رسالتان من واشنطن
ما تنقله وكالات الأنباء من واشنطن فى الآونة الأخيرة، بالنسبة لنا، ليس أخبارا مثيرة فحسب ولكنه رسائل مهمة جديرة بأن تقرأ جيدا. أتحدث عن احتشاد القوى الحية فى المجتمع لتحدى الرئيس الجديد دونالد ترامب، بعدما تبين أن سياسته تهدد قيم المجتمع الأمريكى وتقاليده السياسية الراسخة. وكانت الهزيمة المدوية التى منى بها ترامب هذا الأسبوع أحدث جولات الصراع بين المجتمع والرئيس. ذلك أنه منذ حملته الانتخابية دأب على التنديد بمشروع الرعاية الصحية الذى تبناه الرئيس السابق باراك أوباما (أوباما كير)، ووعد بهدمه وتقديم مشروع بديل له. وحين فعلها، اكتشف أنه لن ينال الأغلبية التى تسمح بتمريره. فما كان من رئيس مجلس النواب، بول ريان، إلا أن سحب المشروع تجنبا للفضيحة وسترا لموقف الرئيس. إذ تبين أن رافضى المشروع لم يكونوا خصومه الديمقراطيين فحسب ولكن بعضا من أنصاره الجمهوريين انضموا إليهم فى المعارضة الشرسة له. وعلق على ذلك المحلل السياسى الجمهورى البارز شارلى سايكس بقوله إن ذلك أكثر يوم جرى فيه تحدى رئاسة ترامب، معتبرا أن ذلك «لم يكن فشلا فحسب، ولكنه فشل مدوٍّ».
ليس ذلك الموقف الوحيد للكونجرس الذى يعارض فيه الرئيس ويتحداه، ذلك أن أعضاء من الديمقراطيين وبعض الجمهوريين لم يكفوا عن انتقاد سياسته، حتى أن أحدهم طالب بالكشف على سلامة قواه العقلية للتثبت من قدرته على الاستمرار فى الحكم. ولا يزال التحقيق فى علاقته بروسيا موضوع جدل داخل الكونجرس، بسبب تمسك الديمقراطيين بالدعوة إلى إجراء تحقيق خاص فى الموضوع.
إلى جانب الدور الذى يقوم به الكونجرس. فإن أحدا لا ينسى أن القضاء كان سباقا فى كبح جماح الرئيس ورفض أوامره التى دعت إلى منع دخول رعايا ٧ دول ذات أغلبية إسلامية إلى الولايات المتحدة. إذ تولت المحاكم الفيدرالية نقض قراراته وتعليقها، الأمر الذى أثار غضب ترامب ودفعه إلى مهاجمة القضاء واتهامه بأنه أصبح يهدد أمريكا.
فى هذا الصدد فلا أحد يستطيع أن ينسى الدور الذى يقوم به الإعلام فى انتقاد الرئيس وفضح سياساته منذ حملته الانتخابية. ولاتزال كبريات الصحف الأمريكية وأشهر البرامج التليفزيونية تقوم بذلك الدور، سواء من خلال رصد الأكاذيب التى يروج لها أو إفساح المجال لآراء الأكاديميين وعناصر النخبة الذين تصدوا له بكل شجاعة وإصرار، وهو ما أغضب الرجل حتى فقد أعصابه واعتبر الإعلام «عدوا» له، خاصمه وقاطع بعض منابره.
خلاصة الكلام أن المجتمع الأمريكى ممثلا فى مؤسساته المستقلة هو الذى يتحدى الرئيس الآن ويحاصره. الكونجرس من ناحية والقضاء من ناحية ثانية والإعلام من ناحية ثالثة. وهو ما ينبهنا إلى أمرين ويبعث إلينا برسالتين مهمتين، الأولى أن تلك المؤسسات ما كان لها أن تقوم بذلك الدور الجليل إلا لأنها تشكلت ومارست فى أجواء من الحرية والديمقراطية التى وفرت لها الاستقلال وسلحتها بالجرأة والنزاهة السياسية. الأمر الثانى أن قوة مؤسسات المجتمع المدنى هى الحصن الحقيقى الذى يحميه من تغول السلطة ونزق القائمين عليها. وليس صحيحا أن المجتمع تحميه عضلات السلطة أو سلاحها، فتلك لها أهميتها فى لحظات معينة وحدود مقدرة، أما القوة الحقيقية والباقية فتتمثل فى مؤسسات المجتمع التى تخرج من رحمه ويكون ولاؤها الأول له، بحيث تظل معنية بدعمه وليس التعلق بأهداب السلطة.
فهمي هويدي