أصدرت دار “كلمة” في تونس للصديق محمد الصالح المعالج كتابا لي، وضعت له كعنوان كلمة “سرابس”، ومنذ صدر الكتاب والتساؤلات تلاحقني حول معنى التسمية.
وقد يغضب البعض وهو يلاحظ أن ما سوف يقرأه يتزامن مع أحداث أوكرانيا التي يلهث العالم وراء تطوراتها وينتظر الكثيرون بعض ما يمكن أن يلقي الضوء على خلفياتها وتداعياتها ومآلاتها، ويأتي في سياق زمني لقممٍ مشبوهة تعقد في الشرق ولقاءات مفضوحة تتم في الغرب وبيانات تضامن من باب رفع العتب، وهجومات غبية على عبد الباري عطوان الذي لم يفعل أكثر من بعض ما قام به إعلام الناتو ضد “الإرهاب” الروسي.
وأعترف أنني أشعر بالكثير من الغيرة لعجزي عن منافسة المحللين والأكاديميين والسياسيين والخبراء الاستراتيجيين الذين غصّت بهم الفضائيات العربية والأوربية، حيث قدرتُ أنني لا أملك المعطيات الضرورية والمعلومات الأساسية للتعامل مع مؤامرة الحلف الأطلسي بقيادة واشنطن، والتي أكدت أن الجنرال شارل دوغول كان على حق في شكوكه ومخاوفه، وخصوصا بعد أن أصبحت جل القنوات الفضائية، بما فيها بل وعلى رأسها الفضائيات العربية، جزءا من إعلام “الناتو”، واختفى الرأي الآخر أو كاد.
كتاب سرابس يحاول، ضمنيا، دراسة بعض أسباب العثرات التي عرفها الوطن العربي، وهو يُقدم، تاكتيكيا، شخصيات عشت معها وسردا لمواقف اتخذتُها واستعراضا لآراءَ عبرتُ عنها وإبرازا لخلفيات لم تتضح بشكل كافٍ عندما استعرضتها سابقا في مقالاتي، وهو تلخيص لمسيرة أكثر من نصف قرن، ولجلّ ما نشرتُه خلال نحو خمسة عقود، قدمت خلالها نحو 20 كتابا ومئات الأحاديث الصحفية وعشرات اللقاءات المتلفزة.
وكنت تناولت في أحاديثي تفاصيل كثيرة من الحياة في دهاليز السلطة وكواليس الحكم، رأيتها ضرورية ليتضح المشهد العام أمام قارئ لم يعش قِمم تلك الأيام ولم يتعرف على معطياتها التي لا يراها الكافة وإن طالتهم نتائجها، لكنني، ولأنني لا أرضى أبدا عن عمل أنجزته، أحسست بأنني لم أتعرض بما فيه الكفاية لكل الأحداث والمعطيات، وربما بوجه خاص للعلاقات الوظيفية مع السلطات الآمرة، خصوصا فيما يتعلق بموازين القوة التي ترتبط بما اتفق على تسميتها بالبطانة، والتي يبدو أنها، إلى حد كبير، الجزء المغمور من جبل الثلج الذي تمثله السلطة، أي سلطة.
فالسلطات العليا ترتكز، فيما تتخذه من قرارات تمس الأشخاص أو تتناول التعامل مع الأحداث، على معطيات تقدمها مصادر متعددة، يخطئ البعض في الدول النامية فيظن أنها مقصورة على أجهزة الأمن، أو “السرابس” بالتعبير الشعبي، وهي كلمة مشتقة من نطق عربي مُحرّف لكلمة (SERVICES) الفرنسية ولها أحيانا مفهوم قدْحيّ، فلتلك الأجهزة تأثير يتفاوت قوة وضعفا وسلبا وإيجابا في كل مسيرة سياسية وكل حركة إدارية.
لكن مصادر السلطات العليا، التي تعتمد عليها في الكثير من قراراتها، ليست مقصورة على تقارير الأمن، فقد تكون أحيانا، وغالبا أحيانا، من إيحاء العائلة الصغيرة بمختلف أفرادها، والتي تكون عادة تحت تأثير عدد من الأقارب والأصدقاء، لكلٍّ خلفياته وأهدافه ومصادره، وقد يتسرب إلى دائرة التأثير عدد من “رجال المال” (وأفضل هذه الصفة عن صفة “رجال الأعمال”) لأن بعض هؤلاء هم دخلاء على عالم الأعمال من باب “الترابندو” وتجارة الشنطة، وأحيانا نتيجة للتلاعبات البنكية بفضل العلاقات مع الأقارب والمنتمين إلى “الدشرة” أو القرية أو المنطقة، وسواء بشكل مباشر أو بتعليمات من عناصر سلطة نافذة، قد تكون لها غالبا نسبة من الأرباح النهائية، والتي قد يكون من أبسط فوائدها تشغيل إحدى القريبات أو تدعيم شركة أنشأها ابن أو أخ أو صهر أو خليل.
وبعض رجال المال أولئك هم أصحاب شركات لم تلتزم بالمقاييس التجارية السليمة التي تحدد تركيبة مسحوق القهوة أو سوائل التنظيف أو المياه المعدنية، ومنهم مقاولون دخلاء تسلموا مستحقاهم كاملة من الدولة ولكنهم لم يوفوا بالتزاماتهم كاملة بالنسبة للمباني التي كلفوا بإنشائها، وتغاضى مسؤولون محليا عن القصور والتقصير فتسلمها المواطنون المضطرون وهي غير صالحة للسكن الفوري، واستفاد الدخلاء من حجم مالي كانت سهولة الحصول عليه سببا في توحش ظاهرة الرشوة، وفي تبلور أخلاقيات سلبية ناتجة عن الترف الذي أصبح يمارسه الأبناء والزوجات، ونشأت رأسمالية متوحشة وجدت حماية من عناصر متواطئة في المستوى المحلي، في مراحل كان للسلطات العليا فيها أسبقيات أخرى.
وللمقارنة مع القطاع المالي الخاص في الغرب المتحضر، حيث تتكامل رقابة الأجهزة المعنية مع رقابة الضمير المُواطنيّ، نجد، على وجه المثال، أن النفق الهائل الرابط بين فرنسا وبريطانيا، بطول نحوِ 40 كيلومترا تحت بحر المانش، أقامه القطاع الخاص، ناهيك عن الجامعات ومراكز البحث العلمي التي شيدها رجالُ مالٍ وطنيون، بنوْا ثرواتهم دولارا دولارا بعرق جبينهم طبقا لمنطق الرأسمالية المعروف، وبرغم ما يمكن أن يكونوا قد مارسوه من استغلال للعمال فإنهم حافظوا على البقرة الحلوب التي تسمى الدولة، ولم يفرّوا من حماية اقتصادها ودعمها بالضرائب، التي كان عدم أدائها أكبر من أي جريمة، حتى أن “آل كابون”، أخطر مجرمي أمريكا، سُجن لتهرّب ضريبي.
هنا ندرك أن السلطة “المنظورة” قد تملك وتحكم، وقد يكون الأمر غير ذلك بنسب متفاوتة الأثر والتأثر والتأثير، وهو ما يجب أن يعكف على استعراضه كل الرفقاء الذي مارسوا جوانب من السلطة أو مروا بجوارها أو عاشوا على سفحها، خصوصا عندما لا نجد على القمة كثيرين يشرحون لنا ما حدث ويحدث.
ولست أحاول هنا تبرئة السلطة العليا بشكل مُطلق، فهي المسؤولة أولا وأخيرا عن كل قرار يتخذ، لكنني أحسست أن من واجبي أن أتحمّل مسؤولية استعراض الأمور كما عشتها في مرحلة معينة وتحت ظروف معينة، وأترك الباقي لآخرين، لعلهم أكثر مني شجاعة وأقوى تجربة وأعمق خبرة، ولهم أترك إثراء أمثال هذه الدراسات التي أراها بالغة الأهمية لوطن يبني نفسه، ويتوجب عليه أن يحارب عوامل التعرية البشرية التي تقوم بدور السوس آكل الخشب أو الجراد سفاح النباتات.
وأنا أعرف أن تناول قضايا الأمن يثير لغطا مفتعلا نتيجة لحساسية مصطنعة يقف وراءها مستفيدون من وضعية الغموض والتعتيم، في حين أن الضوء هو أكبر حماية لأي مؤسسة وطنية، بشرط أن يكون ضوءا ينير الطريق لا نورا كشافا يعمي البصر ويوجّه إلى غير الاتجاه الوطني المطلوب.
مهمة أجهزة الأمن مهمة بالغة الأهمية، ودفاعنا عن أجهزة الأمن هو من أول واجبات كل وطني يدرك أهمية الأمن والاستقرار للوطن، لكن هذا قد يتطلب حماية بعض رجال الأمن من أنفسهم، خصوصا عندما تتضخم مسؤولياتهم في ظروف معينة إلى حدّ قد يخلق الإحساس لدى بعضهم بأنهم كيان متميز عن بقية خلق الله من العاملين في خدمة الوطن، وهو ما عبّر عنه يوما صلاح نصر، مدير مخابرات الرئيس المصري جمال عبد الناصر، عندما قال متباهيا لعشيقته اعتماد خورشيد، وباعترافها: “أنا قادر على أن أدفع الرئيس إلى عدم البيات في داره، بمجرد أن أقول له أن هناك محاولة اغتيال تستهدفه”.
وكان من مظاهر انحراف جهاز الأمن في بلد شقيق أن أحد قادتهم، واسمه الحركيّ الرائد “موافي”، كان متخصصا في اصطياد الجميلات بتدبير أوضاع أخلاقية مُخلّة، ثم استعمالهن في الإيقاع ببعض القيادات العربية، وكانت منهن فنانة رائعة انتُحرت في لندن، كان يُطلق عليها في مرحلة تألقها سندريلا.
هنا نفهم كيف ولماذا انتصرت إسرائيل في 1967، وقبل ذلك، لماذا تمكن الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين من التسرب إلى أعلى المفاصل السياسية في القطر الشقيق، وبرغم أنه أعدِم عندما اكتـُشف بما يشبه الصدفة، لكن هذا لم يغير شيئا كبيرا في سلوك بعض أجهزة المخابرات الشقيقة، واستعرضه “دريد لحام ” في كاسك يا وطني، ولا أنسى صرخته في وجه رجل المخابرات الذي كان يعذبه: اقرأ الجريدة، بتقول ارفع راسك مش رجليك.
وضحكنا يومها، وما زلنا نضحك، لكنه اليوم ضحك كالبكاء.