وحدة المغرب العربي.. الحقائق والأوهام/ دكتور محيي الدين عميمور
6 يونيو 2022، 03:00 صباحًا
بعض التعليقات على الأحاديث الماضية حول مذكرات الرائد عبد السلام جلود تفرض عليّ أن أتوقف لحظات لتوضيح ما رأيته في حاجة للتوضيح.
ولا أعني بذلك تعليقا يقول بأنه كان من الممكن أن يكون بو مدين من قادة العرب العظام لولا تلك النقطة السوداء (يقصد بالطبع تمسكه بحق تقرير المصير لكل الشعوب.)
والواقع هو أنني، وللمرة الأولى في حياتي، أعرف أن حق تقرير الشعوب لمصيرها، كما قال أحدهم، هو مبدأ “دخيل على الإسلام”، يستغله “الأعداء” للتفرقة والتقسيم وخلق الفتن واستغلال خيرات المنطقة (هكذا والله) وهنا نفهم لماذا تتحمس قيادة حزب “إسلامي” للتطبيع مع العدو التاريخي للأمة.
أفضل الآن أن أتوقف عند قضية إدانة الحكم العسكري، التي أصبحت “لازمة” بعض التعليقات، والتي استعملها البعض بما بدا تصفية للحساب مع من يختلف معهم في النظرة أو التقييم، وخصوصا فيما يتعلق بالتوجهات القومية “الشريرة” !!، وهو ما يوضح بعض الخلفيات ويؤكد سيطرة الأحكام المسبقة.
وواقع الأمر، كما أراه، هو أن القضية ليست “مدنية” الحكم أو “عسكريته” ولكنها “ممارسات” نظام أي حكم دكتاتوري “لا يمكن مساءلته ديموقراطيا”، وسواء كانت المرجعية هي “الدبابة والبندقية”، أو “قال الله قال الرسول”، أو كتابات “مونتيسكيو وجان جاك روسو”، أو “الكتاب الأخضر” الشهير.
وكمثال بسيط، لم يكن “أنطونيو سالازار” دكتاتور البرتغال الشهير عسكريا بل كان أستاذا جامعيا، قد لا نعدم اليوم من يحاول أن يقتدي به ويسير على منواله من غير العسكريين.
وكان الجنرال دوغول حاكم الجمهورية الفرنسية الخامسة، ونظامها مدنيّ ديموقراطي، عسكريا حقيقيا، وليس عسكريا “تايوان” من نوع بيدل بوكاسا، دعمت نظامه نفس الدولة المدنية الديموقراطية.
وإذا كانت مصلحة المؤسسة العسكرية، وفرعها المخابراتي والصناعي على وجه التحديد، هي التي تضبط مسيرة الدولة وتوجهاتها، فلعل أكبر مثال يمكن أن نفكر فيه، بنوع من التطرف الفكري، هو الولايات المتحدة الأمريكية.
القضية الثانية هي ما لاحظه بعض الرفاق من استشهادي بغير المذكرات، التي كنت جعلتها عنوانا لهذه السلسلة من الأحاديث.
وواقع الأمر هو أنني لاحظت ثغرات تاريخية، وبحيث أحسست أن هذا قد يكون ناتجا عن قراءة سياسية للأحداث التاريخية، وهي لازمة تصيب كل من يستعرض الأحداث بخلفية سياسية، أو مُسيّسة، هذا إذا تجاهلنا احتمال الاعتماد على الذاكرة الانتقائية، أو الثغرات التي تنشأ مع البعد الزمني عن الأحداث أو تنتج عن بصمات الشيخوخة، ولا أبرئ نفسي من هذا أو ذاك.
وقد لاحظت هذا في بعض فقرات مذكرات عبد السلام جلود، لكنه كان أكثر دقة عندما تعرض للقضية التي سمّمت منطقة المغرب العربي، والتي نتجت عن موقف المملكة المغربية من الصحراء الغربية، التي كان يُطلق عليها الصحراء الإسبانية.
والواقع أن القضية بدأت في 1956 بعد عودة السلطان محمد الخامس إلى المغرب من المنفى، حيث نشر حزب الاستقلال كتابا أطلق عليه اسم “الكتاب الأبيض” تحدث فيه عن تصوره لحدود المملكة المغربية، وضمت الخريطة جزءا كبيرا من الغرب الجزائري وموريتانيا.
وفي تجمع حاشد لحزب الاستقلال سنة 1956 قال علال الفاسي: “نطالب بكل أجزاء “الإمبراطورية العلوية” التي لم تتحرر بعد، والتي تبدأ من طنجة شمالا مرورا بالصحراء الغربية (الغربية) وصولا إلى الصحراء والحدود الجزائرية، بشار والاغواط وأدرار، ومرورا بموريتانيا وصولا إلى السنغال، وإذا لم تتحرر هذه المناطق فإن من واجبنا أن نقوم بفعل لنحرر “وطننا” ونوحده”.
لكن الأمور برزت إلى سطح الاهتمام الدولي في 1960، عندما صدرت لائحة الجمعية العامة للأمم المتحدة 1514، والتي تضمنت إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة، وصوتت عليها 89 دولة، بينما امتنعت عن التصويت كل الدول المستعمرة بالإضافة إلى جنوب إفريقيا، وكان للمملكة المغربية، المستقلة آنذاك، دور هام في صدور اللائحة والمناداة بحق تقرير المصير للمناطق المستعمرة.
ثم جاء دور منظمة الوحدة الإفريقية لتقرر في 1963 مبدأ احترام الحدود الموروثة عند الاستقلال، والذي تم تأكيد في اجتماع القاهرة عام 1964.
لكن بداية الستينيات شهدت ظهور التناقض مع قرارات المنظمة الإفريقية، حيث رفضت المغرب الاعتراف باستقلال موريطانيا التي كانت تعتبرها إقليما مغربيا، رغم أنها أصبحت عضوا في الأمم المتحدة في 27 أكتوبر من سنة 1961، ولم يعترف المغرب باستقلال جارته الجنوبية إلا تحت الضغط الجزائري بمقاطعة القمة الإسلامية الأولى، التي كانت الرباط ستحتضنها في سنة 1969.
ولم تقبل الجامعة العربية عضوية موريطانيا العربية الإسلامية إلا في مؤتمر الجزائر سنة 1973، ولست في حاجة لكي أذكر بمن كان وراء ذلك، وفي السبب الذي يجعل كثيرين عندنا لا يثقون بموقف الجامعة التي لا تجمع..
وعاشت العلاقات الجزائرية المغربية مرحلة توتر بدأ ساخنا في 1963، ثم تغلبت إرادة تجاوز الماضي في نهاية الستينيات بلقاءات بين الرئيس الجزائري هواري بو مدين والملك الحسن الثاني في تلمسان بالجزائر وإيفران في المغرب، وكانت محصلة الإرادة الجماعية إنهاء مشاكل الحدود بين الجزائر والمغرب بمعاهدة يونيو 1972 في الرباط، والتي شهد توقيعها نحو 40 رئيس دولة وحكومة إفريقية، كانوا يشاركون في مؤتمر الوحدة الإفريقية بالرباط.
وساد الشعور بأن تناقضات الماضي أصبحت مجرد ذكريات يُفضّل نسيانها، وتجاهلت الجزائر تأخر التصديق المغربي على الاتفاقية وإهمال جانبها الاقتصادي، والذي كان يتجسد في الاستثمار المشترك لحديد “غار جبيلات” في الجنوب الجزائري، بإنشاء مصنع للحديد والصلب شمال المغرب، بملكية مشتركة جزائرية مغربية.
في هذه المرحلة كانت الجزائر لا تخفي دعمها لحركات التحرير الإفريقية، وخصوصا في أنغولا والموزمبيق وناميبيا وروديسيا، التي أصبحت زيمبابوي، لكنني أظن أنها كانت مترددة في الموقف النهائي الذي يتعلق بالصحراء الغربية.
وفي البداية تعاطفت الجزائر، فيما أعرف، مع حركة تحرير كان اسمها “حركة الرجال الزرق” (مورهب MORHEB) لكنها اكتشفت على الفور أنها حركة “مُفبركة”، فاختيار اسم “الرجال الزرق” للحركة، نسبة إلى الصحراويين أصحاب اللثام، كان خطأ واضحا، لأن الصحراويين لا يلبسون اللثام الأزرق، بل يلبسون اللثام النيلي أو الأسود، والذين يلبسون اللثام الأزرق هم الطوارق وليسو الصحراويين.
وظهرت جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب ( بوليزاريو، وهو مجموع الحروف الأولى من اسم الجبهة بالإسبانية) وسجلت وجودها على ساحة الأحداث في 1973، وكان أولَ علمي بهذا الأمر خبر نشرته صحيفة “العلم” المغربية يوم 7 أغسطس عام 1973 على الصفحة الأولى يتحدث عن جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب التي تقاوم الاستعمار الإسباني.
وكانت ليبيا هي أول من قدم الدعم للبوليزاريو، برغم أن أصحاب الألسنة الطويلة يرون أن ذلك كان نكاية في النظام الملكي.
وأعود هنا إلى مذكرات الرائد عبد السلام جلود الذي كتب يقول إن الرئيس بو مدين كان يريد أن تظل حركة البوليزاريو حركة تحرير، وهو أمر صحيح، ولعلي أتصور أن ذلك كان يعكس إرادة الرئيس الجزائري في إعطاء المغرب فرصة إيجاد حل ملائم لتصفية الاستعمار في آخر مستعمرة إفريقية، خصوصا والصحافة المغربية كانت تتحدث باعتزاز عن كفاح “البوليزاريو”.(ص 187 )
ويتصل بي عبد الفتاح النعاس سفير ليبيا بالجزائر ليطلب مقابلتي على وجه السرعة، فاستقبلته في اليوم نفسه وكان مرفوقا بشخصين قال إنهما مبعوثان من “الأخ العقيد” بهدف لقاء الرئيس بو مدين، والحصول على اعتراف الجزائر بإعلان الجمهورية الصحراوية.
وقمت بدوري في إبلاغ الرئيس الذي استقبل المبعوثين بحضور السفير، واستمع الرئيس لكنه لم يعطِ الردّ الذي كان ينتظره ضيوفه، وأظن أنه رأى أن أمرا كهذا لا يبحث بهذه الطريقة، وعبر مبعوثين لا يحتلون مناصب رسمية، بغض النظر عن السفير الذي كان في وضعية العبد المأمور.
ومما يؤكد هذا التصور ما رواه جلود نفسه (ص187) حيث كرر أن بو مدين كان معارضا لإعلان الجمهورية، فاتصل به “الأخ” معمر وطلب منه أن تعلن الجزائر اعترافها، ثم بعد 24 ساعة تعلن ليبيا اعترافها بها أيضا، وهكذا “أعلنت الجزائر اعترافها، ولكننا نحن الذين أخللنا بالوعد فلم نعترف بالجمهورية، لقد عارضتُ هذا الموقف الذي خذلنا فيه الجزائر والبوليزاريو، والذي لم يحترم فيه معمر كلمته”.
في تلك الأثناء كان المكلف بحركات التحرير في رئاسة الجمهورية عبد العزيز بلخادم (رئيس الحكومة فيما بعد) يواصل جولاته الإفريقية في إطار العمل لدعم حركات التحرير، ومن بينها البوليزاريو، ويقول لي عند عودته أنه فوجئ بالأمر الذي فرض عليه تغيير موقفه.
ويواصل جلود قائلا في نفس الصفحة من المذكرات: “نشط المغرب في التآمر علينا (..) وقد فرض علينا هذا الأمر أن ندخل في بعض الصفقات مع المغرب، وتسبب في تراجعنا عن وعدنا بالاعتراف بالجمهورية الصحراوية”.
وعلمت فيما بعد أن معمّر تخلى عن الجمهورية الصحراوية مقابل أن يتخلى الحسن الثاني عن دعم هبري في تشاد (ص 191).
“حاولنا إقناع الجزائر بتأسيس حركة ثورية تنطلق من الأراضي الجزائرية…ظلت الجزائر مصرّة على الرفض (..) لقد خضنا نضالا مريرا لإسقاط النظام الإقطاعي في المغرب، بيد أن الجزائر كانت تخذلنا على الدوام، وكثيرا ما طلبنا منها أن تشاركنا في محاولاتنا لإسقاط هذا النظام الإقطاعي لكنها ظلت مترددة (..) كانت المشكلة أن الثورة الجزائرية هي ثورة تحرير وليست مهيأة لخوض الثورة الاجتماعية في الوطن العربي، على الرغم من تطورها الهائل من حركة تحرير إلى ثورة اجتماعية في الداخل” (ص 188).
ولن أعلق على حكم جلود تاركا إياه للقراء، لكنني أكتفي بالقول إن هناك عندنا من يرون أن هدف معمر القذافي في كل مواقفه كان توريط كل من الجزائر والمغرب، لأنه كان يدرك أن لقاءهما هو قاعدة رئيسية لبناء وحدة المغرب العربي، تماما كلقاء ألمانيا وفرنسا، وهو لا يريد وحدةً خارج إرادته ونفوذه، ومن هنا نفهم نظرته الحقيقية للوحدة العربية.