الجزائر: هذا الوطن للجميع وهو أكبر من الجميع.. هوية أم هاوية؟/ د. حرزالله محمد لخضر
30 يوليو 2022، 11:34 صباحًا
مسألة الهوية في الجزائر تعتبر من أعقد القضايا وأشدها حساسية لدى جميع الجزائريين، فالجزائري بطبعه غيور على مقوماته الثقافية واللغوية والدينية وتراثه المادي والشفوي، شديد التمسك بذلك حتى إبان العهد الاستدماري، أين حاكت فرنسا كل الحيل ورسمت السياسات والخطط لسلخه عن هويته ودينه وعاداته الطيبة، فما أفلحت في ذلك وباءت تدابيرها بالبوار والتَّبار.
إلا أن مسألة الهوية لا زالت تعاني في بلدي من الاستقطاب الأيديولوجي والتجريف والتحوير التاريخي، والتمييز الانتقائي، وهذا المسلك البغيض هو من الميراث المسموم الذي تركته فرنسا، وسرت سمومه في جسد الأمة حتى بعد الاستقلال، ولا تزال إلى اليوم دار لقمان على حالها، فكم عانت وتعاني مسائل الهوية من ابتزازات السياسيين عندما يزجُّون بها في سوق المماحكة والمزايدة، فيجعلون منها مزادا انتخابيا وبضاعة مزجاة تتلاوحها أنياب الضباع المفلسة، فبالنسبة لكثير منهم –إلا قليلا- ليست قضيةَ مبدأ بقدر ما هي مسألة انتهازية سياسية وحسابات مصلحية، ولهذا فلا تستغرب حين تجد منهم من يدافع عن العربية بحماس كبير حتى تنتفخ أوداجه، وهو لا يحسن صياغة جملة عربية مفيدة، وقد كان من بعض أولائك الذين وصفوا “بالزعماء العروبيين” من لا يعرف قراءة خطاب مكتوب، فضلا عن ارتجال كلام محبوك، كما قد تجد منهم من ينبري في حملاته مدافعا عن الإسلام والقرآن وهو لا يحسن تلاوة آية قرآنية، وقد لا يلتزم بالصلاة في أوقاتها، ومن غير المستبعد أن يكون تاركا لها بالكلية ..ولكنها الانتهازية ! كما قد تجد من ينافح عن التراث القبائلي وأمجاده ويحث على ضرورة الحفاظ على الأصول من الأفول، ولكن جل خطابه يلقيه بلسان فرنسي!! ويصدر في فكره وثقافته من مَعِين باريسي!!
هذا حال مكونات الهوية عند سياسيينا، فكيف هو حالها عند عامة الناس؟
لقد أظهرت سنوات الحراك مدى عمق الأزمة الهوياتية والشروخ المترسخة في الوجدان الجمعي للمجتمع الجزائري، والأخطر من ذلك هو عندما تم استغلال مكونات الهوية في مآرب سياسية ووظفت لأغراض مشبوهة، فأصبحت موردا لإشعال لهيب الأحقاد والخلاف، ومعولا لكسر أواصر التعايش والائتلاف، خاصة عندما تكلم في العلم من ليس من أهله، وخاض في مسائل التاريخ والتأصيل والتحقيق من لم يجمع أصول العلم ومبادئه، ورزانة العقل ورجاحته، وقد نسب لأحد الحكماء قوله: من تحدث في غير فنه سُمع منه العجب !
إن هناك شرائح كثيرة من المجتمع الجزائري لا ترى نفسها ممثلة في الهويات المُغَلَّبة أو المشوَّهة التي يتم استنساخها وتسويقها على المستوى الرسمي والإعلامي على أنها الهوية الجامعة المتفردة لكل الجزائريين، فالقلوب الضيقة لا تريد أن تتسع للأفق الرحب الذي يملأ كل ركن وثنية من ثنايا هذا الوطن العتيق، فترى الجمال المكنون في ثرائه، والعبقرية الفذة الكامنة في عراقته:
فالجزائر فيها عرب وميزاب وطوارق وبربر؛
فيها الأبيض والأسمر والأصفر والأحمر؛
فيها صحراء ورمال وجبال وأبحُر؛
فيها شجرة الزيتون وتمور النخيل وبرتقال متيجة؛
فيها السهول الغناء والسهوب الساحرة والهضاب المزهرة؛
فيها جبال جرجرة والأوراس والونشريس وهضبة تاديمايت وحضارة الطاسيلي؛
فيها خيمة أولاد نايل والبرنوس الشاوي واللثام الأزرق النيلي التارقي والسروال الميزابي؛
فيها من التقاليد الحِسان ما لا يخفى على ذوي العرفان.
فيا كاتب التاريخ هل ضاقت هذه الفيحاء على أبنائها الأصلاء، ووسعت على من رامها بالتبني والإدعاء ؟
لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها .. ولكن أخلاق الرجال تضيق
إن مكونات الهوية الجزائرية بجميع تنوعاتها يجب أن تمثل رافدا حيويا للمجتمع الجزائري لا قاصما لظهره، يساهم في غناه الثقافي الأصيل، ويميزه عن الوافد والدخيل، ويرسخ فيه شعور العزة والاستقلالية والتميز والانتماء، ويدفع به نحو دروب البناء والإبداع والعطاء، فمن الخطورة بمكان أن تتخذ مسائل الهوية مدخلا للاختراق الثقافي والانهزام النفسي والتبعية الفكرية للثقافة الفرنسية أو غيرها، وهو غاية ما تشتغل عليه المخابر الفكرية الغربية المتخصصة في جغرافيا الإثنيات اللغوية والعرقية، واستراتيجيات إدارة الصراع الفكري بها، ونحن ما نعاين نتائج ذلك في أقطار عديدة من عالمنا العربي المثخن بالصراعات الطائفية.
إن الهوية الوطنية والهويات المحلية هي عناصر إثراء وتنوع وقوة، غير أن السياسة الانتقائية والاحتكارية والاقصائية التي يمارسها بعض بني جلدتنا وسياسيينا، ستجعل من المشترك معتركًا، ومن الهوية هوةً، ومن أبناء الوطن فتيلا للوهن والفتن!!
فهذا الوطن للجميع .. وهو أكبر من الجميع.
أستاذ وباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية (الجزائر)