النغمة السائدة حاليا في واشنطن، وبعض العواصم الاوروبية، وتتردد بقوة في وسائل الاعلام الغربية، هي تقسيم سورية من خلال إقامة مناطق “حكم ذاتي مؤقتة” للجماعات العرقية والدينية (Interim Autonomy) كحل اولي للازمة السورية، وشاركت شخصيا في اكثر من برنامج حواري، وفاجأني هذا الطرح الذي تردد على السنة خبراء أمريكيين خصوصا، كانوا قريبين من مداولات المؤتمر الدولي الذي استضافته واشنطن للحرب على الإرهاب.
ريكس تيرلسون، وزير الخارجية الأمريكي الجديد، والحديث العهد بالسياسة، صاغ الخطة الحالية التي يتسارع تطبيقها على الأرض بلغة مخففة عندما قال “سنقيم مناطق الاستقرار الذاتية المؤقتة وهذه تختلف كليا عن المناطق الآمنة التي تريدها المعارضة السورية، والهدف منها هو السماح للنازحين السوريين بالعودة اليها”.
***
عملية تقسيم سورية، وباختصار شديد، قد تبدأ من مدينة الرقة وجوارها، كخطوة التفافية لتغيير النظام، تماما مثلما جرى استخدام قرار مجلس الامن الدولي الذي ينص على حماية المدنيين كغطاء لقصف ليبيا وتغيير نظامها.
سيطرة القوات الامريكية (300 جندي على الارض) المدعومة من قوات سورية الديمقراطية الكردية على سد الطبقة ومطارها، تحت ذريعة منع انهياره او تفجيره، والتحكم في تدفق المياه في نهر الفرات من منطقة جرابلس الى المدينة، واغلاق طرق امداد “الدولة الاسلامية” من الشمال الغربي كلها تأتي تمهيدا لقيام اول منطقة “حكم ذاتي” امريكي في محافظة الرقة.
القوات الامريكية قطعت طريق حلب الرقة لمنع تقدم الجيش السوري وحلفائه نحو المدينة، والمشاركة في عملية تحريرها بأي شكل من الاشكال، في اطار الاستعداد للهجوم الشامل التي قال وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لورديان انها ستبدأ الشهر المقبل.
الامريكان وحلفاؤهم الغربيون لا يريدون تكرار نموذج تحرير مدينة برلين في مدينة الرقة، أي ان لا يكون أي شريك روسي او سوري لهم فيها، ولذلك فان قوات بريطانية وفرنسية ستتوجه الى مدينة الطبقة للانضمام الى القوات الامريكية لدخول عاصمة “الدولة الإسلامية”، و”تطهيرها” بالكامل بمساعدة القوات الكردية.
ترامب يستعد حاليا لاقامة سرادق الاحتفال بهذا النصر الكبير المتوقع، حسب التقارير الغربية، ومن غير المستبعد ان يتوجه بنفسه الى المدينة بعد “التحرير” اذا سارت الأمور وفق المخطط المرسوم، ولكن لدينا شكوكنا.
المدينة من المفترض ان تسلم الى القبائل العربية المحلية، حسب تشريبات أمريكية، و”الزعيم” الذي قد يتوج على عرشها قد يكون السيد احمد الجربا، احد شيوخ مدينة شمر الذي شكل جيشا قبائليا يتكون من خمسة آلاف مقاتل، وربما يلعب دور الأمير خالد بن سلطان، قائد القوات العربية التي دخلت مدينة الكويت بعد اخراج القوات العراقية منها على يد الجنرال الأمريكي شوارسكوف عان 1991.
***
لا نستطيع ان نتحدث حاليا عن فرص نجاح هذه الخطة او فشلها، ولكن تظل هناك العديد من الأسئلة، ابرزها قدرة السيد الجربا وجيشه على ادراة هذا “الجيب”، وقبول القبائل الأخرى بزعامته المفترضة؟ وهل ستقدم قوات سورية الديمقراطية هذه الخدمة؟ وهي التي من المتوقع ان تتكبد خسائر بشرية كبيرة، مجانا ودون ثمن مقابل؟ وهل يكون هذا المقابل اقامة الحزام الكردي على طول الحدود السورية الكردية؟
التاريخ علمنا بأن دخول القوات الامريكية لاي دولة عربية او شرق أوسطية يقابل بمقاومة شرسة، وخسائر بشرية كبيرة بالتالي، ولو بعد فترة قصيرة من الوقت، وهذا ما حدث في بيروت عام 1982، وفي مقديشوا عام 1994، وفي بغداد عام 2003، ولا نعتقد ان المدن السورية والرقة بالذات ستكون استثناء، وعلينا ان لا ننسى ان التدخل العسكري الأمريكي في العراق هو الذي بذر البذور الأولى لـ”الدولة الاسلامية”، والتدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان في الثمانينات هو الذي سقى نبتة تنظيم “القاعدة”.
التدخل العسكري يبدو سهلا على الورق، وتحويل الرقة من عاصمة لـ”الدولة الإسلامية” الى عاصمة لحكم ذاتي هجين في اطار مخطط تقسيم سورية، قد ينطبق عليه المثل العربي الذي يقول “كمن يستجير من الرمضاء بالنار”.. والله اعلم.