يواصل الدكتور طارق ليساوي جهوده المخلصة للمساهمة في تصور طريق يخرج بالعلاقات المغربية الجزائرية من المأزق الذي تعيشه والذي تتزايد خطورته كل يوم.
وكنت أشرت في حديثي السابق لما تعانيه العلاقات نتيجة لعمليات الشحن العدائي الذي تتم ممارسته مع الشعبين منذ سنوات وسنوات، وأعتقد أنني لم أكن مبالغا وأنا أقول إن المواطن الجزائري يُحسّ أحيانا أن المواطن المغربي يرضع كُره الجزائر مع حليب الأم.
واستكمل الدكتور طارق مشكورا هذه الصورة في حديثٍ متميز احتضنته “رأي اليوم”، مشيرا إلى ((( الدور السلبي الذي تلعبه بعض المنابر الإعلامية و المواقع الالكترونية التي أصبحت تصطاد متابعين ومشاهدين ومعجبين من خلال السب و القذف المتبادل، فأصبح البعض ينظر للجزائر هي العدو الوحيد و التاريخي للمغرب، ونفس الأمر في الجزائر تنظر للمغرب على أنه عدوها الذي لا تنام له عين ويخطط صباح – مساء، للإضرار بالجزائر و أمنها ووحدتها واستقرارها..و الواقع أن كلا التصورين خاطئين تماما ولا أساس لهما (..) وهكذا نشأت أجيال جديدة تقتات على مفاهيم خاطئة وكليشيهات تكرسها الآلات الإعلامية الحكومية على كلا الجانبين تعمل على تشويه سمعة الشخصيات السياسية وتركز على الأزمات والتناحرات الداخلية..)))
ذلك ما كتبه المثقف المغربي الكبير ورددت أصوات جزائرية أعرفها تقديرها له، حتى مع تحفظ كثيرين على مساواته بين مواقف الطرفين، لكن المؤسف هو أن ردود الفعل في الجانب الآخر لم تكن في المستوى المطلوب من الرزانة والموضوعية، بحيث أحسست أن هناك من يدفع بنا، هو وأنا، إلى الإيمان بصواب التعبير المنسوب للزعيم المصري الراحل سعد زغلول، عندما رُوِيَ أنه قال لحرمه وهوً يُحتضر: غطيني يا صفية، ما فيش فايدة.
وهكذا قرأنا لمن قدّمه الدكتور طارق على أنه (((شخصية أكاديمية ومن أهل الاعلام وينتمي إلى الجهة الشرقية و تحديدا مدينة “وجدة”، ومعروف بمواقفه المعتدلة ولا يمكن تصنيفه بأي حال من المعادين للجزائر))) حسب تعبير الدكتور.
يشير صاحب المواقف “المعتدلة” إلى اتحاد المغرب العربي الذي انبثق في زيرالدة بالجزائر على يد قادة انتقل أربعة منهم إلى رحمة الله في ظروف متباينة، وهو الاتحاد الذي وُلِدَ ميتا لأنه كان نتيجة لتصورٍ حسن النية لكنه متناقض مع الواقع، خلفيته أن الطريق نحو حلّ قضية الصحراء الغربية هو محاصرة الموقف الجزائري داخل إطار مغاربي تدعمه المملكة العربية السعودية وتباركه فرنسا – فرانسوا متران، وهو استمرار للتفكير الذي كان وراء “سيناريو” المصافحة الشهيرة بين الرئيس الشاذلي والملك الحسن على باب الكعبة، والذي كان يتصور أن قضية الصحراء الغربية هي أزمة جزائرية- مغربية، وليست تناقضا مع الشرعية الدولية.
وأورد أدناه ما تفضل به الشقيق “المعتدل”، وسوف أعلق بين قوسين على ما لم أستطيع تجاهله، وهو ما أعتذر سلفا عما يمكن أن يؤدي له التعليق من تعقيد في القراءة.
يقول الشقيق:
التقارب الذي حصل آنذاك (بتكوين الاتحاد) انتهى بالشاذلي بن جديد الى الاستقالة مجبرا بعد مسلسل الانفتاح واعلان التعددية الحزبية وبداية الربيع الجزائري (والواقع أنه لم يكن للتقارب المذكور أي دور في استقالة الرئيس) ليخلفه بوضياف الذي تم اغتياله لأنه كان سيسير في اتجاه الانفتاح ( من قال ذلك، وعلى أي أساس يعتمد الشقيق هذا الاستنتاج الذي يجعل الرئيس الشهيد مُنفّذا لإرادة المغرب لا أمينا على موقف الجزائر) واستمرار العلاقة مع المغرب ( ولا أدري لماذا يُقحم المغرب في أمر جزائري داخلي ) وهذا ما لم يكن في صالح جماعة ضباط الجزائر (تعبير يجسد الادعاءات المغربية المتواصلة عن سيطرة المؤسسة العسكرية على الحكم) ولا في صالح فرنسا ( أي أن القيادة الجزائرية كانت دمية في يد فرنسا) فتم توقيف المسلسل الديموقراطي لان المعادلة واضحة: الخيار الديموقراطي في الجزائر = علاقات مع المغرب وانهاء قصة الجماعة الانفصالية (المقصود جبهة البوليزاريو التي تفاوض معها المغرب أكثر من مرة والتي كانت تحظى بدعمه السياسيي والإعلامي كما أسلفت) = مصالح مجموعة من القوى ستنهار وعلى رأسها رأس المال الجزائري المرتبط بالمستعمر (وواضح أن ترديد هذا في 2023 هو إدانة “غير مؤدبة” للقيادة الجزائرية وتشويه “غير مؤدب” لكل توجهاتها، بالإضافة إلى اتهام المؤسسات المالية الجزائرية بالعمالة للأجنبي).
ويواصل الشقيق المعتدل رسم الصورة التي يراها عن الجزائر قائلا:
بعد الحراك الأخير في الجزائر تم وضع خطة على نفس منوال خطة “خالد نزار ” في حقبة الشاذلي بن جديد وانهوا الحراك بالشكل المعروف (وهي إدانة ضمنية لا أملك إلا أن أقول أنها ليست في العفة المطلوبة من المثقف الشقيق، وهي تشوه ما قامت به الجزائر من تتويج للحراك الوطني بحكمة وذكاء، مما مكن من التعامل السياسي المناسب مع الهبة الشعبية التي أنهت نظام الرئيس عبد العزيز بو تفليقة، والتي لم تزهق فيها روح واحدة، وهكذا أمكن تفادى الأسلوب السوداني الذي ما زال القطر الشقيق هناك يعاني من تبعاته).
ثم يقول الشقيق “المعتدل”: وضعوا (أي الجزائريين) قيادة من أكثر القيادات عداء للمغرب (المقصود بالطبع هو رئاسة عبد المجيد تبون) وهكذا فنفس الحكاية القديمة تتكرر. كل من حاول التقارب مع المغرب فهو خارج اللعبة او سيتم الانتقام منه ( يعني أن الشاذلي أستقيل وبو ضياف تم اغتياله لأنه أراد التقارب مع الرباط، وهي نظرة سطحية خاطئة لأننا جميعا نريد التقارب مع المغرب ولكن ليس على أساس قبول الأمر الواقع وتقبل منطق التوسع الإقليمي والاستسلام لخرافة الحقوق التاريخية).
ويقرر الشقيق: حتى النخبة السياسية المدنية والمثقفة تسير على نفس النهج الا القليل منهم (يعني أن الأكثرية الجزائرية سيئة شريرة مُجرّمة … إلا من رحِمَ المعلق الكريم).
ويواصل المثقف، ابن وجدة العزيزة، قائلا: بالنسبة للمغرب، الوضع يختلف تماما فهو لا يمكنه أن يغامر بعلاقاته مع قوى عظمى تفتح له آفاقا اقتصادية كبيرة وحلفا قويا مع امريكا وتل أبيب (وليس هناك أوضح من هذا القول في تحديد اختيارات الأشقاء) ويفتح علاقات مع الجزائر ( التي تعادي الكيان الصهيوني وليست ممن يخضعون لإرادة واشنطون) فهو (أي المغرب) قد اختار الطريق الصعب الا وهو رهن وحدته الترابية بالعلاقة مع الكيان الصهيوني وفتح المجال لليهود المغاربة (الصهاينة، وهاذان القوسان اللذان يحتضنان وصف اليهود المغاربة هما من عند الشقيق) للعودة الى المغرب وعما قريب ستجدهم في مناصب حساسة هنا وهناك (وهنا لا أملك إلا أن أحيي الصراحة والوضوح).
ويختتم الشقيق تعليقه على مقال الدكتور خالد قائلا له بنرفزة واضحة: إذن عن اي مصالحة تتحدث؟! اطروحة غير واقعية وتحقيقها رهين بنظام عالمي هو من يحدد المواقع والادوار (وهو ما أراه استهانة باستقلال الجزائر والمغرب على حد سواء، لأنه يجعل من بلدين من أهم البلدان العربية والإفريقية مجرد دمية في يد العواصم الكبرى المتحالفة مع الكيان الصهيوني).
ولا من أعترف أن المثقف المغربي المعتدل كان أكثر أدبا وعفة من الأستاذ الشقيق الذي قال عن أخيكم:
“هو (أي أخوكم) من منظري الحرس القديم المعادي للمغرب، ولسانه السليط يؤكد أن هذا السياسي يمثل جيبا من جيوب مقاومة أي تطبيع مع الجيران (؟؟) فهو مجاهد في نشر ثقافة الظلم والهيمنة في المنطقة (..) ويُعتبر من الوجوه الفاشلة لحزب جبهة التحرير الوطني، ودليل على انحطاط السياسة في بلد المليون شهيد (..) والمدرسة التي تربي فيها هي مدرسة الفكر الأحادي التي ترفض الاتجاه المعاكس (..و) كواليس قصر المرادية (رئاسة الجمهورية) تروي قصص دسائسه التي نسجها والتي خلفت العديد من الضحايا من مفكرين وعلماء ورجال أعمال وضباط شرفاء (الأستاذ لم يذكر لنا اسما واحد من أولئك الضحايا) وهذه عادة الأشخاص الذين تربوا في دهاليز المخابرات (!!) وهنا أشير إلى جمود قلم صاحبنا (أخوكم دائما) في كتاباته وتحليلاته وهذا تواطأ منه مفضوح مع الاستعمار(وهو) محترف مختص في إخفاء الحقائق”.انتهى.
وبرغم أن البعض هناك ومن هناك يتهمني بأنني أدافع دائما عن الموقف الجزائري، وبرغم أن هذه ليست تهمة عليّ أن أتبرأ منها، فإنني أتحدي أن يذكر لي من يريد سطورا مماثلة كتبها مثقف جزائري أو صرح بها مسؤول جزائري تسيئ للمغرب شعبا أو تاريخا، أو تتجاهل دعمه الكريم للجزائر في كفاحها من أجل الاستقلال.
وبرغم الشراسة التي يعبر بها كثيرون هناك عن كراهيتهم للرئيس هواري بو مدين فأنا لا أنسى ما قاله لي يوما، وما كتبته أكثر من مرة، من أن استقرار الجزائر من استقرار المغرب واستقرار المغرب من استقرار العرش المغربي، وهو ما نسير جميعا في الجزائر على هداه.
وأكرر بأنني أحترم قيام كل مواطن بالدفاع عن وجهة نظر بلاده بكل الحماس الذي يرتئيه، على أن يدرك بأن الشتائم والإساءة للخصم تسيئ أولا للقضية التي يدافع عنها، وأن المغالطات تفقده أهم متطلبات النجاح وأول عناصره، وهي عجزه عن تحييد الخصوم وكسب الأنصار.
وأكتفي اليوم بالقول للرفيق طارق ليساوي: قدرنا أنت وأنا والنخبة الواعية من المثقفين في البلدين وفي المنطقة أن نواصل ما نقوم به إيمانا بحق شعبينا في السلام والوئام، وبواجبهما التاريخي في بناء المغرب العربي الواحد المُوحّد.
وكلا الشعبين ليسا أقل وعيا ووطنية من الشعب الألماني والشعب الفرنسي، والمقاربة واضحة.