والفضل ما شهدت به الأعداء/ دكتور محيي الدين عميمور
17 ديسمبر 2022، 02:54 صباحًا
لن أملّ من مواصلة المطالبة بوقفات نسترجع فيها ونراجع مواقف اتخذناها وأحداثا عشناها ومراحل قطعناها، تعرضتْ بشكل كامل أو جزئي لما يفرض أن نعيد النظر في تعاملنا معها، سلبا وإيجابا، ونصحح ما يمكن أن يكون خطأ في التقدير أو سوءا في التدبير أو خللا في التعبير.
وبالأمس فقط كنت أتابع شريطا وثائقيا في قناة فرنسية تهتم بالتاريخ، حمل عنوان “حروب منسية”، تناول أحداث العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر 1956 (HISTOIRE – 14.12.2022).
وتذكرت أنني كنت قرأت منذ مدة كتابات “عربية” عن العدوان الثلاثي، فوجئت بأنها تتحامل على الزعيم المصري جمال عبد الناصر، حيث رأت أنه تسرع بتأميم قناة السويس، في حين أن مصر كانت ستسترجعها، كما ادعت الكتابات، بعد سنوات قليلة، بدون تعريض أرض الكنانة وشعبها إلى حرب كان يمكن أن تكلفها عددا أكثر من الضحايا، لولا إسراع الرئيس الأمريكي بفرض وقف إطلاق النار وإعطاء الفرصة للرئيس المصري للتباهي بنصر سياسي يُعوض به الهزيمة العسكرية، التي كانت فضيحة لمصر (هكذا).
ولم تتوقف تلك الكتابات، حتى من باب ادعاء الموضوعية، عند تهديد خروشوف الشهير الذي استنفر الرد الأمريكي على التصرف البريطاني الفرنسي الأحمق.
كان إيماني أن حرب السويس شكلت ضربة هائلة للوجود البريطاني وكانت أول عوامل انهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة التي أجهزت عليها الثورة الجزائرية.
ولم أكن غرّا لكي أتقبل مقولات تدل كل المعطيات على أنها من إنتاج مطابخ العدوّ، يسربها لساحتنا الثقافية عبر عناصر مستلبة مشبوهة الانتماء الوطني، والهدف هو ترسيخ الإحباط في النفوس وإشاعة روح الهزيمة والإساءة للقيادات الوطنية وتلويث ملاحم الكفاح ضد العدو.
لكنني كنت في حاجة إلى أدلة وثائقية، أجنبية بوجه التحديد، تدفع عني شبهة الاعتبارات الوطنية العاطفية، ولم يكن ذلك خوفا من الاتهام بعبادة الزعيم المصري، وهو ما يواجَه به كل من يقول كلمة خير في القيادات العربية، فالمعروف عني أنني كنت من أشرس من هاجموا بعض مواقف عبد الناصر العربية في أوج قوته.
ويأتي الفيلم والوثائقي الذي بثته قناة ليست معروفة بتعاطفها مع أي توجه عربي ليؤكد أننا على حق في اعتزازنا بالمواقف البطولية لأمتنا ولشعوبنا، وليدعم في الوقت نفسه ما أشعر به من احتقار لمن كنت وما زلت أرى فيهم طابورا خامسا، هو نفسه الذي يتحمس اليوم للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
كانت بريطانيا في الخمسينيات تحتفظ في مصر بقوة من نحو 80 ألف عسكري تتمركز في منطقة قناة السويس، وكلهم كانوا لا يعرفون، بتعبير القناة الفرنسية، السبب الحقيقي لوجودهم هناك، وتمكن جمال عبد الناصر، الذي كان يعرف جيدا ما يفعله، من عقد اتفاقية مع بريطانيا وقعها مع “أنتوني ناتنغ”، في 19 أكتوبر 1954، وكان من عناصرها السماح بعودة القوات البريطانية إذا حدث هجوم سوفيتي على تركيا، وواضح أن تلك العودة كانت مستحيلة لاستحالة مبررها، وكان ذكرها في الاتفاقية مجرد “ملعقة سكّر” تسهل على بريطانيا “بَلْعَ” الدواء المر الذي يُمثله الجلاء عن مصر، طريقها السابق نحو الهند.
وكانت قضية تركيا وراء تنديد “الإخوان المسلمين” الشرس بالاتفاقية، ولم يكن سرّا أن الخلفية الحقيقية هي أن الاتفاقية كانت وراء ارتفاع شعبية عبد الناصر بعد أن كانت قد تأثرت بفعل الصراع مع اللواء محمد نجيب، الذي راهن الإخوان عليه ليكون واجهة تدعم وجودهم المؤثر على الساحة المصرية والإقليمية، لكن “الجلاء”، الذي كان حلم المصريين منذ عقودٍ وعقود، كان أول درجات السلم الذي صعد به عبد الناصر سُلّم الزعامة، وكان موقف قيادة الإخوان المسلمين يومها خطأ مؤسفا لأنه كان بداية انهيار “تآلف” كان يمكن أن يكون “تحالفا” يفيد منه الوطن العربي والعالم الإسلامي.
ولكي أتفادى تشكيكا قد يقود إلى جدلٍ يخرج بالأمر عن مجراه أذكر بأنني عشت ذلك شخصيا كعضو في خلية الإخوان بمنطقة طرة، قبل أن أنسحب منها مع زملائي من أعضاء بعثة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إثر تناقض قيادتها مع قيادة جبهة التحرير الوطني برئاسة أحمد بن بله، وللتفاصيل حديث آخر.
وأستطرد لأذكر بأن قناة السويس هي ممر مائي اصطناعي ازدواجي المرور في مصر، يبلغ طولها 193.3 كم وتصل بين البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، وتعتبر أسرع ممر بحري بين القارتين وتوفر نحو 15 يوماً في المتوسط من وقت الرحلة عبر طريق رأس الرجاء الصالح .
واستغرق حفر القناة 10 سنوات، وقام بعملية الحفر بأدوات بدائية ما يقرب من مليون عامل مصري، مات منهم أكثر من 120 ألف أثناء عملية الحفر نتيجة الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة، وهو ما تناوله محفوظ عبد الرحمن باستعراض درامي رائع في فيلم “ناصر 56″، قامت به السيدة أمينة رزق، حيث قدمها وهي تحمل لعبد الناصر ملابس أبيها الذي مات وهويساهم في حفر القناة، بصفته من ثأر لأبيها.
وتم افتتاح القناة عام 1869 في حفل مهيب، وكان من بين من جرت دعوتهم إلى الحفل الأمير عبد القادر بن محيي الدين، الذي استقبله “الخديوي” كرئيس دولة، ويقال أن سبب ذلك هو مباركة الأمير لحفر القناة في مواجهة بعض العلماء الذين كانوا يرون في ذلك أمرا منافيا للشريعة بتغييره لما خلقه الله.
وكانت بريطانيا تعتبر قناة السويس، بتعبير الزعيم الألماني بيسمارك، العمود الفقري لٌلإمبراطورية، ومن هنا جاءت صدمتها بتأميم القناة، وهو ما تم أساسا كردّ فعل على سحب البنك الدولي عرض تمويل السد العالي، الإنجاز الهائل الذي سيكون من أهم عناوين مصر في عهد عبد الناصر، وتم سحب العرض بأسلوب مهين لم يتحمله الزعيم المصري.
وتتناول القناة الفرنسية أحداث الحرب فتطلق عليها تعبير “فياسكو”، أي العملية الفاشلة، وترسم لرئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن صورة تقدمه ككاذب مخادع ضعيف الشخصية، ذكرتني بتعبير عنه سمعته من الرئيس عبد الناصر، الذي قال ضاحكا وهو يتحدث عنه إنه “خِرِعْ” (مرخوف بالتعبير الجزائري، والكلمة عربية أصيلة، ويقال رجل خريع)
وتستدل القناة التاريخية الفرنسية على ما تقوله بالمخطط الغبي الذي اعتمده مع “غي موليه” و”بن غوريون” في لقاء “سيفر” يوم 26 أكتوبر 1956، والذي كان مضمونه هجوم إسرائيلي على شرق القناة يتلوه إنذار بريطاني فرنسي يطلب من القوات المصرية (ومن القوات الإسرائيلية التي لم تكن موجودة بكثافة مؤثرة) الانسحاب مسافة عشرة كيلومترات بعيدا عن القناة، ليتم احتلال المنطقة من القوات الفرنسية والبريطانية بحجة تأمين الملاحة الدولية، وهكذا تتم استعادة السيطرة على القناة.
كان عبد الناصر أكثر وعيا وشجاعة سياسية من أدولف هتلر (والمهم هنا هو النتائج وليس تقييم الزعيمين أو المقارنة بينهما) وتقدم الفضائية الفرنسية ضابطا بريطانيا سابقا في الحملة يقول بأن ناصر كان على حق.
وبمجرد تلقي الإنذار المزدوج أدرك الرئيس المصري خطورة الفخ الذي ينصب للجيش المصري فأصدر أمرا إلى قواته في سيناء بالانسحاب إلى الضفة الغربية للقناة، وهو ما كان، في حينه وظروفه وإمكانياته، عملا فريدا شجاعا، أسيئ تكراره للأسف في 1967، فكانت الكارثة التي كان يجب أن تنهي مهام قائد الجيش آنذاك، والذي كان يجب أن يتم قبل ذلك بسنوات.
وقامت المقاومة الشعبية في منطقة القناة بأدوار بطولية لم يعطها “محمود السعدني” حقها في روايته “عندما يغيب القمر”، في حين أن الغزاة الذين عانوا من عنفوانها يعبرون عن ذلك بنكتة روتها القناة الفرنسية تقول إن جنديا بريطانيا من جنود الحملة لقي مصرعه على يد الرماة المصريين، ولما صعد إلى السماء فوجئ بأنه يُوجّه مباشرة إلى الجنة، وعندما تساءل عن سبب هذا التكريم قيل له: لقد عشتَ الجحيم بما فيه الكفاية في مصر.
غير أن أهم دليل على الهزيمة التي حولت بريطانيا، بتعبير عبد الناصر، إلى دولة من الدرجة الثانية، أن الفرقة العسكرية التي انسحبت من مصر بعد الإنذار السوفيتي والتهديد الأمريكي عادت إلى بريطانيا بطريقة شبه سرية، كما تشير الفضائية الأجنبية، ولم تستقبل لندن قواتها استقبال الأبطال كما حدث حتى مع المنسحبين من “دنكرك”، وليس في بريطانيا مَعْلم واحد يمجد حرب السويس كبقية المعالم الوطنية التي تمجد “بطولات” الجيش البريطاني.
ولقد أفرزت ملحمة السويس في مصر أناشيد تنبض بالعزة والكرامة وحب الوطن من أمثال: أنا النيل مقبرة الغزاة، والله أكبر، وبالطبع والله زمان يا سلاحي وغيرها، وكانت من معالم الاعتزاز بالوطن العربي والتمسك بهدف الوحدة كأمل منشود.
وهنا نفهم لماذا جاء السلام الزائف بأغاني مثل : السّح الدحّ امبو والعتبة قزاز والسلم نايلو في نايلو
والأمر الرائع في كل هذا أن الشعب المصري لم يُخدع، وما زالت عمليات التطبيع تتعرض في أرض الكنانة للنكسات المتتالية، والأمر الأكثر روعة هو أن قطر شهدت مؤخرا صفعات لممثلي الكيان الصهيوني آمل أن يفكر فيها جيدا كل المهرولين.
آخر الكلام: الفريق الرياضي المغربي قام بواجبه خير قيام، وهو يستحق التهنئة لأن مواجهته للفريق الفرنسي كانت جديرة بالاحترام.