ويتواصل اللقاء مع عبد السلام جلود.. ليس تشفيا وانما النقد الذاتي/ دكتور محيي الدين عميمور
2 يونيو 2022، 01:43 صباحًا
قرأت العديد من مذكرات السياسيين والقادة العرب وهم يتناولون المراحل التي ساهموا فيها بشكل أو بآخر من مسيرة بلدانهم، غير أن حجم الموضوعية ومساحة الصراحة التي وجدتها في مذكرات عبد السلام جلود تجاوزت جلّ ما عرفته في بعض تلك المذكرات.
لكن لا بد من التوضيح، تعليقا على بعض التعليقات، بأنه لا مجال لاعتبار الأمر تشفيا في فرد أو نظام أو دولة، أو ميدانا لتصفية الحساب مع هذا النظام أو ذاك بقدر ما يندرج فيما طالبت به يوما تحت تعبير “وقفة النقد الذاتي”.
ومن السهل أن يزايد البعض بإدانة ما يسميه “الدكتاتوريات” العربية، علما بأن كثيرا ممن يدعون أنهم يمثلون “الديموقراطيات” العربية لم يكونوا أحسن حالا، وهناك نظمٌ تُتهم بالدكتاتورية لكنها حققت لشعوبها الكثير.
وإذا كنت أتوقف عند سطور جلود ولو بشكل مختصر، فلأنها تستكمل إلى حد كبير كتابي “نحن والعقيد” الذي صدر قبل اغتيال الزعيم الليبي، وهو ما أتصور أنه يضع أمام القارئ العربي صورة بعض المعطيات التي وصلت بالأمور إلى وضعية مأساوية تركت بصماتها على الحاضر وعلى المستقبل.
ورغم أن السياسي الليبي لا يذكر غالبا اسم العقيد القذافي إلا مسبوقا بصفة “الأخ” فإنه يتناول المسيرة الليبية بكثير من القسوة محددا الكثير من المسؤوليات، ولا يتردد في وضع النقاط فوق الحروف بل وتحتها (وهو ما تتميز به اللغة العربية).
ويتناول جلود تكوين الاتحاد الاشتراكي في ليبيا فيقول إنه “كان قرار فوقيا في مرحلة انتصار الثورة، وقد اعتُمدت معايير دقيقة في اختيار أعضائه، وهكذا أصبح هو واجهة الثورة السياسية والدعوية وباتت لديه رؤية جماعية، وانتقل سريعا من مرحلة التعلق والإعجاب بالأشخاص إلى مرحلة الإيمان والالتزام بإيديولوجية الثورة (ص62)
ثم يقول جلود: تنبه “الأخ” معمر لهذا الأمر، وشعر بأنه سيشكل عائقا أمام تحوله إلى دكتاتور وشيخ قبيلة، ولذا قام بحلّه في نهاية عام 1972، وأسس مكانه ما سوف يُعرف باسم “اللجان الثورية”، وهي حركة مفتوحة لكل من هبّ ودب، وكان القصد منها أن تصبح أداة لقمع الجماهير وتخويفها، وجهازا للطبل والتزمير (ص63)
ويواصل جلود قائلا: كان مجلس الثورة قد أصدر قرار في 2 سبتمبر 1969 بتعيين سعد الدين أبو شويرب رئيسا للأركان نظرا لمواصفاته، فهو إنسان طيب القلب وليست له أي مطامع في السلطة، وكان يتمتع بسمعة طيبة في أوساط الجيش (..) لكن الأخ معمر رفض تعيينه على رأس مجلس الثورة كما رفض قرار ترقيته إلى رتبة عقيد، وهكذا بدأ معمر (اختفت صفة الأخ) في وقت مبكر رحلةَ الخبث والخداع، فقد كان يتقمص شخصية الزاهد والملاك لإخفاء شخصيته الحقيقية كشيخ قبيلة، ورجلا سلطويا من طراز الشخصيات المتعطشة للمال وللسلطة (..) وفي هذا الوقت كان جمال عبد الناصر يتصل بنا في مجلس قيادة الثورة ويطالب بإعلان معمر القذافي رئيسا للمجلس (..) وبدأ بعض أعضاء المجلس يمارسون ضغوطا من أجل الإعلان عن أسماء أعضاء المجلس، وكان “الأخ” معمر يقاوم هذه الضغوط معللا الأمر بشتى الأسباب (ص64).
ويقفز جلود إلى أواخر الثمانينيات فيقول: حان وقت صلاة المغرب فقمنا للصلاة، وأَمّنا معمر، ولاحظت أنه لم يسجُد بشكل صحيح (..) وبعد الصلاة قال لي بعد أن نبهته: أنا لا أريد أن “أفقص” لأحد، حتى لِرَبّي، أي أنني لا أريد أن أنحني حتى لربي. (ص67)
ويعود جلود إلى السبعينيات فيتحدث عن تأسيس جمعية الدعوة الإسلامية التي عقدت مؤتمرها التأسيسي الأول في 1970 بحضور الشيخ الباقوري (مصر) ومالك بنابي (الجزائر) وعبد الله قنون (المغرب) وآخرين، وتم اختيار الشيخ محمود صًبح على رأس الجمعية (وهو مناضل ليبي رائع كان معروفا بلحيته الكثة وبلباسه الأزهري، وكان صديقا للوالد الشيخ الهلالي عميمور في مرحلة الدراسة بالأزهر الشريف، وكنت أحرص على لقائه في كل مرور لي بليبيا خلال الخمسينيات، وكان يخاطبني دائما باسم …محيي، حتى بعد أن أصبحت مستشارا للرئيس الجزائري)
ثم يقفز جلود عقدين إلى الأمام ويقول: في بداية التسعينيات قرر “الطاغية” حرف الجمعية عن أهدافها (وهو يستعمل تلك الصفة للمرة الأولى) فأصبحت جهازا دعائيا في خدمته لا في خدمة الإسلام كما كانت مهمتها عند تأسيسها.(ص76)
وفي سياق الدعوة الإسلامية يتوقف جلود لحظات عند فيلم الرسالة الذي أخرجه الشهيد مصطفى العقاد، ويذكر بأن الرئيس السادات انسحب من تأييد الفيلم تحت ضغط الأزهر (الذي عاد ولم يعترض على الفيلم في عهد الرئيس مبارك، ولم يُعرف على وجه التحديد سببا موضوعيا لمنع الفيلم ثم للموافقة على عرضه).
ويتوقف جلود طويلا عند قضايا النفط والمفاوضات مع الشركات، ويقول في هذا الصدد أن : الشركات عثرت خلال عمليات الحفر على الكثير من آبار المياه، ووُضع الأمر قيد الدراسة، وكان هذا بداية التفكير في “النهر الصناعي العظيم” الذي يقوم على مرحلتين، استهدفت المرحلة الأولى تزويد المناطق الشرقية بمياه للشرب كميتها 400 ألف متر مكعب وبمياه للزراعة حجمها 1.1 مليون م.م.
لكن الأخ معمر، يقول جلود، كان مُصرّا على أن يُخصّص للزراعة 1.5 مليون م.م. وكان هذا الإصرار المريب والغريب نابعا من الفكرة التي سيطرت على عقله بضرورة “استبدال” مزارعين مصريين وتونسيين وأفارقة بالليبيين، وكان الهدف الحقيقي من هذا “التبادل للسكان” ضمان ألا يتشكل خطر حقيقي يهدد سلطته (ص87).
ويواصل جلود قائلا: في قرار ثوري وتاريخي قررنا أن على مواطني الدول الذين يزورون ليبيا أن تكون بيانات سفرهم باللغة العربية، ولم يتقبل وزير الخارجية آنذاك منصور الكخيا القرار، وجاء لمقابلتي معاتبا ومنزعجا.
لكن المفاجأة أن الدول الأجنبية استجابت للقرار، فجاء الكخيا إلى مكتبي ساخطا عليهم وهو يقول: أنا لا أعرف كيف قبلوا هذا القرار.
وعندما انتقل الكخيا إلى صفوف المعارضة سمعته يُدلي بتصريح إلى إذاعة الشرق يقول فيه: على أمريكا أن تأتي بطائراتها ودباباتها لتقتلع القذافي من ليبيا، وهنا تأكد لي أن القذافي سوف يقوم بتصفية الكخيا.
ويواصل جلود قائلا: سافر الكخيا إلى القاهرة عام 1993 لحضور اجتماع المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وهناك “اختفى”، والذي حدث هو أن المخابرات المصرية اختطفته بناء على طلب القذافي وسلمته له (ص90).
وفي استعراضه لقضايا النفط تطرق إلى بعض ما يرتبط بمؤتمر الأوبيك في الجزائر، وسجل سخطه على اتفاقية الجزائر بين إيران والعراق، والتي تمت برعاية الرئيس الجزائري هواري بو مدين (وأذكّرُ بما سبق أن رويته عما تردد حول إسقاط طائرة وزير خارجية الجزائر محمد بن يحيى).
ويتناول عبد السلام جلود مطولا العلاقات مع مصر، ويورد على لسان محمود المنتصر، رئيس الوزراء في العهد الملكي، معلومة غريبة تحتاج للتأكيد، مضمونها أن جمال عبد الناصر طلب، مقابل تزويد ليبيا بمعونة قيمتها مليون دولار، أن تقبل ليبيا تعيين شخص مصري وكيلا لوزارة الخزانة، وأن تتنازل ليبيا لمصر عن واحة “الجغبوب” الواقعة جنوب مدينة طبرق بحوالي 280 كم (ص100).
ويروي جلود قصة أول لقاء له مع جمال عبد الناصر في الشهر الموالي لثورة سبتمبر، ويقول بأنه طرح على الرئيس المصري سؤالا عن مطالبه لمحاربة اليهود، فأجابه : نريد طائرات قاذفة مقاتلة (ص115) ويروي بعد ذلك ما قامت به ليبيا لتزويد مصر بطائرات “ميراج” الفرنسية، ويقول إنه بعد نجاح الصفقة مع فرنسا سأل عبد الناصر عن مشاعره فقال له ضاحكا: أنتم تريدون إذلالي..، ويعلق قائلا: “كان سعيدا في قرارة نفسه لكن كبرياءه جعلته يردّ بهذه الطريقة” (ص118).
ويروي جلود أن محمد حسنين هيكل فاجأه بالقول: بصراحة، أنا زعلان منكم قوي، لماذا تكتبون كتابا، يقصد الكتاب الأخضر الذي “كتبه” الأخ معمر، كان عليكم أن تجمعوا خطب عبد الناصر وتضعوها في كتاب.
ويقول جلود أنه أجاب هيكل قائلا: نحن في ليبيا لا ننظر إلى عبد الناصر كما تنظرون أنتم إليه (..) نحن جيل جديد من الثوريين الذين يرون أنهم جزء من الظاهرة الناصرية، ولكنهم يمتلكون طريقا خاصا لتجديد لفكر القومي (ص 119) لكنه يمر مرور الكرام على ما كان هيكل نشره حول زيارته إلى ليبيا بعد إسقاط نظام الملك إدريس، ومن كان مرافقا له من القيادات المصرية.
ويقول المسؤول الليبي عن وفاة عبد الناصر في سبتمبر 1970 أنها كارثة قومية، “لأننا كنا نعتبر عبد الناصر الأب الروحي لحركتنا…كان بالنسبة لنا بمنزلة ملهم للثورة وللقومية (122) لكنه يورد تعبيرا لحسين الشافعي يقول فيه إن عبد الناصر مات في 1967 ( وهو تعبير قاله كثيرون صدمتهم الهزيمة المنكرة لكنهم أخطأوا في التقييم لأنهم لم يكونوا يعرفون معدن عبد الناصر، الذي ظهر على حقيقته خلال حرب الاستنزاف وفي إعداد القوات المسلحة لحربٍ مجيدة، برغم محدوديتها، لكن السياسة المعوجة أجهضت مسارها ونتائجها). قد يتبع