هل تقرع أنقرة أجراس العودة إلى دمشق؟ / ريم عثمان
11 مايو 2022، 00:34 صباحًا
في السياسة ليس ثمّة عدوّ دائم ولا صديق دائم والمصلحة الوطنية فوق كل شيء ومن يستثمر الفرص في تحقيق تلك المصلحة هو المنتصر. كثيرا ما نرى صديق الأمس أصبح عدوّ اليوم والعداوة أتت على أخضر ويابس العلاقات بينهما , في المقابل كثيرا ما رأينا عدوّ الأمس بات صديق اليوم صداقة أتت أوكلها في تحقيق الأمن القومي والازدهار الاقتصادي لكلا الطرفين.
بعيدا عن ذكر الأمثلة سنفترض جدلا أن العلاقة بين سوريا وتركيا تعيش تلك التجربة ,وانطلاقا من هذه الفرضية نستذكر أعداء الأمس اللذين أوشك الصدام العسكري المباشر أن يقع بينهما حتى جاء توقيع اتفاقية أضنة عام 1998 في ربع الساعة الأخيرة لينزع فتيل الحرب ويحيل العداوة صداقة بين جارين تربطهما علاقات مشتركة سياسية واقتصادية واجتماعية على مرّ التاريخ.
وإن شهدت تلك الصداقة صولات وجولات من المناوشات السياسية إلاّ أنها تحوّلت إلى علاقة متينة في مطلع الألفية الثالثة مع تسلّم الرئيس بشار الأسد سدّة الرئاسة في سوريا وتولي رجب طيب أردوغان رئاسة الوزراء في تركيا والتي تحولت فيما بعد إلى صداقة شخصية بين الطرفين. لكن سرعان ما تحوّل أصدقاء الأمس إلى ألدّ أعداء اليوم مع بدء الحرب على سوريا وتنصيب أردوغان نفسه حاميا للسوريين بتقديمه لهم كل أشكال الدعم عسكريا ولوجستيا ,وفتحه للحدود أمام المسلحين من كل أصقاع العالم للتسلل إلى سوريا ,وبالمقابل تهجير السوريين عبر تلك الحدود والاستثمار في ورقتهم الإنسانية تحت اسم اللاجئين ,واحتلاله أجزاء من الأراضي السورية في الشمال والشمال الغربي وتسببه في مقتل ونزوح آلاف السوريين.
فهل يعود أعداء الأمس أصدقاء اليوم بعد كل ما اقترفت يدا أردوغان من آثام بحق سوريا وشعبها ؟ الجواب ربما بالإيجاب , وقد يكون هذا الجواب جارحا لكثير من السوريين من طرفي الصراع, لكن ماذا لو نظرنا إلى نصف الكأس الممتلئ ؟ وماذا لو وضعنا نصفي الكأس الفارغ والممتلئ على كفتيي ميزان الربح والخسارة في حقل السياسة والاقتصاد والمجتمع السوري فأيهما ستميل؟
يقال في المثل الشعبي العربي “لا يوجد دخان من دون نار” هذا المثل ربما ينطبق على ما أشيع مؤخرا حول إمكانية تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا بعد أزمة امتدت لأكثر من عشر سنوات ,ورغم نفي الطرفين تلك الشائعات, لكن ثمّة مقدمات وُضِعت على مشهد الأحداث تؤشّر إلى احتمالية الوصول إلى نتائج صحيحة وإخراج تلك الشائعات من دائرة النفي إلى دائرة التأكيد.
في مطلع نيسان/أبريل الفائت نقلت صحيفة “حرييت” التركية عن مصادر قالت إنها مطلعة أن ” ثمّة محاولات حاليا من قبل الحكومة التركية لإجراء مناقشة مع الحكومة السورية حول ثلاثة مواضيع مهمة تتمثل في الحفاظ على الهيكل الوحدوي, ووحدة الأراضي السورية ,وضمان أمن اللاجئين العائدين إلى بلادهم ,ما يمهد لاستعادة العلاقات مع دمشق”.وأضافت الصحيفة أن أنقرة نقلت تلك الرسائل إلى دمشق . وسرعان ما بدأت إرهاصات تلك المناقشات بالتبيان والظهور في عدة تطورات شهدها ملف الأزمة السورية ,وإن كانت تبدو بعيدة عن البنود التي طرحتها أنقرة للنقاش إلاّ أنها بشكل أو بآخر قريبة منها .
في آذار/مارس الفائت أعلنت الحكومة العراقية عن عزمها إقامة جدار إسمنتي على كامل حدودها مع سوريا واستبدال قوات حرس الحدود بقوات من الجيش العراقي بهدف تأمين الحدود ومنع تسلل الإرهابيين بين البلدين ,وكذلك منع عمليات التهريب الناشطة على طرفي الحدود . إذا ما وسّعنا عدسة النظر إلى هذا الحدث فنجد أنه يتعلق بشكل أو بآخر بالبند الخاص بالحفاظ على الهيكل الوحدوي ووحدة الأراضي السورية الذي قالت أنقرة إنها تناقشه مع دمشق ,فأنقرة تقصد بطبيعة الحال بهذا البند تقييد وضبط نشاط حزب العمال الكردستاني وقطع الطريق على حلمه بإقامة “الحكم الذاتي” في سوريا ما سيعني بالضرورة تهديدا للأمن القومي التركي لطالما سيتمدد هذا الكيان الانفصالي ليقضم أجزاء كبيرة من أراضي الدولة التركية ,التي يشكل الأكراد ما نسبته حوالي 20 بالمئة من سكانها. واللافت أن الحكومة السورية أبدت موافقتها على بناء هذا الجدار وقالت إنها ناقشته مع رئيس هيئة الحشد الشعبي, فالح الفياض ,خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق.
إذاً الجدار سيقام بهدف منع تسلل الإرهابيين وقطع مصادر تمويلهم عن طريق منع التهريب عبر الحدود ,لكن لم تسمِ دمشق وبغداد إرهابيين بعينهم كتنظيم داعش على سبيل المثال وإن كان التلميح يكفي للإشارة إليه بدون تصريح ,لكن ربما أيضا يشمل هذا القرار مسلحي حزب العمال الكردستاني ,وهم من صنفتهم دمشق قبل نحو عقدين من الزمن منظمة إرهابية , وبالتالي سيشكل هذا الجدار سدّاً عازلا بين مسلحي الحزب في سوريا والعراق ما يدقّ مسمارا آخر في نعش حلم الانفصال الكردي ويبعث الطمأنينة في نفس أنقرة.
حدث آخر لافت تمثل بالمرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2022 الذي أصدره الرئيس الأسد والقاضي بمنح عفو عام عن السوريين من مرتكبي الجرائم الإرهابية في الداخل والخارج ,ويشمل جريمة العمل مع مجموعات إرهابية أو تمويل أو تدريب إرهاب أو تصنيع وسائل إرهاب أو إخلال بالأمن . بعيدا عن تفاصيل المرسوم وما أثير حوله من قبول أو رفض ,سنكتفي هنا بالحديث عن دوره في عودة السوريين إلى أرض الوطن لطالما شمل العفو اللاجئين السوريين ممن تنطبق عليهم شروط المرسوم ,فضلا عن أنه لم يطلب من المشمولين بالعفو أي إجراءات أو مراجعة الدوائر المختصة بل تكفلت مؤسسات الدولة بالقيام بالإجراءات المناسبة لتنفيذه بشكل فوري. كما أنه و منذ لحظة صدور المرسوم باتت كل جريمة إرهابية مرتكبها تنطبق عليه شروط العفو أصبح في حل من أي ملاحقة أو إذاعة بحث وطلب مذكرة توقيف عن الغياب أو مذكرة إحضار أو مذكرة حكم أو عقوبة ,فالعفو محا الجريمة من صفحة الملاحقة القضائية, وبهذا أسقطت الدولة السورية مفردة الخوف من الملاحقة من قاموس اللاجئين الراغبين بالعودة.
وكان سبق هذا المرسوم مرسوم عفو عن جرائم الفرار الداخلي والخارجي يشمل المتخلفين عن أداء الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية , وبهذا تكون دمشق قد سدت ذريعة أردوغان الذي طالب بتقديم ضمانات لعودة آمنة للاجئين السوريين إلى أراضيهم.
على الضفة الأخرى وبالتزامن مع إصدار مرسوم العفو في سوريا شهدت محافظة إدلب تدشين وزير الداخلية التركي تجمعا سكنيا مبنيا من الطوب لإسكان اللاجئين السوريين في تركيا, وتعهد أردوغان خلال كلمة مصورة بثّت خلال حفل الافتتاح باستكمال مشروع البناء هذا في المناطق التي تسيطر عليها قواته والفصائل المسلحة التي يدعمها ,بهدف إعادة مليون لاجئ سوري في تركيا بشكل “طوعي” إلى أرض الوطن خلال ما يقارب 15 شهرا .
بالنظر إلى سياسة أردوغان التي اعتاد فيها اللجوء إلى المراوغة والغدر ,لايمكن اعتبار مشروعه هذا إلاّ مسعى على طريق إجراء تغيير ديموغرافي على الأراضي السورية يهدف لتوطين اللاجئين السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرته والتي يسميها “مناطق آمنة” وما هي في الحقيقة إلاّ مناطق عازلة هدفها خلق أمر واقع جديد يفرض على هؤلاء السوريين المهجرين من مختلف المحافظات السورية أن يكملوا حياتهم في أبنية من طوب على حدود تركيا بعيدا عن مسقط رأسهم ,وبالتالي يجعل منهم سدّاً عربيا يعزل مناطق نفوذ الكرد في سوريا عن مناطق تواجدهم في تركيا ويقطع الطريق على حلم إقامة “الدولة الكردية ” . وبالتالي يبقى أردوغان عثرة على طريق الحل السياسي في سوريا وتبقى قواته ومرتزقته مسيطرة على مساحات واسعة من الشمال السوري تضع العصي في عجلات الحل ما سينعكس حتما على تردي الوضع الاقتصاد السوري أكثر فأكثر.
هذا بالنسبة إلى نصف الكأس الفارغ أما بالنسبة لنصف الكأس الممتلئ قد نقرأ الحدث من زاوية أخرى كأن نرى في مشروع أردوغان خطوة أولى على طريق إعادة اللاجئين السوريين التي عبدتها الحكومة السورية بإعلان المسامحة والمصالحة مع أبنائها ,وما يعزز هذه الفرضية أن الحكومة السورية لم تصدر حتى الآن أي بيان يدين أو يستنكر أو يؤكد رفضها للخطوة التركية , وربما وراء الأكمة ما وراءه ,ليس بالمعنى السلبي بل الإيجابي ,لطالما قررت الدولة السورية فتح صفحة جديدة مع أبنائها وإعادة احتضانهم وعفا الله عما مضى.
ولو فرضنا جدلا أن تلك التطورات هي بالفعل مساعي من دمشق لسد ذرائع أردوغان الثلاث كتوطئة لإعادة العلاقات بين البلدين حفاظا على وحدة الأراضي السورية وحل أزمتها بالطرق الدبلوماسية ,فهذا يعني أن أنقرة ستخرج من دائرة الصراع وتصبح طرفا في الحل ,الأمر الذي سيفضي بالضرورة إلى عودة الأراضي التي تسيطر عليها تركيا والتمهيد لإخراج المقاتلين الأجانب منها وبالتالي فتح الطريق أمام إعادة إعمار سوريا وحلحلة اقتصادها.
وإذا ما وضعنا نصف الكأس الممتلئ في كفة ميزان مقابل نصف الكأس الفارغ لحساب الربح والخسارة في حقل السياسة والاقتصاد لاشك سترجح كفة النصف الممتلئ لصالح الحكومتين وشعبيهما ,فهل يدرك من يرفض هذه النتيجة إن صحت حقيقة أن الصلح سيد الأحكام؟ يقول المناضل الثوري العظيم نيلسون مانديلا أنه “لصنع السلام مع عدوّ ، لا بد من العمل مع العدوّ ، وهذا العدوّ يصبح شريكك” ولا بدم من التذكير ختاما أن العفو عند المقدرة.