو توفيق…