السباحة مع عبد السلام جلود.. وماذا قال هيكل عن السادات والجزائر/ دكتور محيي الدين عميمور
4 يونيو 2022، 02:01 صباحًا
تناولت في الحديث الماضي قصة الهجوم الساداتي (ولا أقول المصري) الغادر على ليبيا، والغريب في مذكرات عبد السلام جلود أن المسؤول الليبي الكبير ورقم (2) في القيادة الليبية لم يتوقف عند استنتاج الخلفية الحقيقية لهجوم السادات، وهو ما استعرضه محمد حسنين هيكل في كتابه “عواصف الحرب والسلام”، وما تناولته في كتابي “أربعة أيام صححت تاريخ العرب”، وأجد نفسي مضطرا لاستعراض بعض عناصره استكمالا للحديث، وردًا على شقيق تساءل مستنكرا عما أشرت له في الحديث السابق من دور للرئيس الجزائري في إيقاف الرئيس السادات عند حده، مردفا ذلك بعد علامات تعجب واستفهام.
يقول هيكل: كان هم السادات الأول حلّ المشكلة المصرية الاقتصادية التي تهدد بتكرار ما حدث في بداية عام 1977 من تظاهرات احتجاجية، والتي أسماها الرئيس المصري “انتفاضة الحرامية” (اللصوص).
وفجأة، يقول هيكل، تسرب إلى فكر الرئيس اقتراح كان الوفد “الإسرائيلي” قد همس به إلى الوفد المصري في لقاء جنيف أواخر 1973، وكان مضمونه أن على مصر ألا تنظر شرقا، حيث المشاكل كثيرة والمردود محدود، لكن عليها أن تنظر غربا لأن الفائدة هناك مضمونة والمخاطر محدودة.
وليس سرا أن هناك في مصر من يعتبرون ليبيا، كما السودان، حديقة خلفية لأرض الكنانة، ولدرجة أن هناك من يُجرّمون عبد الناصر لأنه قبِل ممارسة الشعب السوداني لحق “تقرير المصير”، وهو تعبير ما زال هناك إلى يومنا هذا من لا يطيق سماعه.
وتوصّل السادات إلى حلّ بالغ الغرابة فقد خطر له أن يغزو ليبيا، وفي ذهنه أن يحتل الجانب الشرقي من ولاية برقة حيث معظم منابع البترول الليبي (ص 328) وكانت الذريعة صفقة السلاح التي كانت ليبيا قد عقدتها مع الاتحاد السوفيتي بوساطة حافظ الأسد وياسر عرفات (وأذكر هنا برواية جلود عما قاله الرئيس عبد الناصر للملك إدريس برواية محمود المنتصر والتي أشرت لها في حديث سابق) .
وهكذا أصبحت ليبيا هدفا للنظام المصري، وكانت قوته الرئيسية ترسانة الإعلام الهائلة التي ورثت من مرحلة أحمد سعيد أسوأ ما فيها ولم تأخذ عنها إيجابية رئيسية واحدة.
وكانت بداية التحرك الساداتي التضخيم الإعلامي لصفقة الأسلحة الني اشترتها ليبيا من الاتحاد السوفيتي إرضاء له على استهانة السادات به، وهكذا ضخم الإعلام، أو من زودوه بالمعلومات، حجم الصفقة من ملياري دولار إلى الضعف، وقيل أن من بين بنودها قوة مدرعة تصل إلى ألفي دبابة (..) وإقامة قواعد عسكرية برية وبحرية وجوية في ليبيا (..).
واستشهد الإعلام المصري بالمجلة الأمريكية المتخصصة في شؤون الطيران الحربي (Aviation week) مستنتجا، بهدف واضح، أن الطائرات التي سوف تملكها ليبيا لن تجد طيارين ليبيين لقيادتها (..) وبالتالي فإن من سيقودونها هم السوفييت (..) وكان هذا، كما أكدت وسائل الإعلام المصرية، يُمثل خطرا شديدا على الأمن المصري.
وفي يوم 19 يوليو يُنشر في القاهرة أن “قوات ليبية قامت بالإغارة على مواقع مصرية في منطقة السلوم، على الحدود مع ليبيا”، ثم يُعلَن أن ….”قوات مصرية ردّت على”العدوان” وقامت بالدخول إلى المواقع التي انطلقت منها العمليات ضد المواقع المصرية، وقامت بتدميرها وعادت إلى قواعدها بعد تنفيذ مهامها ضد القوات الليبية المعتدية!!(..و) عاد النظام الليبي “واستأنف قصف مواقعنا الأمامية بنيران المدفعية (..) وقامت قواتنا بالردّ عليها بالنيران حتى أسكتتها، وفي صباح 22 يوليو قامت الطائرات الحربية الليبية بثلاث غارات جوية (..) ولما كان النظام الليبي مستمرا في اعتداءاته بطريقة تهدد أمن قواتنا وأراضينا (..) قامت قواتنا الجوية بمهاجمة قاعدة “العضم” الجوية (ولم يقل البلاغ المصري أنها أصبحت منذ قيام الثورة الليبية تسمّى قاعدة جمال عبد الناصر، ولم يتذكر أحد أن الهجوم تم خلال أيام الاحتفالات بثورة يوليو) وأسفر هجومنا عن تدمير شديد للقاعدة ومنشآتها وبعض الطائرات فيها”.
وكان الهجوم الجويّ المصري تقليدا هزيلا للهجوم الإسرائيلي صباح 5 يونيو 1967 على القواعد الجوية المصرية، تماما كما كانت عملية “لارناكا” في قبرص فيما بعد تقليدا سخيفا ومأساويا لعملية “عنتيبي” الإسرائيلية، ولكن ما حدث قدمه الإعلام المصري كانتصارات ساداتية.
ويروي هيكل أن السفير الأمريكي في القاهرة هرمان آيلتس قال بأنه : “أطلع على صور استكشافٍ قامت به الأقمار الصناعية فوق منطقة العمليات، واتضح منها أن ناقلات الجنود المصرية إلى الحدود الليبية تعطلت على الطرقات، وبأن عدم نجاح العملية العسكرية قد يؤدي إلى فقدان الجيش المصري ثقته بنفسه (..) والنقطة المركزية هنا هي أن أرض العمليات واسعة جدا، والسيطرة عليها شاقة، خصوصا إذا لجأت ليبيا إلى المقاومة على طريقة حرب العصابات”.
وأحدث الهجوم على القاعدة الليبية خسائر كبيرة (وهو ما أنكره جلود في مذكراته ص 137) ومن المُحزن، يقول هيكل (ص 331) أن “الجرحى نقلوا إلى مستشفى طبرق الذي كان يضم مجموعة من الأطباء المصريين العاملين في إطار القوات الليبية، كان تصرفهم رائعا ونبيلا، ليس فقط من الناحية المهنية بل من الناحية الوطنية، وأن الصورة كانت مأساوية لدرجة أن الجراح المصري الدكتور مصطفي الشربيني بعث ببرقية إلى الرئيس السادات يقول له فيها أنه كان يُجري العمليات للجرحى من الضباط والجنود الليبيين وهو لا يكاد يرى مواقع جراحهم، لأن الدموع كانت تملأ عينيه”.
وكان الهجوم المصري صدمة هائلة للرئيس الجزائري هواري بو مدين الذي كان بالغ الحساسية تجاه كل ما يمكن أن يتسبب في إراقة دم عربي ظلما وعدوانا، أو يؤثر على استقرار المنطقة أو يبرر إقحام طرف أجنبي في قضاياها، فتوجه فورا، على رأس وفد محدود (كان لي شرف أن أكون من بين أعضائه) إلى طرابلس ثم إلى الإسكندرية، حيث كان السادات يقضي أيام الصيف في أحد القصور الملكية (قد يكون قصر المنتزه على ما أتذكر) وتوجه إثر وصوله لمقابلة السادات مرفوقا بوزير الخارجية عبد العزيز بو تفليقة، وقيل لنا آنذاك أن الجانب المصري أصرّ على ضغط عدد الوفد الذي يلتقيه الرئيس.
وعرفنا فيما بعد أن اللقاء بين الرئيسين كان بالغ التوتر، وهو ما أكده هيكل (ص 333) وراح السادات يُعدد مبرراته قائلا بأن: “القذافي كان يتحرك بمخطط مرسوم له من موسكو، وهو يقوم ضده بحملة كراهية ويُعبّئ الشعب الليبي ضده للتغطية على مشاكل ليبيا الداخلية، وهكذا افتعل مشكلة مع مصر ولم يكن أمام السادات إلا الرد عليها، خصوصا عندما بدأ القذافي يستعمل وسائل الحرب البكتريولوجية ضد القوات المصرية، وقام بتسميم عدد من الآبار التي تعتمد عليها القوات المصرية للحصول على ماء الشرب”.( !!!)
وراح السادات يُردد أمام بومدين : سيبوني أأدّبه.
وفوجئت واشنطون بالتصعيد الخطير الذي حدث، وبينما كان السادات يتصور بأنها لن تمانع في عمل يقوم به لتأديب الزعيم الليبي، لم يكن في واشنطون من هو مستعد لفكرة استيلاء مصر على حقول النفط الليبية ( وأذكر بمأساة أغسطس 1992 في الكويت).
ودام اجتماع بو مدين مع السادات حوالي ست ساعات، ثم عدنا إلى طرابلس بعد أن بدأت إجراءات وقف إطلاق النار، بينما تقاطر قادة كثيرون على مصر لركوب قاطرة التهدئة التي أنجزتها الجزائر في هدوء، وكان من بين القادمين الرئيس أياديما رئيس التوغو، ورئيس منظمة الوحدة الإفريقية آنذاك، الذي اصطحب معه آدم كوجو الأمين العام للمنظمة.
ولم يُعرف دورٌ للجامعة العربية أو للمؤتمر الإسلامي آنذاك، واعترف ياسر عرفات، فيما علمت آنذاك، أنه وقف عاجزا أمام تطور الأحداث.( يُتبع …ربما)