إلى ماذا وكيف ستنتهي الحرب في نظام عالمي ساقط بكل احتلالاته وعنصريته؟ / فؤاد البطاينة
13 مارس 2022، 00:07 صباحًا
ما يجري من صراع بارد وساخن بعنوان الازمة الأوكرانية يُعَبر عن سقوط النظام العالمي الذي ولد من مخاض حربين عالميتين واستقر من خلال ملعوب ميثاق الامم المتحدة الذي فرضت فيه الدول المنتصرة وصايتها على بقية دول وشعوب العالم. هذا النظام يعيش اليوم سقوط آلياته وركائزه وتحصيناته وعلى رأسها عمل وفعالية مجلس الأمن، والفيتو الذي يمثل ركيزة اساسية لبقاء هذا النظام. اما العامل الحاسم في سقوطه، فلكونه نظاما قام على انتزاع الدول الكبرى لمستحقات انتصارها في الحرب من كل دول العالم. بمعنى انه نظام قام على حساب التضحية بمبدأ الأمن الجماعي للدول وشعوبها. وهو المبدأ الذي يحمي الدول الضعيفة من القوية وأطماعها.
حيث بدأ تنافس الكبار على افتراس الدول الضعيفة، فظهرت حساسية المجالات الجغرافية الحيوية. وكذا شهدنا الحرب الباردة والتحالفان الغربي والشرقي وثنائية القطبية، واستمر مع ذلك النظام العصبوي المافيوي قائماً بفضل،،الفيتو،، الذي ضَمن بقاء النظام وسيرورة الافتراس واحترام هؤلاء الكبار لمجالاتهم الحيوية ومصالحهم الاستراتيجية وتجنب وقوع حرب بينهم، إلى أن انتهت القطبية الثنائية بتفكيك الاتحاد السوفييتي وبدأ معها جنون الولايات المتحدة لاخضاع العالم ومُسخ مجلس الأمن والفيتو بالقرار الأمريكي. واستبيحت المصالح الروسية وانتهى الأمر بصحوة روسيا على نفسها التي تفعّلت مع ضعف امريكا.
فالروس أدركوا اتجاه امريكا لاستحلاب واحتكار نظام عالمي امبراطوري امبريالي مستبد من رحم النظام القائم بعمليات قيصرية. وعايشوا بناء جيش أمريكي عالمي من حلف الناتو وتوسيعه وتمدده ليخضعها ويخضع دول العالم، وابتلعوا خسارتهم بغزو الحلف للعراق، وتنبهوا وندموا على صمتهم لفقدانهم ليبيا، وقرعوا الجرس بضم القرم. إلى أن جاء غزو الحلف لسورية كمجال بحري حيوي بقي لهم في المياه الدافئة وهرعوا لانقاذها بيافطة لا لأمريكا لقد عدنا، ولعله البيان الأول. إلا أن أحلام امريكا في الإمبراطورية الامبريالية، وطموحات الروس بالعودة لتاريخها السياسي والحلفوي لن يتحقق بفعل وجود قوى عالمية أخرى تراقب المشهد وتفكر بنفسها وبمصالحها. ولذلك من المرجح أن يتخذ الصراع القائم من رحم الأزمة الأكرانية مساراً ثالثاً سياسي الطبيعة لبناء نظام عالمي توافقي جديد وسنأتي لهذا.
وبداية، فإننا نستطيع القول بأن ما يخيف أمريكا هي روسيا وهي أولويتها على الصين. فروسيا هي من تقف في مواجهة التمدد الأمريكي السياسي والعسكري وتصر على الحفاظ على مجالاتها. ونستطيع القول بأن أمريكا في حالة تراجع تاريخي داخلي وخارجي، وحيث انها لا تستطيع مواجهة روسيا عسكرياً والعكس صحيح، فهي تسعى لإقحامها في حروب مستنقعية بالوكالة ترافقها وتتبعها بحصارات اقتصادية بهدف استنزافها. بمعنى انها فعلاً تشن عليها حرباً اقتصادية انهاكية، فالحرب على اكرانيا هي صانعتها ومحبذتها وكان بامكانها ان تمنعها مسبقا بخيارات كانت متاحة أمامها، منها عدم ترك السبق العسكري لروسيا في أوكرانيا وهي تعرف بحيوية التدخل الروسي بها وحتميته، كما كان بامكانها منح الضمانات المشروعة المطلوبة لروسيا.
لا خيار لروسيا أمام استهدافها إلّا مواصلة الحرب في أوكرانيا وتحقيق هدفها فيها وهي قادرة على ذلك. ولكن ليست أوكرانيا وحدها من تشكل الخطر على روسيا بل هي النقطة التي وصل اليها مد التهديد الأطلسي الخطير. وستصر على التمسك ببرنامج حماية نفسها على مراحل طبقاً للظروف حتى تنظيف مجالها الحيوي ما دامت لا تجد حلا يغطي اهتماماتها. وليس من دولة ستصل أو توصل الأخرى للحظة كبس الزر النووي فهذا انتحار، والعقوبات الاقتصادية على روسيا هذه المرة ستكون عقوبات على العالم كله تهز أمنه من أساسه، فهي فاشله وتعمق أزمة البشرية. ومع تأكيدنا هنا على رفض مبدأ انتهاك سيادة الدول واستباحتها وتشريد شعوبها لاستخدامات استعمارية أو حمائية لطرف ثالث، إلا أن المطلوب لتحقيق هذا هو إزالة أسبابه ومبرراته الكامنة في طبيعة النظام العالمي الذي يترنح الآن في أوروبا. فالشعب الفلسطيني كان أول ضحاياه ومن حقه ان يكون أول من يزال ظلمه بتحرير بلده، فالإحتلال الحقيقي والأخطر على أمن العالم هو في فلسطين لا في أوكرانيا.
وفي هذا المفصل التاريخي للبشرية، على العالم وأوروبا ان يعلموا بأن روسيا بدخولها أوكرانيا او اي مجال حيوي لها فإنما تفعل ضمن تفاهمات النظام العالمي القائم على فساده، والذي تخرقه أمريكا وحدها، فروسيا تفعل في إطار حقوقها في هذا النظام ولم تتعداه كما فعلت أمريكا في العديد من الأقطار، إلا أن سعي روسيا لاستعادة التموضع في القطبية الثنائية والحرب الباردة لم يعد ممكناً ولا عملياً وسيؤدي لصنع أزمات أخرى كالأكرانية تهز اركان امن واستقرار العالم، علاوة على رفض دول كبرى له لا تقتصر على الصين. بمعنى أن العودة للحفاظ على النظام العالمي القائم أمر أيضاً غير ممكن عملياً. ولا بد من صياغة نظام دولي جديد من رحم الازمة الأكرانية قبل أن تتوسع وتتعمق, وأية حلول أخرى ليست أكثر من إعادة جدولة للصراع، والإبقاء على ارتهان مصير البشرية.
روسيا وحدها صاحبة القرار في وقف او استمرار الحرب وأزمتها الطاحنة بما سيتلوها. ويجب تهيئة الفرصة أمامها لوقف الحرب على أسس تفضي لسلامة البشرية. أوروبا يجب أن تأخذ في هذا دور بيضة القبان، فهي تعلم بأن لا مصلحة لها بالنظام الامريكي الامبراطوري القائد والمدمر، وبأنه لا مصلحة لها بالصراع مع روسيا لحساب أمريكا، وتعلم بأن سيدتها هي التي مهدت للتصعيد والتحريض. ومن المنطق أن تتحمل مسؤوليتها وفق وعيها وما تعلمه. وأن تأخذ موقفاً بناء باستقلالية قرارها وبوقف صب الزيت على حرائق تشعلها أمريكا. وعندها ستضطر أمريكا للتوافق على حل ينطلق من عتبة تدمير العالم او الفوضى العالمية واستحالة الإبقاء على النظام الدولي القائم، الى التوجه والدفع نحو التوافق على بناء نظام عالمي جديد وعادل.
أما تصوري لذلك هو، بأن يصاغ هذا النظام من خلال إعادة قراءة وصياغة ميثاق الأمم المتحدة الحالي وأجسامه الرئيسية الخمسة بحيث تعمل جميعها وفق ارادة الجمعية العامة الممثلة لإرادة المجتمع الدولي بكافة دوله. بمجلس أمن يضم تمثيلا جغرافيا عادلا بلا فيتو غير فيتو الجمعية العامة التي يعمل بإرادتها. ويقوم هذا النظام على تقديس الأمن الجماعي لكل دول العالم بأولوية حماية الدول الضعيفة ومقدراتها. وخال من الأحلاف العسكرية العصبوية والفئوية لصالح بناء جيش للأمم المتحدة. وعلى تقديس حرية الشعوب وحماية البشرية بتفكيك كل أسلحة الدمار الشامل وتحريمها على الجميع.
وانطلاقاً من هذا ومن مشاهدة العالم والأوروبيين لمعاناة الأوكرانيين وتعاطفهم معهم، في الوقت الذي تفاوضوا فيه عن احتلال فلسطين وعن نازيةِ ومحرقةِ ماية عام تمارس ضد الشعب الفلسطيني، فستكون القضية الفلسطينية التحدي الأكبر على سلم الأولويات امام النظام العالمي الجديد لازالة الاحتلال من جذوره دون عوائق.