أوروبا بين القيادة البريطانية والتبعية الامريكية/ . سوسن إسماعيل العسّاف
19 مايو 2022، 01:40 صباحًا
يبدو ان الولايات المتحدة وبريطانيا، وبعد تعثر الحرب في اوكرانيا وإطالة أمدها عن ما كان متوقعا، بداءا بالتصعيد على أمل ان يوجها ضربة اجهاضية يظنان انها ستكون قاضية لروسيا بوجه عام وللرئيس بوتين بوجه خاص. هذه الضربة تمثلت في فتح جبهة جديدة لاقلاق روسيا من خلال حث فنلندا والسويد على الانضمام الى حلف الناتو. كل ذلك جاء متزامنا مع اخبار يبثها الغرب عن حجم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها روسيا تقول انها (فقدت ثلث قوتها العسكرية) في هذه الحرب، وان القوات والمقاومة الأوكرانية، بدعم عسكري وإستخباري ومالي امريكي- بريطاني، نجحت في طرد الروس من مناطق مختلفة سيطرت عليها في الأسابيع الأولى للحرب، مع أخبار أخرى توحي بأن الحملة الروسية قد فشلت فشلاً كاملاً. يرافق ذلك محاولات مستمرة للتاثير على الرأي العام الداخلي الروسي وإثارته ضد قيادة بوتين. وكان ألاخير قد توقع ذلك حينما ذكر بأن الغرب سيعول على استخدام الطابور الخامس والذي نعته (بالخونة وغير الوطنيين)، وشدد قبضته الحديدية الداخلية بصورة واضحة. علاوة على ذلك تسريب شائعات تتعلق بصحة الرئيس بوتين على اساس بأنها ليست على ما يرام وان ايامه في الحكم اصبحت معدودة، وان ذلك اذا ما حصل سيجعل خليفته يفكر اكثر من مرة في إستمرار تحدي حلف شمال الاطلسي (NATO). وهناك من يرى بأن هذا التكتيك الامريكي-البريطاني لتوسيع الناتو، وفي هذا الوقت، قد يكون ناجم عن تصاعد الخوف من اصرار بوتين على المضي بهذه الحرب حتى نهاية هذا العام من اجل تحقيق الاهداف التي شنت من اجلها، وهو ما يثير قلاقل داخلية قد تضعف المقاومة الاوكرانية تدريجيا. وكل هذه الأمور تتطلب وضع استراتيجية جديدة تقوم على المراوغة وتشتيت المخططات الروسية. بالمقابل بعض المراقبين يحاججون انه اذا كان مجرد تفكير الولايات المتحدة في ضم اوكرانيا الى حلف الناتو قد دفع الرئيس الروسي الى إتخاذ القرار بإجتياح اوكرانيا، فكيف يمكن تصور سكوته على قرار إنضمام السويد وفنلندا، وخاصة الأخيرة المحاذية لروسيا، الى هذا الحلف؟ وإذا كان الإقتصاد العالمي، الاوروبي بالذات قد تأثر سلباً وبشكل كبير بعد إجتياح أوكرانيا، فماذا ستكون النتيجة أذا إشتعلت مواجهة عسكرية أخرى؟ وكيف ستنجو الدول الفقيرة من هذه الاثار؟
في هذا الإطار كرر الرئيس فلاديمير بوتين في التاسع من هذا الشهر (مايس/مايو)، وبمناسبة يوم النصر على المانيا الهتلرية، بأن السبب الذي دفعهُ لاجتياح اوكرانيا هو التهديدات التي مثلها تواجد نفوذ الناتو على حدود روسيا، وما صاحبه من محاولات للامتداد في المناطق المحاذية لها. كما كان قد أكد قبل ذلك ان سبب إجتياح أوكرانيا هو أن الأخيرة تحولت الى قاعدة (ناتوية) متقدمة، تحتوي على أسلحة متطورة موجهة ضد روسيا. وفي نفس الوقت كرر تحذيره لكل من هلسنكي وستوكهولم من مغبة الإنصياع للرغبات الأمريكية-البريطانية في الإنضمام للحلف. والملفت للنظر ان فنلندا والسويد ادركتا خطورة مثل هذه الخطوة، في البداية، واعلنتا وبصورة مستمرة ولا لبس فيها انهما لن ينضما الى الحلف، وهذا يعني أنهما قررا أن لا يكونا اداة بيد الناتو ضد روسيا. وقد ظلت كلتا الدولتين رسمياً وشعبياً تسيران وفق استراتيجية عدم الانحياز والبقاء على الحياد العسكري طوال فترة الحرب الباردة، وحتى في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، (عكس اوكرانيا التي اظهرت رغبة في الانضمام الى الحلف والأنحياز للغرب ضد روسيا). وفي الحقيقة فان الموقف الفنلندي جاء نتيجة لخوضها حربا ضروس مع الاتحاد السوفيتي الذي اجتاح اراضيها عام 1939، ونصب حكومة شيوعية فيها، الامر الذي دفع عصبة الامم الى طرد الاتحاد السوفيتي من عضويتها آنذاك، الا ان المقاومة الفنلندية اجبرتهُ على التراجع وتوقيع اتفاقية سلام عام 1940 تضمنت إنسحاب قواتهِ (السوفيتية) واستقطاع مناطق فنلندية اعتبرها السوفيت حيوية لامنهم القومي. وبصورة عامة فأن الإتحاد السوفيتي حتى في أوج الصراع بين حلفي وارشو والناتو لم يخفِ رغبته في إبقاء فنلندا والسويد على الحياد منذ ذلك الوقت، معتبرا ان تغير موقفهما يعتبر تهديدا للأمن القومي السوفيتي، ونفس الفكرة إنتقلت الى روسيا بوتين.
الا ان الوضع تغيرفجاءة (جيوسياسياً وجيوإستراتيجيا) قبل ايام قليلة عندما صرحت الدولتين بأنهما قررتا تقديم طلبات للانضمام الى الناتو، والاكثر فلقد تم نشر إستطلاعات للرأي العام الشعبي في كلا الدولتين اظهرت ارتفاع التأييد لقرار الإنضمام بشكل حاد (75% في فنلندا و 60% في السويد)، وتقدمتا رسمياً للانضمام. بتحليل بسيط لمجريات وتطور الأحداث المتعلقة بهذا الأمر يثبت ان قرار الدولتين جاء نتيجة لأسباب عدة أهمها: أن الولايات المتحدة وبريطانيا نجحتا في (إقناع) كل من السويد وفنلندا بأن بقائهما خارج الحلف سيجعلهما لقمة سائغة لروسيا كما حصل لأوكرانيا، وان الإنضمام للحلف سيكون الحصانة التي ستتمتع بها دول خط المواجهة والحصن المنيع الذي يضمن حماية الأمن الأوربي من تجاوزات روسيا، خصوصاً وأن أهم مبدأ يقوم عليه الناتو هو الواحد من اجل الكل والكل من اجل الواحد. كما أن واشنظن ولندن اقنعتا الدولتين أن روسيا الآن وبعد (فشل مغامرتها في اوكرانيا) سوف لن تستطيع منعهما من الأنضمام، لاسيما وان هناك عقوبات اقتصادية جديدة مرتقبة من المحتمل ان تُفرض عليها، مثل مقاطعة النفط الروسي ما يعزز من زيادة خنقها (روسيا) إقتصاديا ويؤكد عزلتها سياسياً. على مستوى آخر فإن الإصرار على إدخال الدولتين في الناتو كان يحمل مصلحتين أمريكية وبريطانية بالذات. بالنسبة لأمريكا فإنها، وبعد المواجهة مع روسيا في أوكرانيا، لم تعد مهتمة بإخفاء نواياها في تطويق روسيا من كل الجوانب وبالذات من ناحية شرق أوربا. ويبدو أن تعثر روسيا في اوكرانيا اوصل صناع القرار الأمريكي الى ضرورة إتباع سياسة مواجهة استباقية مباشرة، أي التخلي عن سياسة او محاولات الإمتداد في المناطق المحاذية لروسيا خلسةً (ألشيشان، جورجيا، كازاخستان) والإنتقال الى سياسة التحدي المباشر والمجاهرة بتوسيع حلف الناتو رسميا، وخاصة في فنلندا والسويد. وساهم في نجاح سياستها هذه إقناعها الراي العام الأوربي بأن روسيا دولة عدوانية وتضمر الشر لأوروبا ويجب تحجيمها وتقييد مكانتها الدولية. ووفق ذلك تحدث الرئيس جو بايدن عن دعم الولايات المتحدة لسياسة الباب المفتوح لحلف الناتو، وعن حق فنلندا والسويد في تقرير مستقبلهما والسياسة الخارجية والترتيبات الامنية المناسبة لهما، مع اعلان واشنطن عن الضمانات والتأكيدات الامنية للبلدين بالرد على اية هجمات روسية يمكن ان تشنها ضد الدولتين وهما في الحلف.
اما بالنسبة لبريطانيا فإنها بدأت تشعر، بعد الدور المتشدد والمستقل الذي لعبته في أوكرانيا (وهو الأول بعد خروجها من الإتحاد الأوربي وإستقلالية قرارها الخارجي)، بأنها تستطيع قيادة اوروبا من جديد. وتأكدت هذه الرغبة بعد الزيارة (السرية-العلنية) التي قام بها رئيس وزرائها، بوريس جونسون، لكل من السويد وفنلندا والتي أقنع فيهما حكومتا البلدين بالتخلي عن ترددهما في الإنضمام للناتو. لا سيما وأن سياسة جونسون هذه قد بدات بزيادة الدعم العسكري والمالي الى الحكومة والمقاومة الشعبية الاوكرانية (والتي وصلت دفعتها الاخيرة الى ما يقارب1.5 مليار دولار، مقابل ذلك وصل الدعم الامريكي الى أكثر من 40 مليار دولار منذ بدأ الحرب). زاد ذلك توقيع المملكة المتحدة عدد من الاتفاقيات الثنائية الامنية الجديدة مع فنلندا والسويد وفق استراتيجية جديدة تمثل تغيرا في مجالات التعاون الامني والدفاعي الاوروبي بقيادة بريطانية من جهة، وتعهدات بريطانية لتهدئة مخاوف الدولتين بدعم قواتها المسلحة في حالة تعرضهما لاي هجوم روسي خلال المرحلة الانتقالية من الانضمام، من جهة اخرى، (علماً أن المعلومات المنشورة تؤكد أن القدرات العسكرية للدولتين (السويد وفنلندا) في الاساس هي كبيرة وقادرة على الرد على اية هجمات خارجية، وستعزز من قوة الناتو نفسه). الامر الذي أعطى الانطباع بأن بريطانيا تحاول الان ان تعود الى قيادة اوروبا من خلال المساعدات العسكرية والمالية والنفوذ السياسي الذي تبحث عنه في بعض الدول الاوروبية. علماً بأن هذا التحركات تواجهها تحديات أهمها رفض واعتراضات من قبل فرنسا والمانيا خاصة، ناهيك عن تزامنها مع المشاكل المتصاعدة بين بريطانيا ودول الاتحاد الاوربي التي بدات تشتكي من عدم التزام بريطانيا بالتعهدات التي وافقت عليها ضمن خطة خروجها من الاتحاد. علاوة على إن هذا الدور قد يتأثر ويتعثر بالوضع الاقتصادي البريطاني المقلق والتضخم المالي المتصاعد في البلاد، والمصحوب بمشاكل سياسية داخلية بين الحكومة والمعارضة والحكومة وكل من أيرلندا واسكتلندا. من ناحية أخرى فان اعلان حلف الناتو نفسه عن السرعة التي سيتم من خلالها قبول عضوية كلا البلدين، بتحديد نهاية حزيران/ يونية المقبل كموعد لاعلان العضوية بشكل رسمي، والذي يشكل بحد ذاته إستفزازا آخر الى روسيا.
بالتاكيد ان عضوية فنلندا والسويد ستثير أيضاً جملة تحديات وعواقب وخيمة على الدول المعنية وعموم أوروبا وحتى الولايات المتحدة الامريكية، ولعل من بينها: أولاً، تعزيز الانقسام في الرؤى المعالجة لطبيعة الحرب الاوكرانية-الروسية بين بريطانيا والولايات المتحدة من جهة واوروبا بقيادة المانيا وفرنسا من جهة ثانية. فعلى الرغم من ان فرنسا والمانيا تدفعان بإتجاة انضمام السويد وفنلندا الى الناتو من اجل الامن الاوروبي الا ان فرنسا تجد أن خطوات وفرص تحقيق السلام يجب أن لا تكون عبر اذلال روسيا، وأن الجغرافيا لا يمكن ان تتغير بسياسة القوة، وهذا كله ينبع من الشعور (الفرنسي – الألماني) بأن الولايات المتحدة تحاول تحقيق مصالحها فقط من خلال أوربا. والامر ينطبق على المانيا التي سبق وان رفضت تحركات عسكرية للحلف على اراضي دول البلطيق لمنع الاستفزازات غير المحسوبة لروسيا، على إعتبار أن قبول فعلي لعضوية فنلندا والسويد يعني تصادم مباشر مع روسيا وزعزعة السلام والاستقرار والتعاون بشكل خطير. ثانياً، من المتوقع ان يكون الرد الروسي عنيفا، وقد يبدأ بالحرب السيبرانية والهجمات الالكترونية وقد يتطور الى نشر قوات عسكرية جديدة، وهذا الأمر سيزيد من مخاطر وإحتمالية دخول الاسلحة النووية في الصراع، من منطلق الاستباق والتحسب قبل وقوع الحدث. ومع اعلان روسيا إنسحابها من مجلس دول بحر البلطيق، وسعيها لادخال دول معاهدة الامن الجماعي طرفا في الحرب الى جانبها، (تأكد ذلك من خلال القمة التي عقدت بين اعضاء المنظمة في موسكو، ومطالبتها بدعم روسيا من خلال اجراء تدريبات مشتركة لان روسيا تدافع عن الجميع وامنهم المهدد)، يعني ان الاستعانة الميدانية بالحلفاء قد تعتمده روسيا في المرحلة القادمة. ثالثاً، داخل حلف الناتو نفسه إثار القرار حالة من التصدع في العلاقات بين الدول الأعضاء خصوصاً وان هناك دول لا تدعم مسألة انضمام فنلندا والسويد الى الحلف، ومن بينها تركيا التي زعمت بأنها ستستخدم حق النقض (الفيتو) ضد قبول عضوية الدولتين (التي تتطلب الاجماع من قبل جميع الاعضاء الحاليين). السبب التركي المعلن أن الدولتين، وخاصة السويد، تأوي عناصر من حزب العمال الكردي (PPK) الذي تصنفه تركيا بكونه إرهابي وتنظيمات معارضة أخرى. أما السبب الحقيقي لمعارضة الرئيس أوردوغان فهو موجه الى الولايات المتحدة التي ألغت صفقة كبيرة لطائرات فانتوم 35F، وتريد تركيا ان تستعمل هذه القضية لإجبار واشنطن على إطلاق الصفقة. وهذا الامر اذا ما حدث فإنه سيؤخر من قبول عضوية الدولتين وهو ما ستستفيد منه روسيا. والامر ينطبق على المواقف الدولية من خارج الحلف ومنها الصين التي أكدت بأنه على الرغم من الاسباب التي يمتلكها البلدين للانضمام الى الناتو، لكن هذا الامر سيؤجج وبما لا يقبل الشك التوترات في المنطقة ولن يسهم في تعزيز الامن المرتقب. واخيراً، إن توسيع الحلف من خلال فنلندا والسويد يخل بمبدأ تواز القوى العسكري والاستراتيجي في اوروبا لصالح الولايات المتحدة. علما بان الروس ما فتئوا يؤكدون بأن ليس هناك ما يجب ان يثير حفيظة فنلندا والسويد اذا ما استمرتا على حيادهما. فهل دخول فنلندا والسويد الى حلف الناتو، والمصحوب بإستمرار الحرب في أوكرانيا، سيهدد بصورة جدية بقيام مواجهة مسلحة مباشرة بين الغرب والشرق، وتحديداً اذا زادت لغة التصعيد بإنشاء قواعد عسكرية ونقل اسلحة نووية استفزازية للأمن الروسي؟؟ خاصة وأن الولايات المتحدة وحليفتها المملكة المتحدة لا يزالان يعتقدان ان حصار واستمرار الحرب سينهك روسيا حتماً ويجبرها على الاستسلام في نهاية المطاف.