الأزمة الأوكرانية: مصير أوكرانيا أم مصير العالم؟/ عدنان بدر حلو
خلفيات الحرب مع نهاية الحرب الباردة،
عندما انهار الاتحاد السوفياتي وتفكك معسكره واستفردت الولايات المتحدة الأمريكية بموقع القوة الأعظم على هذا الكوكب، تفاءل مفكرون كثيرون بأن البشرية قد أطلت على عصر من السلام العالمي تتولى فيه هذه الأمة الديمقراطية العظمى إدارة العالم كله من خلال الأمم المتحدة وشرعيتها وقوانينها، دونما حاجة للسلاح والحروب.وبرز من يقول إن الإنفاق الدولي الهائل على التسلح لم يعد له مبرر!! وبالتالي فإن دولا مثل الولايات المتحدة وغيرها من ذوات الإنتاج الحربي الكبير، بات بمقدورها توفير أرقام فلكية من الأموال أطلق عليها أسم عائدات السلام (Peace dividends)، وبالإمكان تحويلها لمعالجة أوضاع ومشاكل وآفات على مستوى العالم كله ولخير البشرية جمعاء.
غير أن هذا المناخ التفاؤلي كان مختلفا جدا عما كان يدور في رؤوس أركان المجمع الصناعي العسكري وما هو متصل به من بيوتات الأموال ودهاليز الطبقة السياسية الأمريكية. (الفئة التي حذر منها الرئيس أيزنهاور في خطابه الوادعي عند نهاية ولايته). إذ كان شاغلها أمام هذه الفرصة التاريخية هو كيف يمكنها السيطرة على العالم والتحكم بمقدراته في أربعة أرجائه.وهكذا برز، كبديل عن عصر السلام المأمول، توجه نحو عصر جديد من الحروب الأمريكية في أكثر من مكان وأكثر من اتجاه:1- بدلا من حل حلف الأطلسي (كما جرى لحلف وارسو) ونشر مظلة سلام دولية فوق القارة الأوروبية لأول مرة في تاريخها المعروف، وخلافا لما تعهد به جيمس بيكر (وزير الخارجية في عهد الرئيس بوش الأب) ونظراؤه الأوروبيون للزعيم السوفياتي غورباتشيف، بعدم تقدم الحلف نحو الدول الأوروبية الشرقية مقابل اعتراف الاتحاد السوفياتي بوحدة ألمانيا، جرى العكس تماما من حيث تعزيز ذلك الحلف والامتداد به شرقا وتوظيفه في أبشع جرائم العصر على امتداد منطقة البلقان (حروب تفكيك يوغسلافيا التي ذهب ضحيتها مئات آلاف الأشخاص).
وكان ذلك من ضمن محور التحرك لوضع اليد الأمريكية على أوروبا الشرقية كلها وصولا إلى الإطباق على بقايا الاتحاد السوفياتي بما فيه نواته الروسية التي استطاعوا اختراقها بالتخريب والفساد والإفساد كمقدمة لتفكيكها كليا
.2- هذا في الغرب أما في الشرق فكانت الحرب الأمريكية على أفغانستان من أجل الاستيلاء على المخلفات الشرقية للاتحاد السوفياتي ووضع اليد على المخزونات النفطية والغازية والمنجمية الأخرى في حوض وسط آسيا.
3- وبعدها كان غزو العراق لاستكمال السيطرة الأمريكية على نفط الخليج والجزيرة العربية، وإتمام الإطباق على عصب الاقتصاد العالمي والتحكم بمقدراته كلها. فعن طريق هذه السيطرة “الطاقية” الشاملة تمسك واشنطن بخناق الدول الناهضة الأخرى التي يمكن أن تفكر بمنافسة الولايات المتحدة كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها.لم تكتف واشنطن بهذا الغزو الحربي المكثف، بل أرفقته بممارسات سلطوية في الكثير من بلدان العالم، لفرض السيطرة المباشرة على الحكام والشعوب. إذ واكبت حروبها تلك بالعمل على ضبط انصياع أوروبا لسلطتها، بعد أن كان بعض القادة الأوروبيين قد أبدوا شيئا من الاستقلال في معارضتهم للغزو الأمريكي للعراق، وبشكل خاص الثلاثي الألماني الفرنسي الروسي. وقد ساهمت السيطرة الأمريكية على معظم (بل ربما جميع) دول أوروبا الشرقية إثر انسلاخها عن المعسكر الاشتراكي وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في دعم السطوة الأمريكية على مجموع دول ذلك الاتحاد! ولجأت في السياق ذاته إلى استخدام سلاح “العقوبات” المباشرة التي تستهدف الدول والمؤسسات وحتى الأشخاص. بحيث لا يعود نافذ في هذا العالم ليتجرأ على القيام بأي تحرك أو نشاط أو ممارسة نهج يخالف رغبات الدوائر في واشنطن. (ولنا في لبنان حاليا خير مثال على ذلك حيث باتت السفيرة الأمريكية تسوق السياسيين بعصا العقوبات إلى حيثما تريد: فمن أصابته العقوبات بات منصاعا على أمل رفعها عنه ومن لم تصبه انصاع خوفا من فرضها عليه)!
لقد بدا جليا بالفعل أن الدولة الأمريكية العميقة كانت تعمل بكل جهد على التحول إلى حكومة عالمية متكاملة الأركان والسلطة والأدوات.لم تجر الرياح كما تشتهي السفن! لماذا؟ مع أنه لم تكن هناك في كل هذه المحاور قوة مؤهلة فعلا لصد الهجوم الأمريكي فائق القدرات والقوة!صحيح أن حروب البلقان حققت أغراضها العسكرية المباشرة بتقسيم يوغسلافيا إلى مزق ودويلات استوعبتها الولايات المتحدة تحت عباءتها. لكنها في الوقت نفسه كشفت لروسيا المتهالكة عما يهيئه الغرب لها من مصير، ما أشعل لدى الشعب الروسي، المهان والمقهور، غضبا وحقدا راحا يغذيان لديه عصبيتين: قومية روسية ودينية أرثوذكسية، تتفاعلان وتتصاعد تراكماتهما يوما بعد يوم ليشكلا المادة الصالحة لاسترداد شيء من العافية ساعد عليه الارتفاع غير المسبوق لأسعار النفط في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين (ناطح سعر البرميل المائة والخمسين دولارا) ما أتاح للقيادة “البوتينية” الجديدة (التي كانت قد واجهت بدايات مشروع التفكيك الداخلي في “الثورة الإسلامية” الشيشانية) فرصة التحرر من ربقة الديون المتراكمة التي كانت تشكل قيدا غليظا يحول دون نهوض روسيا من جديد. وبات ممكنا إعادة القطار الروسي إلى سكة “القيامة” واستعادة القوة والعمل على استئناف تطويرها. وقد شكل هذا النهوض الروسي فشلا كبيرا للمحور الحربي الأمريكي الأول (حرب البلقان) ومنعه من الوصول إلى نهاياته المتوخاة (السيطرة على روسيا وتمزيقها).
أما المحور الثاني (الاستيلاء على الحوض النفطي والغازي في آسيا الوسطى)، فبدلا من أن تؤدي الحرب هناك إلى بناء “أمريكستان” في الدول الإسلامية السوفياتية السابقة، تطوق روسيا من جهة وتشكل “كوريدورا” عازلا بينها وبين الصين من جهة أخرى، كما تساهم في تطويق الأخيرة، بدلا من ذلك كله تحولت إلى حرب استنزاف لأمريكا نفسها أهدرت فيها الكثير من طاقاتها البشرية والمادية والعسكرية إلى أن شهدنا نهايتها في الانسحاب المذل الذي رافق تولي جون بايدن لمنصب الرئاسة الأمريكية. ولم تجر الأمور في المحور الثالث (غزو العراق واستكمال وضع اليد على نفط الشرق الأوسط للتحكم بتجارة الطاقة على المستوى الدولي) كما كان مخططا لها. فلم تكن النتائج بأفضل مما كانت عليه في المحورين السابقين. إن هذا الفشل المركب لم يأت من مقاومة متفوقة بمستوى القدرة على صده أو تعطيله! فهو –كما أشرنا سابقا-لم يواجه قوة قادرة فعلا على أن تشكل ندا له! بل أتى بمعظمه من أسباب داخليه:إن الإنفاق الفلكي الهائل الذي ضاعف ثروات المجمع الصناعي -العسكري -المالي قد جرى على حساب الحاجات الأساسية للمجتمع الأمريكي ذاته. لاسيما في العهود “الجمهورية” الثلاثة (ريغان وبوش الأب وبوش الابن).. صحيح أن الإنفاق والأرباح الهائلة كانت تتحقق داخل الولايات المتحدة، لكنها تتركز في حسابات القلة النخبوية للدولة العميقة، فيما كان يتم تبديد الإنتاج نفسه، الناجم عن هذه الآلية المستجدة، في ساحات الحروب الخارجية. تماما كما يجري تبديد الثروة البشرية التي يشكلها مئات آلاف الجنود الأمريكيين المشاركين في تلك الحروب “العالمية”.
ترافق هذا الهدر في الإنفاق الحربي مع بلوغ “العولمة” حقبة شديدة الخصوصية حيث سيطرت عليها ظاهرة خروج الشركات الكبرى من النطاق الوطني إلى النطاق العالمي وما رافقه من تصدير المشاريع ورؤوس الأموال إلى البلدان ذات اليد العاملة الرخيصة، ما أفقد شعوب أصحاب هذه الرساميل “المهاجرة” ملايين فرص العمل.لقد نجم عن ذلك ترد لا سابق له في مجالات الانفاق الأمريكي الداخلي غير العسكري. فتراجعت النظم الاجتماعية (الصحة والتعليم والبنى التحتية الخدمية بجميع أشكالها). مما أدى إلى ارتفاع نسب البطالة وتراكم الديون والعجز عن تسديدها وانفجار فقاعاتها الزلزالية في أزمة 2008 التي هزت البنيان المالي الأمريكي من جذوره. وما تزال آثاره قائمة حتى الآن (لقد أعلن جو بايدن فور انتخابه عن عزمه على تخصيص تريليونين ونصف التريليون من الدولارات لمشاريع البنى التحتية المهملة منذ عقود)! يقول باراك أوباما في مذكراته عن فترة حملته الانتخابية صيف 2008 “لقد أدى تشابك عوامل العولمة والثورة التكنولوجية الحديثة إلى تشويه عميق للاقتصاد الأمريكي منذ عقدين على الأقل.. فالصناعات الأمريكية نقلت مواقع إنتاجها إلى الخارج لتتمكن من إعادة تصدير إنتاجها الأرخص المصنوع بأيدي عاملة أقل كلفة إلى السوق الأمريكية وهي تحمل علامات أرقى الشركات، فلم تبق أي فرصة مزاحمة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة”. (الصفحة 237 من النسخة الفرنسية من مذكراته التي تحمل عنوان “أرض الوعد”) ويعود بعد ذلك مباشرة إلى الحديث عن بدايات الانهيار وقيام العديد من المصارف والمؤسسات المالية وشركات التأمين بإعلان إفلاسها. وكيف دعاه الرئيس بوش الابن هو والمرشح الجمهوري جون ماكين إلى اجتماع في البيت الأبيض مع عدد من أركان الحكومة ورئيسي مجلسي النواب والشيوخ ورؤساء اللجان المعنية فيهما من أجل التفاهم الجماعي على تمرير مشروع قانون (TARP اختصارا ل برنامج طوارئ من أجل تعافي الأصول المالية المتضررة) يسمح للحكومة بإنفاق 700 مليار دولار لإنقاذ تلك المؤسسات. (ص 244 من المصدر السابق).من أين تأتي الحومة الأمريكية بهذه الأموال؟إنها تستدينها قسرا من جميع دول العالم!! كيف؟عن طريق طبع الدولارات بدون أي تغطية وضخها في السوق العالمية. فقط بضمانة الثقة بموقع القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأمريكية. (وذلك منذ أن قام الرئيس نيكسون بفك ارتباط الدولار بالذهب عام 1971).
وهذا بالذات ما يجعل الدولة الأمريكية مصرة على منع أي قوة أخرى من منازعتها على هذا الموقع.. لأن خسارة الدولار الأمريكي لهذه الثقة يعني الاستحقاق الفوري لكل ما على الولايات المتحدة من ديون في سوق المال الدولية. علما أن هذه الديون بلغت في شهر آب 2021 ما مقداره 5و28 تريليون دولار.
(1)لقد أضيف هذا الاختلال البنيوي المجتمعي الداخلي إلى الارتدادات الناجمة عن مآلات الحروب الخارجية. فكان أن أصيب مشروع إخضاع العالم لسيطرة الدولة الأمريكية العميقة بانتكاسة مصيرية. ولما كانت الحياة لا تقبل الفراغ، بدأت هذه الفجوة تتيح المجال لنهوض قوى جديدة على المسرح الدولي: أولها الصين التي استثمرت، واستفادت من استثمارات الآخرين، في (كنوز) الحجم الكبير لليد العاملة الصينية ورخص أجورها كعامل حاسم في المزاحمة الدولية على تقليص أكلاف الإنتاج من أجل ربح المنافسة في الأسواق العالمية. فتدفقت عليها رؤوس الأموال والمعارف والتقنيات الحديثة ما حقق لها نموا يكاد يكون خرافيا خلال ثلاثة عقود فقط. وجرى الأمر نفسه تقريبا مع الهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا. وهكذا ولد تجمع دول (البريكس) الذي بدأ ينهض في مواجهة تجمع عبر الأطلسي (الأوروبي- الأمريكي). لقد أحدثت هذه النتائج نوعا من الردة داخل المجتمع الأمريكي كان من معالمها نجاح الشاب عضو مجلس الشيوخ الحديث والأفريقي الأصل باراك أوباما في انتخابات الرئاسة عام 2008 في حملة تركزت بشكل خاص على شعارات إنهاء حروب أمريكا الخارجية واستعادة جنودها إلى بيوتهم وإغلاق معسكر غوانتنامو. والترجمة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الشعارات.وإذا كان قد فشل في تحقيق وعوده الانسحابية (رغم نجاحاته الأخرى وفوزه بالرئاسة لدورة ثانية) فما ذلك إلا بسبب مقاومة الدولة العميقة وتمسكها بمشروعها “الاستيلائي” على العالم رغم ما واجهه من عثرات.حتى رجل الأعمال الشعبوي دونالد ترامب الذي بنى شعبيته، ومن ثم نجاحه في الحصول على تمثيل “الحزب الجمهوري” وصولا إلى البيت الأبيض في انتخابات عام 2016، من خلال تركيزه على شعارات “استرداد أمريكا وشركاتها ورؤوس أموالها إلى أرض الوطن”! تعرض هو الآخر لمقاومة علنية من قبل المجمع الصناعي العسكري، النواة الصلبة للدولة العميقة. وكلنا يتذكر وعوده المتكررة بالانسحاب من سورية والعراق التي كان يضطر للتراجع عنها بعد إعلانه لها بعظمة لسانه. رغم كل النتائج السلبية لهذا المشروع الحربي التوسعي وما أحدثته ارتداداته من انشقاقات داخلية هددت النظام الديمقراطي الأمريكي نفسه (كما في الهجوم على الكابيتول) لم تتخل الدولة العميقة عنه، وإن كانت قد أدخلت عليه تعديلات تتعامل مع التطورات التي حدثت في العالم خلال العقدين الماضيين. فظهرت إلى العلن نظرية نقل التركيز الأساس على مسرح العمليات من أوروبا والشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى لاحتواء الصعود الصيني ومواجهة ذلك التنين الذي بات مزاحما جديا لموقع الولايات المتحدة على قمة العالم. طبعا دون التخلي عن مواصلة العمل حيث أمكن في المحاور السابقة.في هذه الأثناء كان بوتين يواصل على رأس القيادة الروسية الجديدة، عملية “بعث” الدب الروسي وإحياء جبروته: أولا بالتصدي المباشر لتهديدات التمزيق والنتش داخل الاتحاد الروسي (كما في الشيشان) وعلى أطرافه (كما في جورجيا). وثانيا بإحياء الصناعات العسكرية، التقليدي منها والمحدث والحديث والأكثر حداثة.عام 2011 انفجرت الأزمة السورية في المركز العصبي لمنطقة الشرق الأوسط! وجذبت تفاعلاتها وتطوراتها تدخلات إقليمية ودولية لم يسبق أن استأثرت بها أزمة إقليمية منذ حرب السويس عام 1956.
وصار واضحا بعد ما جرى من تحولات في مجرى “الثورة السورية” باتجاه سيطرة القوى “الإسلامية” المتطرفة ونشر “داعش” لدولة خلافتها على مساحات واسعة من الأراضي السورية والعراقية، أن ثمة خطرا كبيرا يهدد بالامتداد إلى عمق آسيا الوسطى واكتساح معظم الدول الإسلامية السوفياتية السابقة وصولا إلى روسيا نفسها (خاصة وإن الحركات الإسلامية المشار إليها كانت تضم في صفوفها عددا كبيرا من المتطوعين من أبناء تلك الجمهوريات بما في ذلك الإيغور الصينيين)! يقول بوتين نفسه حرفيا: “نعم إنها مشكلة خطيرة جدا. ولدينا فيها أهداف خاصة بنا. ثمة آلاف المتطوعين من أصول روسية ومن الجمهوريات السوفياتية السابقة يقاتلون هناك وبإمكانهم العودة إلى روسيا.. يجب أن نجعل ذلك مستحيلا بأي شكل” (الصفحة 204 من الطبعة الفرنسية من كتاب “حوارات مع بوتين” للمخرج الأمريكي أوليفر ستون).عام 2015 عندما بلغت الأمور في سورية درجة عالية من الخطورة، اتخذ بوتين قراره بالتدخل المباشر في تلك الحرب الذي لم تقتصر نتائجه على نصرة النظام هناك وإحداث تغيير عسكري جذري لصالحه، بل جدد أيضا الحضور الدبلوماسي الدولي للدب الروسي (على صعيد مجلس الأمن: الاستخدامات المتكررة لحق النقض “الفيتو”) ومنح روسيا حضورا سياسيا وعسكريا إقليميا يذكّر بما كان للاتحاد السوفياتي في سنوات الخمسينيات والستينيات، خاصة بعد الحصول على قواعد بحرية وجوية ثابتة لعشرات السنين على الأراضي والشواطئ السورية، أي بمواجهة الجناح الجنوبي الشرقي لحلف الأطلسي.لقد أدخل هذا التغيير معطى جديدا على المعادلة الدولية في المنطقة:أولا: من قبل الولايات المتحدة التي اضطرت لتأجيل انسحابها العسكري من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، فجددت حضورها المكثف في المنطقة وبمواجهة الوجود العسكري الروسي على الأرض السورية تحديدا، رغم عدم وجود أي تغطية شرعية لهذا الحضور. كما قامت بنقل معظم قواتها من قاعدة العيديد في قطر وغيرها من القواعد في الخليج والجزيرة العربية لتحشدها كلها في قاعدة واحدة أنشئت بسرية في الصحراء الأردنية، وبذلك توفرت للولايات المتحدة شبكة عسكرية متكاملة (قاعدة رئيسة تتفرع عنها عدة محاور) في مواجهة الوجود العسكري الروسي على الأراضي السورية. وإن كان ذلك تحت مسمى “محاربة الإرهاب” أو دعم المسلحين الأكراد أو غير ذلك.كما شرعت في تصعيد هجومها المباشر على المحور الأوروبي الروسي وبالذات في أوكرانيا ومن خلالها، بالتوازي مع تصعيد نشاطها في جورجيا وكازاخستان ودول البلطيق وغيرها من دول الغلاف المحيط بروسيا من أكثر من جهة. ثانيا: من قبل الصين التي لاءمها التأخر العسكري الأمريكي في المنطقة، فواكبت المواقف الروسية في المحافل الدولية. وبدأ يتمظهر نوع من التوافق الصيني- الروسي المعبر عن تقارب تعاوني سياسي واقتصادي وعسكري على أكثر من صعيد وفي أكثر من منطقة وساحة. لقد اتخذت إحدى شعب المشروع الاستراتيجي الصيني (حزام وطريق) على محور بكين –موسكو بعدا كونيا يشكل تحديا بارزا للهيمنة الأمريكية التي بدت عليها بعض ملامح الترنح في أكثر من مكان. وقد بلغت تجليات هذا المستجد الدولي ذروتها في لقاء القمة الصيني –الروسي الذي عقد في بكين على هامش افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في الرابع من شهر شباط الماضي وما أعلن في ختامه من تفاهمات واتفاقات بالغة الأهمية أطلق عليها وصف “التعاون بلا حدود”. فشكل ذلك التاريخ ميلاد حلف جديد بغض النظر عن إعلان صفته التحالفية أم لا!هذا البروز الروسي المتجدد على المسرح الدولي (من خلال الأزمة السورية) متواكبا مع التوجه التحالفي نحو الصين، جعل الدولة الأمريكية العميقة تعيد النظر بأولويات خططها للمواجهة الدولية. ذلك أن مجابهة القوة العسكرية الروسية الأكثر تقدما وخطورة من نظيرتها الصينية، وإن كانت مستندة إلى قاعدة اقتصادية أضعف بما لا يقاس من القاعدة الاقتصادية الصينية، باتت أكثر أهمية وأقل خطورة من المجابهة المباشرة مع الصين في وقت واحد. يضاف إلى ذلك أن الأزمة الأوكرانية المشتعلة منذ 2014 كانت جاهزة كمبرر وساحة لهذه المجابهة.أوكرانيا، التي يبلغ عدد سكانها 13و44 مليون نسمة ومساحتها 603548 كم مربعا (أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة، باستثناء روسيا بقسميها الأوروبي والآسيوي معا)، كانت تاريخيا جزءا من الدولة الروسية ودرة تاج الاتحاد السوفييتي وسلة غذائه. وحتى بعد تفكك ذلك الاتحاد وإعلان استقلالها كدولة أوروبية، عانت من اضطرابات سياسية محمومة نتيجة تنازع الاتجاهات فيها بين الرغبة القوية بالانضمام إلى موكب دول أوروبا الشرقية المتجه نحو الغرب، وبين الروابط القومية والدينية والتاريخية التي تشد قطاعا واسعا من سكانها نحو الإبقاء على علاقات وثيقة مع الدولة الروسية التي تربطها معها حدود مشتركة يبلغ طولها 402 كم.. في خضم هذا التنازع اندلع في أوكرانيا عام 2005 ما عرف باسم “الثورة البرتقالية “التي صارت تنتسب إليها معظم الثورات التي شهدها العالم فيما بعد وأطلق عليها اسم “الثورات الملونة”. وقد نجحت تلك “الثورة” المدعومة بقوة من قبل الولايات المتحدة، في الإطاحة بالنظام الذي كان يتولى منصب رئيس الوزراء فيه فيكتور يانوكوفيتش ذو الميول الروسية. غير أن الأخير عاد وفاز برئاسة الدولة في انتخابات 2010. ليواجه من جديد بمعارضة قوية من قبل أنصار التوجه الغربي المدعومين أمريكيا، فتصاعدت تحركاتهم في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة قد باشرت في تجديد تحركها المعادي لروسيا على هذا المحور. ولم يكن الحضور الأمريكي في تلك التحركات مخفيا بل كانت مشاركة الدبلوماسيين الأمريكيين (وخاصة السفيرة فيكتوريا نيولاند 2014) العلنية فيها متعمدة لمنح أنصارهم مقدارا وافرا من مصداقية الدعم الأمريكي لهم. (على غرار تحركات السفير الأميركي روبرت فورد في سورية عام 2011). وقد نجحت تلك “الثورة” البرتقالية المتجددة عام 2014 في اقتحام القصر الرئاسي بينما كان يانوكوفيتش في زيارة لموسكو. ما أشعل حربا أهلية بين أنصار الفريقين اللذين تقاسما النفوذ ما بين منطقتين: شرقية موالية للروس وغربية موالية للأمريكيين.على هامش مسار تلك الحرب أعلنت موسكو عن قيام سكان شبه جزيرة القرم بإعلان استقلالهم عن الدولة الأوكرانية وإجراء استفتاء قرروا فيه الانضمام إلى الاتحاد الروسي. الأمر الذي رحبت به موسكو معتبرة إياه تصحيحا ل “خطأ” سابق. باعتبار أن ضم القرم إلى دولة أوكرانيا كان قد جرى في منتصف الستينيات إبان عهد نيكيتا خروتشيف على ضوء اعتبارات كانت تتعلق آنذاك بالخطط العسكرية الاستراتيجية للاتحاد السوفياتي.يضاف إلى ذلك أن موسكو منحت الدعم والحماية لسكان منطقة الدونباس (شرقي أوكرانيا) الذين تعود أكثريتهم لأصول روسية وخاضوا القتال في وجه قوات كييف الموالية للانقلابين، وأعلنوا استقلالهم في جمهوريتين: دونتسك ولوهانسك. وقد استمرت الحرب الأهلية عدة أشهر أشرفت خلالها روسيا والاتحاد الأوروبي على محادثات شارك فيها الطرفان المتحاربان في منسك عاصمة بيلوروسيا. وقد تم التوصل عام 2015 إلى بروتوكول عرف باسم تلك العاصمة، لكنه لم ينجح في وقف القتال فاستؤنف الحوار مرة أخرى في لقاءات النورماندي التي ضمت ممثلين عن روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، وتم التفاهم على تجديد الالتزام ببروتوكول منسك الذي ينص على وقف القتال والاعتراف باستقلال أوكرانيا ووحدتها ضمن نظام لا مركزي وإجراء انتخابات جديدة. يبدو أن الولايات المتحدة لم تكن راضية عن ذلك التوافق الأوروبي -الروسي! فلجأت على الفور إلى تحريض جماعة كييف ودفعهم للامتناع عن تنفيذ ذلك البروتوكول واستئناف عملياتهم العسكرية ضد المنطقة الشرقية، وتصعيد التوتر مع موسكو (سقط في تلك العمليات على أراضي منطقة الدنباس ما بين 2014 و2022 ما يزيد عن 13000 قتيل). ثم استكمل هذا التصعيد بالتدخل المباشر من قبل حلف الأطلسي الذي أجرى ست مناورات عسكرية (برية وبحرية) في الأراضي الأوكرانية والبحر الأسود عام 2021. كما “كان مقررا إجراء عشر مناورات دولية كبيرة عام 2022، في ظل زيادة “الأنشطة العدائية” لروسيا ووكلائها، والذي أثار المخاطر من اندلاع حرب مفتوحة بين الجارتين. سيشارك فيها 21500 جندي أوكراني و11ألف جندي من الولايات المتحدة” (رويتر 30/11/2021).
هذا في ظل مباشرة المساعي لإتمام عملية انضمام أوكرانيا إلى “الناتو” ونقل الكثير من أسلحته المتطورة إلى الأراضي الأوكرانية، بكل ما يعنيه ذلك من تحد وتهديد للأمن القومي الروسي سواء باستكمال الطوق الغربي للحدود الروسية أو نشر الصواريخ متوسطة المدى على بعد سبع دقائق من العاصمة موسكو، أو الالتزام بمبادئ الحلف الملزمة لأعضائه بالدفاع عن أي عضو من أعضائه في حال تعرضه للحرب مع دولة من خارجه. يضاف إلى كل ما تقدم تهديد الرئيس الأوكراني فولودومير زيلنسكي أمام مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط الماضي بانسحاب بلاده من مذكرة بودابست 1994 الموقعة من قبل روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وأوكرانيا والتي تم بموجبها التخلص من ثالث ترسانة نووية في العالم (1900 رأس نووي) من مخلفات الاتحاد السوفياتي في الأراضي الأوكرانية، ملوحا باستئناف العمل في المنشآت النووية لإعادة إنتاج أسلحة ذرية.وكان ملفتا جدا في وسط أجواء التوتر التي تعاظمت بين روسيا وأوكرانيا أن تنفجر في الثاني من كانون الثاني الماضي “ثورة ملونة” كاسحة في جمهورية كازاخستان سيطرت على معظم البلاد خلال يومين، ما جعل روسيا تلجأ على الفور إلى “معاهدة الأمن الجماعي” التي تضمها مع ست من الجمهوريات السوفياتية السابقة، فترسل قوات تدخل سريع تعمل فورا على إخماد الانتفاضة التي لم يكن مستبعدا وجود ترابط بين اندلاعها في شرق روسيا وبين تصاعد التوتر مع أوكرانيا في غربها.حتى الحرب بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناغورني كرباخ عام 2020 لم تكن ببعيدة عن هذه العملية (عملية إشعال الحرائق في المحيط الروسي).لقد رأت موسكو في هذا التحرك العسكري الأمريكي المترابط في شرق روسيا وغربها وجنوبها، مقدمة لاختراق جديد يهددها في عقر دارها من خلال المحور الهجومي الذي تشكله الحال الأوكرانية.ومن المؤكد أن الرئيس بوتين كان يحمل معه عند زيارته لبكين من أجل المشاركة في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية” في الرابع من شباط الماضي، خارطة هذه التحركات الأمريكية التي تستهدف روسيا بمقدار ما تستهدف الحلف الروسي -الصيني. ولعل خير من عبر عن حقيقة هذا الموقف هو المذيعة الصينية التي نقل عنها بعد انفجار الحرب في أوكرانيا أن أمريكا تقول للصين: “ساعدوني على التخلص من روسيا في أوكرانيا كي أتفرغ بعدها للتخلص منكم”!لقد أقدم بوتين بعمليته العسكرية على الأراضي الأوكرانية على خطوة حربية استباقية، مشهرا فيها مطالبه الواضحة:
1- إسقاط النظام الأوكراني الحالي وتجريد أوكرانيا من السلاح
.2- نزع أسلحة المنظمات النازية الجديدة وحلها وتصفيتها.
3- الاعتراف بانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا.
4- الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونتسك ولوهانسك.
5- إعلان حياد الدولة الأوكرانية والالتزام بعدم انضمامها إلى حلف الأطلسي.غير أن الأهم في تلك الخطوة الاستباقية قبل جميع المطالب المعلنة، أنها انتزعت من أيدي قادة الدول الغربية زمام المبادرة في موضوع الحرب العالمية الثالثة. إذ وضعتها وجها لوجه أمام معادلة: إما القبول بحل وإما المجابهة التي تزج العالم في أتون حرب عالمية مهلكة. بدلا من أن يترك المبادرة لهم بأن يشنوا هم الحرب ليضعوه أمام خيار مشابه ومعاكس: إما الاستسلام وإما الحرب العالمية! خاصة إذا كانت أوكرانيا قد أصبحت عضوا رسميا في حلف الأطلسي!
وكان ذلك من ضمن محور التحرك لوضع اليد الأمريكية على أوروبا الشرقية كلها وصولا إلى الإطباق على بقايا الاتحاد السوفياتي بما فيه نواته الروسية التي استطاعوا اختراقها بالتخريب والفساد والإفساد كمقدمة لتفكيكها كليا
.2- هذا في الغرب أما في الشرق فكانت الحرب الأمريكية على أفغانستان من أجل الاستيلاء على المخلفات الشرقية للاتحاد السوفياتي ووضع اليد على المخزونات النفطية والغازية والمنجمية الأخرى في حوض وسط آسيا.
3- وبعدها كان غزو العراق لاستكمال السيطرة الأمريكية على نفط الخليج والجزيرة العربية، وإتمام الإطباق على عصب الاقتصاد العالمي والتحكم بمقدراته كلها. فعن طريق هذه السيطرة “الطاقية” الشاملة تمسك واشنطن بخناق الدول الناهضة الأخرى التي يمكن أن تفكر بمنافسة الولايات المتحدة كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها.
لم تكتف واشنطن بهذا الغزو الحربي المكثف، بل أرفقته بممارسات سلطوية في الكثير من بلدان العالم، لفرض السيطرة المباشرة على الحكام والشعوب. إذ واكبت حروبها تلك بالعمل على ضبط انصياع أوروبا لسلطتها، بعد أن كان بعض القادة الأوروبيين قد أبدوا شيئا من الاستقلال في معارضتهم للغزو الأمريكي للعراق، وبشكل خاص الثلاثي الألماني الفرنسي الروسي. وقد ساهمت السيطرة الأمريكية على معظم (بل ربما جميع) دول أوروبا الشرقية إثر انسلاخها عن المعسكر الاشتراكي وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في دعم السطوة الأمريكية على مجموع دول ذلك الاتحاد!ولجأت في السياق ذاته إلى استخدام سلاح “العقوبات” المباشرة التي تستهدف الدول والمؤسسات وحتى الأشخاص. بحيث لا يعود نافذ في هذا العالم ليتجرأ على القيام بأي تحرك أو نشاط أو ممارسة نهج يخالف رغبات الدوائر في واشنطن. (ولنا في لبنان حاليا خير مثال على ذلك حيث باتت السفيرة الأمريكية تسوق السياسيين بعصا العقوبات إلى حيثما تريد: فمن أصابته العقوبات بات منصاعا على أمل رفعها عنه ومن لم تصبه انصاع خوفا من فرضها عليه)!لقد بدا جليا بالفعل أن الدولة الأمريكية العميقة كانت تعمل بكل جهد على التحول إلى حكومة عالمية متكاملة الأركان والسلطة والأدوات.لم تجر الرياح كما تشتهي السفن!لماذا؟