قراءة في الوطن والمواطنة في ذكرى فضل الله / د.عادل رضا
ان الشخصيات التي عاشت بيننا وقدمت تجربتها في الثقافة والسياسة والاقتصاد والتربية والجوانب العلمية بكل انواعها واتجاهاتها، ان هؤلاء يمثلون القيمة الحية على مدى الزمن، لأنهم كانوا من أصحاب “البصمة” ومن الذين صنعوا التغيير الى الافضل، ولم يكونوا مجرد عابرين سبيل في هذه الحياة، لذلك دراستهم وقراءة مرحلتهم التاريخية بكل ما تحمله من سلبيات وإيجابيات يعتبر من الأمور الحيوية ومن هنا يجب ان نتذكرهم كأشخاص قدموا التجربة والرسالة.
نحن نقترب في هذه الايام من الذكرى الثالثة عشرة لوفاة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله الفقيه العربي اللبناني المتخصص في القران الكريم وصاحب عدد ضخم من المؤلفات الموسوعية في الفكر الإسلامي والتفسير والفقه والتربية والسياسة، والتي ظلت تمثل قاعدة للفكر والحياة عند الكثيرين من الناس في مختلف البلدان العربية. و التي لم تكن تمثل تنظيرا هوائيا بعيد عن الواقع بل كانت منطلقا لتأسيس عدد كبير من المشاريع المهمة التي تمثل حركة الفكر التنفيذية التي تؤثر في حياة الانسان لذلك انطلقت سلسلة المدارس التعليمية و المعاهد الفنية ومراكز رعاية المعاقين , و أيضا مراكز صناعة الثقافة الإسلامية من اعلام تلفزيوني واذاعي وطباعة كتب و نشر مجلات وتأسيس مواقع انترنت , و معها عدد من مؤسسات رعاية المعاقين ودور الايتام المراكز الصحية والمستوصفات الذي يمثل “مستشفى بهمن” الايقونة الأكبر فيها , وهذا كله ضمن ارتباط المال الشرعي مع الفكر مع الحركة التنفيذية على ارض الواقع لكي يشاهد الانسان العربي اللبناني نموذجا لما يستطيع الفكر الديني ان يمثله ليس فقط في مباني و مشاريع و حركة أموال شرعية مفيدة للمجتمع بل في تأسيس جيل شبابي متجدد يمثل مؤمنين و ملتزمين بما قاله و فكر فيه المرحوم السيد محمد حسين فضل الله.
ان المرحوم السيد محمد حسين فضل مثل علامة فارقة في التخصص الديني من حيث انه ربط الآيات القرأنية مع الواقع بما أنتج الفكر الساعي لصناعة نهضة حضارية تشمل الفرد والمجتمع، لذلك ذكرى وفاته لا تمثل “ذكرى شخصية” بل هي تشمل إعادة التركيز بما قدمه المرحوم فضل الله من مشروع فكري رسالي إسلامي أراد إعطاء النموذج الحركي القابل للتطبيق من خلال وعي منفتح على الله ورسوله وعلى الاولياء الصالحين، انطلاقا من كتاب الله القران الكريم وسنة رسوله لذلك استطاع السيد ان يجذب الناس الى الإسلام بشكل عقلاني حركي.
ذكرى وفاة المرحوم السيد محمد حسين فضل الله تعود ونحن ضمن تكليفنا الشرعي نريد احيائها، لأن هناك من يريد ان يموت الفكر الإسلامي الحركي التي حملته هذه الشخصية العظيمة، هو ك “أنسان” رحل جسدا، ولكن المشروع الفكري الإسلامي الذي قدمه وكذلك تجربته هناك من يريد ان يحصرها ويحاصرها ويجعلها “برواز” لصورة بعيدا عما هو مهم وما هو اهم وهو قاعدة الفكر القرأني كمنظومة متكاملة ومنهج تفكير , ان الكسالى و الجبناء و النائمون في عسل الغفلة عليهم ان يدركوا ان السيد فضل الله ليس صورة يتم رفعها و ليس طباعة منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي تبعد حقيقة اهداف مشروع السيد الإسلامي القرأني الحركي عن النتائج المطلوب صناعتها على الارض التي تتعلق ب “أسلمة” الفرد و المجتمع و تحقيق نموذج تطبيقي تنفيذي واقعي محسوس يلمسه الناس و يعيشونه ضمن حياتهم ,انتقالهم لمستويات حضارية بعيدا عن كل التخلف و الهمجية والموت الذي يعيشونه بعيدا عن الإسلام , ان النتائج التي نريد هي ان يكون لدينا اسلاما يتنفس و يصنع الابداع الفردي و المجتمعي لكي يكون الإسلام قائدا للحياة و لكي لا يقول قائل ان هناك مسلمون بلا اسلام ؟!
ان السيد محمد حسين فضل الله “المشروع” و “النهج العقلي في استخلاص ايحاءات النص القرأني واسقاطاته على الواقع” والسيد فضل الله بما يمثله ك “منظومة فكرية إسلامية قرأنية تغييرية انقلابية ثورية” لا علاقة له بما يقوم به “البعض” بأبعاده عن حقيقة مشروعه الحقيقي وتحويله لما يشبه إصدارات “تنمية الذات” الغربية السخيفة، او اغراقه مع المدائح الشخصية الغير ذات معنى من دون الدخول في عمق تفاصيل “المنظومة الفكرية الإسلامية القرأنية التغييرية الانقلابية الثورية”.
ان المرحوم السيد محمد حسين فضل الله “لا” يحتاج الى مدائح لشخصه من هنا وهناك و “لا” ل “أبيات شعر” او حالات دعائية “لا” تدخل الى أعماق “منظومته الفكرية الإسلامية القرأنية الحركية التغييرية”.
لقد كان السيد فضل الله “امة في رجل” و اذا اردنا ان نعطيه الموقع الحقيقي له علينا ان نستمر في المسيرة من خلال التركيز على دراسة و قراءة هذه المنظومة وتحليلها و أيضا الانطلاق منها لمواقع جديدة على الساحة , اما الابتعاد عن هذه المنظومة , و الاكتفاء في تعليق الصور و المدائح و نشر منشورات لوسائل التواصل الاجتماعي , فهذا الامر قد يحقق ما يريده الكسالى وما يرغبه المستفيدين “ماليا” و “مصلحيا” من “تعليق صور” السيد محمد حسين فضل الله , من دون الحركة التطبيقية لأفكاره , و هذه إعادة مؤسفة لما حدث سابقا للأمام روح الله الخميني , و هذا تفصيل اخر في موقع مختلف , و لكننا في ظل قدوم هذه الذكرى الثالثة عشرة لوفاة المرحوم السيد محمد حسسين فضل الله نقول:
نحن نعيد احياء هذه المناسبة مجددا أداء لتكليفنا الشرعي وأيضا لنصفع من يريد النوم لكي يستيقظ !؟ و منها ننطلق لنتذكر “تجربة رجل” تحرك في خط صناعة حركة إسلامية تشمل العالم…كل العالم , من خلال قناعة و ايمان بأن “الإسلام هو الحل” , ليس من خلال الشعار الفارغ المنطلق بدون قاعدة للفكر و الحياة , بل ان هذا الشعار عند المرحوم فضل الله مختلف لأنه في العمق يحمل “مشروعا متكاملا موسوعيا” , تفجر هذا المشروع من خلال انطلاقه من تخصصه القرأني و عن طريق موقعه ك ” فقيه ديني” و انسان “بدأ” التجربة الإسلامية من الواقع الحوزوي النجفي و من عمق المجتمع العراقي مع كل تعقيداته و اضطراباته و تنوعاته الاجتماعية و السياسية و الثقافية و كان ذلك من خلال وجوده هناك جغرافيا و عن طريق تفاعله مع جيل من المتخصصين في الدين عاشوا نفس الفكرة معه في ذلك الامل و الهدف بأن يعود الإسلام ليقود الحياة , و من هذا الامل و ذلك الهدف عاش السيد محمد حسين فضل الله داخل الموقع العراقي اكثر من ثلاثين سنة دارسا و عالما و فقيها و حركيا و ناشطا في مختلف المستويات و المراحل و سباقا مع زميله و صديقه المرحوم الشهيد محمد باقر الصدر و اخرين , ليتم الفرض عليه لأسباب متعددة و ضمن تعقيدات الحوزة النجفية ان يعود لوطنه لبنان الذي ينتمي اليه حسب أوراق الهوية و الجواز , و ان عاش السيد محمد حسين فضل الله العالم….كله في عقله و قلبه و روحه إسلاميا.
من داخل لبنان وهو “الموقع العربي الصعب” في تشابك تاريخه وعمق تجربته الحضارية و الثقافية و كون لبنان مصنع الأفكار و صراعها المفتوح و أيضا موقع أساسي لأغلب الحركات السياسية و الفكرية من إسلاميين و قوميين عرب و ماركسيين و ليبراليين و مرتبطين مصلحيين وجواسيس لهذه الدولة الاجنبية او لهذا الجهاز الاستخباراتي المتأمر او لكثافة المواقع الدينية فيه حيث يتواجد على ارض الدولة اللبنانية كل تقسيمات الدين المسيحي اذا صح التعبير والإسلامية مع انشقاقاتهم و مشاكلهم و تداخلاتهم الداخلية و الخارجية و تشابكهم الاجتماعي و الشخصي و امتداداتهم هذا غير “جنون” انطلاق الحرب الاهلية اللبنانية و عجائب وغرائب المجتمع اللبناني و أيضا تناقضات الأحزاب و الشخصيات اللبنانية داخل مؤسسات الدولة هناك مع المشاكل الاجتماعية و الشخصية .
ما اريده ان أوصل اليه واضعه ك “استنتاج”: ان المرحوم السيد محد حسين فضل الله انتقل من موقع جغرافي ” عراقي صعب معقد” لموقع جغرافي اخر “لبناني” أكثر صعوبة وأعمق في التعقيد وفي التفاصيل وأخطر؟، ومنها انطلق مع الناس وبدأ من جديد.
وك “وكيل لأستاذه” المرجع أبو القاسم الخوئي ووكيل للمرجع السيد الكلبيكاني ولمراجع تقليد اخرين، تحرك في منطقة النبعة الشعبية الفقيرة في ضاحية بيروت الشرقية بدأ في القاء المحاضرات والندوات وكان كذلك يتحرك في “جنوب لبنان” بشكل اسبوعي ويتواصل اجتماعيا مع الناس ويشارك في التجمعات الخطابية والوعظية ويحاول ان يبدأ في إعادة صناعة الواقع الروحاني وتقديم القيم الدينية العامة والتوعية الإسلامية السياسية , وهذا كان من الأمور التي استفزت التيارات اليسارية هناك وجعلهم يتعقدون من حضور السيد “جنوبيا” لما خلقه هذا النشاط من “جاذبية جماهيرية”
في النبعة أسس ال “المعهد الإسلامي الشرعي” الذي أسهم في تخريج جيل من المتخصصين فقهيا والذين لاحقا تحولوا لشخصيات فاعلة في الواقع اللبناني ومنهم الشهيد “راغب حرب” وكذلك أسس السيد مكتبة عامة وناديا نسائيا ومستوصفا صحيا مع عدد من المواقع العبادية الدينية في مناطق أخرى.
علينا قراءة موقع اخر لحركة السيد فضل الله مع ارتباطاته ك “وكيل لقيادة الثورة الإسلامية الامام روح الله الخميني” , الذي كان يصفه الاعلام العالمي لأكثر من سنة ب “زعيم المسلمين في العالم” وهو صاحب الموقع الفقهي ك “مرجع تقليد” و الفيلسوف العميق المتمكن من أدوات الفلسفة المعرفية , و المتخصص في العرفان الإلهي , و صاحب التجربة الحركية الإسلامية التي تم حرمان العرب من قراءتها و تحليلها و دراستها في شكل علمي حقيقي , لأسباب تتعلق بالأستحمار الذاتي وأيضا بالدعايات الاستخباراتية الغربية مضافا اليها الحاجز اللغوي المتعلق في صناعة ترجمات إعلامية و ثقافية و قراءات سياسية لما يجرى على ارض ايران قبل أنشاء نظام الجمهورية الإسلامية و بعد التأسيس.
لماذا تحركنا في الشرح والتفصيل عن المرحوم الامام الخميني بعيدا عن باقي مراجع التقليد الذين كان السيد فضل الله وكيلهم داخل لبنان، بكل بساطة لأن الامام روح الله الخميني كان يمثل النقيض من الحالة الكلاسيكية لبقية المراجع داخل الحوزة النجفية والقمية.
ان السيد فضل الله قد تكامل وتناغم حركيا مع القيادة المؤسسة لنظام الجمهورية الإسلامية وأصبح محل ثقة الامام الخميني وتقديره وهذا الامتداد كان له ابعاد وذكريات اخرى في الموقع النجفي لم يتم توثيقها ودراستها للأسف الشديد الى الان؟!، وان كان السيد فضل الله لم يكن جزءا تنظيما رسميا مع الهيكلية الإدارية المرتبطة مع الجمهورية الإسلامية ولكنه دعم هذه الجمهورية الإسلامية كالتجربة الأساس في تاريخنا المعاصر وصلت فيه الحركة الإسلامية لموقع تأسيس دولة فكرية إسلامية وهذا موضوع اخر منفصل.
اذن المرحوم السيد محمد حسين فضل الله “قبل إعلانه مرجعيته الفقهية” كان محل ثقة واطمئنان في فترة الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات، لأهم مرجعيات تقليد على مستوي الكرة الأرضية ناهيك عن علاقاته بمن هم في مستويات التخصص الديني الأقل تراتبية او من الحزبيين.
ضمن هذا كله المرحوم فضل الله قدم تجربة تاريخية سياسية حركية اجتماعية تربوية تنظيمية طويلة وعميقة، خلقت “تميز” و “فرق” بين ما قدمه وبين ما حاول الاخرين ان يقدمونه من تجارب حركية إسلامية في الواقع العربي والساحة بطبيعة الحال تتسع للجميع , و لكن للحق و الحقيقة و للتاريخ كان للسيد محمد حسين فضل “السبق” في الدراسة والتحليل العميق المفصل والشاهد على ذلك كان نظريته في الحوار و نظريته في القوة و نظريته في كيفية العمل الحزبي و التنظيمي , وأيضا تقديمه دراسات محورية حول الحركة الإسلامية و واقعها و مستقبلها وكيفية عملها ضمن الصعوبات و التحديات و أيضا كيف تنطلق الحركة الإسلامية ؟ واين موقعها الوطني والقومي والعالمي ضمن تفاصيل فكرية وثقافية من خلال دراسته للنصوص القرأنية واستخراج إيحاءاتها في الجوانب الحركية المرتبطة مع الواقع.
من هذه الدراسات والتنظيرات اريد ان انطلق في تحليل رؤيته للوطن والمواطنة في الواقع الحركي عند الإسلاميين.
يقول السيد فضل الله في كتابه الشهير والمهم الحركة الإسلامية هموم وقضايا بهذا الخصوص: “للوطن في الوعي الفكري والشعوري للإنسان المسلم، خطّان مختلفان؛ خط شعوري عاطفي، يتصل بالجوانب الحميمة الذاتية، الخاضعة للانفعال الداخلي بالأشياء القريبة إلى عاطفته، المتصلة بمكامن الإحساس الذاتي في كيانه. وخط سياسي يلتقي بالمضمون القانوني للأرض، في حدودها الجغرافية الدستورية التي تفصلها عن الأرض الأخرى، التي تملك حدوداً معينة فاصلة، وينفتح على مجموعات بشرية مختلفة في الدين والمذهب والاتجاه السياسي والقومي واللون والعرق، ولكنها تتّحد فيه، ويتقاطع وينفصل في علاقاته بجماعات أخرى أو ببلدان أخرى.”
“ليس هناك أي إشكال في الخط الأول، لأن الله لا يمنع أحداً من عباده، من أن يألف بعض الأشياء التي تحيط به، لتتحول الألفة إلى علاقة في الذات، وبالتالي إلى حالة عاطفية تحنو وتهفو وترق وتنفتح على كل مفردات الأرض والناس والأشياء، لأن الله لا يريد للإنسان أن يتعقّد في عاطفته، ما دامت المسألة مقتصرة على جانب الإحساس العاطفي، فإذا اقتربت من مواقع الانحراف، لتنتقل إلى التأثير في الخط العملي في الحياة، ردّها الإسلام إلى الخط المستقيم، بالعمل على عقلنة العاطفة وضبطها، وبالتالي، تحريكها في الدائرة الإسلامية، بعيداً عن خط الضلال والانحراف.
وإذا استنطقنا القرآن الكريم، نجد أنّ الكثير من آياته تقرّ بالجانب العاطفي الناتج من الارتباط بين الإنسان والأرض التي يقطنها، فيتحدث عن “الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق”، وعن “الذين ظاهروا على إخراجكم”، في لفتة إيحائية إلى الجانب العميق من العاطفة، التي تشد الإنسان إلى داره، بحيث يكون الإخراج منه، أو المناصرة عليه، مشكلة كبيرة قد تبرر الحرب أو المقاطعة أو ما أشبه ذلك.
وفي هذا الجو، قد نستطيع استيحاء الخط الفكري في هذه الدائرة، ذلك أنَّ الإسلام لا يبتعد بالإنسان عن خصوصياته الذاتية العاطفية في مشاعره الإنسانية، فيما يحبّ أو فيما يكره، بل كل ما هنالك، أنه يعمل على تهذيبها بالطريقة التي تركزها وتثبّتها في خط الإيمان، وضمن إطار الفهم التوحيدي للأمور، وإذا ثبت صدق الحديث المشهور المأثور: “حب الوطن من الإيمان”، فإن ذلك يؤكد علاقة العاطفة المتصلة بوطن الإنسان بإيمانه، كذلك الأحاديث الأخرى، مثل: “عمرت البلدان بحب الأوطان”، و”من كرم المرء بكاؤه على ما مضى من زمانه، وحنينه إلى أوطانه”، كذلك ما قاله الرسول(ص) عن مكّة وحبه لها، كل هذه تقر بمشروعية هذه العاطفة، وباعتبارها مسألة طبيعية.”
“وفي الخط الآخر، قد يبرز أمامنا التحفّظ الفكري على بعض المفردات من ناحية المضمون، فهل يعني الالتزام بهذا الخط، أي الخط الفكري الذي لا يبعد الإنسان عن خصوصياته، الابتعاد عن ملاحظة الخصوصية الإسلامية فيه، بحيث لا تمثل المصلحة الإسلامية أية قيمة في تحديد الموقف أو تحريك القضايا في ساحة العلاقات، أو أنه يعني دراسة المسألة من الناحية الإسلامية العامة، التي تلاحظ كل خصوصيات الساحة، وترعى كل المواقع، بكل دقة وحكمة وواقعية، بحيث لا تلغي حقوق كل الناس في قضاياهم المتنوعة المرتبطة بالخطوط العامة؟
قد يطرح البعض في هذا المجال، الاهتمام بالمسألة الإسلامية في قضايا المسلمين، فلا تمثل قضايا غيرهم إلا حالة هامشية في الموقف، لا تثير الكثير من الاهتمام، ولا تدفع إلى المزيد من التحرك، لأن المسألة لدى المسلم، أنه يهتم بأمور المسلمين، فليس معنياً بأمور غيرهم، ولا سيما إذا كانت هناك خلافات في المواقف السياسية أو الاجتماعية أو الجهادية. وقد يطرح بعض آخر المسألة في اتجاه آخر، وهو أن من الصعب في النطاق الوطني الذي يخضع للتنوع في اتجاهاته، أن تفصل جانباً من المشكلة عن جانب آخر، أو تفرّق بين مصلحة المسلمين وغير المسلمين، لأن طبيعة التعقيد السياسي والتداخل الاجتماعي، تجعل الجوانب متداخلة، والمصالح متشابكة، وبذلك، يصبح البعد الوطني بعداً إسلامياً في المسألة السياسية، أو في المسألة الاجتماعية أو غيرهما… فما هو الموقف بين هذين الاتجاهين؟”
“قد نحتاج في الجواب إلى دراسة المسألة أولاً من ناحية النظرة إلى الوطن في المصطلح السياسي في نظرة الإسلاميين إليه، فقد نلاحظ أن الوطن قد تجاوز معناه اللغوي الضيق في الأرض التي يستوطنها الإنسان، ويتخذها مقراً دائماً بالمعنى الواقعي، الذي يشمل مساحة معينة من الأرض، خاضعة لعنوان البلدة التي تضم بيته وبيوت الناس الآخرين، وهذا هو المعنى الذي يخضع لبعض الأحكام الفقهية في الصلاة والصيام، فقد تحوّل إلى معنى سياسي، يتسع لما تتسع إليه كلمة الدولة، التي تضم عدة بلدان ومساحات جغرافية واسعة أو ضيقة، مما تعارف عليه الناس في تقسيم الأرض إلى دول، من خلال اختلاف الحكم أو النظام أو القومية أو العرق أو نحو ذلك، الأمر الذي يفرض حدوداً للأرض وللعلاقات العامة.
وقد تطور الجانب السياسي في معنى الوطن، في نطاق الدولة، ليتحرك في تأثيره إلى الجانب الشعوري الذي يربي العاطفة الإنسانية لدى المواطنين، ليكون الحسّ الوطني حالة شعورية وجدانية، تملك كل أحاسيسه، وتحدّد له طبيعة علاقاته وأوضاعه، بحيث تذوب ذاته وخصوصياته فيها، فيكون مستعداً لبذل دمه، والتضحية بذاته في سبيل وطنه.
وقد تتحرك التربية لتجعل من الوطنية حالة وثنية، يعبد من خلالها الإنسان الأرض ويخلص لها، تماماً كما يتعبد لله ويخلص له، بعيداً عن كل القضايا المبدئية، بل قد تتطور هذه الحالة لتفرض ضرورة انسجام المبدأ مع مصلحة الوطن، فإذا تعارضت حركة المصلحة الوطنية مع المصلحة الرسالية، فإنَّ الوطن يتقدم على الرسالة، بدلاً من أن تتقدم الرسالة على الوطن، أو يُصار إلى إيجاد حالة من التوازن الواقعي العملي بينهما.”
“وفي ضوء ذلك، يتحول الوطن إلى عنوان للفرد أو للمجتمع، بحيث يتمايز الناس بأوطانهم، بدلاً من أن يتمايزوا بالعناصر الفكرية أو الأخلاقية أو غيرها… أما العناصر التي على أساسها يطلق على أرض معين يقطنها شعب معيّن، اسم الوطن فهي:
العنصر القومي: فقد يكون هذا العنصر مدخلية في بلورة وطن وكيان سياسي، فيحدّد لهما أرضاً حسب الحدود التي يأخذها حجمه البشري أو الاقتصادي أو السياسي.
وقد يكون العنصر السياسي فيما تتفق عليه بعض القوى أو الدول الكبرى في تقسيم الأرض إلى دول متعددة، من خلال مصالحها الاستراتيجية أو الاقتصادية المتنوعة، التي تفرض وجود مناطق نفوذ متفق بينهم، وقد تكون الطبيعية الجغرافية هي التي تحدد ذلك، تبعاً للحواجز الطبيعية الموجودة على الأرض.
وقد يكون وحدة المعتقد لدى الشعوب، الذي ينبثق عنه نظام سياسي وآخر اجتماعي، تتحدد من خلالهما المواقف والمواقع، في إطار المنهج الواحد، كالعقيدة الإسلامية التي تعتبر العنوان الذي يوحّد المسلمين في وطن واحد، في إطار الخصائص الواقعية التي ترفضها أوضاع البلاد، وتستوعب غير المسلمين، ضمن خطوط عامة وقواعد ثابتة، تكفل لهم الحصول على الحرية والعدالة في نطاق المصلحة العامة، وقد تكون هناك عناصر أخرى غير هذه الأمور.
هذا كله في الإطار النظري، لكن الواقع قد يحصر هذه العناصر في بعضها، تبعاً لمعادلات القوى والدول التي تبقى لها الكلمة الأخيرة، لأنها هي التي تكسبها شرعية القيام والاستمرار، وكذلك الرأي العام، الذي يبقى له بالدرجة الأولى الخيار في تحديد شكل الكيان السياسي الذي يختاره.”
“ولكن الإسلاميين لا يجدون أساساً فكرياً في الالتزام بهذه الحدود الوطنية، التي تغلق على المسلمين الباب فيما وراء الحدود، فإن النظرة الإسلامية تجد في الأرض متسعاً للإنسان في الإقامة والتحرك في أي مكان فيها، من دون أن يختص بحدود معينة، ويمكن استيحاء هذا المعنى من مدلولات الآيات التالية:
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]، وقوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}. وقد استوحى ذلك الإمام علي(ع) في بعض كلماته المأثورة المروية عنه في نهج البلاغة: “ليس بلد أولى بك من بلد، خير البلاد ما حملك”.
“ولكن ذلك لا يمنع وجود مصلحة إسلامية عليا، في التخطيط لوطن محدود بحدود معينة، بصورة مؤقتة، من خلال الظروف التي قد تقتضي التركيز على مساحة معينة، من دون فرق بين أن يكون المسلمون ـ وحدهم ـ هم المتواجدين فيها، أو تكون خليطاً من المسلمين وغيرهم، بحيث تكون الشرعية منطلقة من طبيعة الظروف، لا من طبيعة الأرض، فيلتقي المسلمون على الالتزام به والدفاع عنه، والتحرك في خطوطه السياسية ورعاية أوضاعه الاقتصادية، أو نحو ذلك في العلاقات التي تشدّهم إلى الأوطان الأخرى، من خلال حركة المصلحة في واقع الإنسان المسلم، الذي قد يكون مرتبطاً بواقع إنسان آخر، فيعمل على التكامل والتعاون معه في هذه الحدود الخاصة.
وفي ضوء ذلك، فإن الوطنية مهما بلغت من القيمة المرحلية، فإنها لا تتحول إلى حالة ذاتية في الناحية الفكرية والشعورية، بل تبقى حالة طارئة خاضعة للظروف من حيث العمق والامتداد.“
“ولم يكن الإسلاميون بدعاً من الناس في هذا الفهم الواقعي المحدود للمسألة الوطنية، فهناك القوميون الذين يفهمون الوطن الذي يعيشون فيه في الحدود الإقليمية، جزءاً من الوطن القومي الكبير الذي يمتد في كل موقع من مواقع الأمة، ما يجعل تعاملهم مع الوطن خاضعاً للحركة السياسية في الوصول إلى الساحة الواسعة.
وهناك الماركسيون الذين يتجاوزون الوطنية والقومية في عمق تفكيرهم السياسي، المرتكز على قاعدة الخط الأممي في حركة الطبقة العاملة، ما يجعل الحدود الوطنية متحركة في البعد الأممي الكبير.
وإذا كانت المسألة تتحرك في دائرة الظرف، فقد نستطيع أن نقرر عدم وجود حالة ثابتة في حركة المفهوم في الواقع، بل هي حالة متحركة في نطاق الخط الإسلامي الاستراتيجي، في علاقة الداخل بالخارج، وفي امتداد الحدود إلى أبعد من الوضع الذي يحيط بها من الناحية السياسية العامة.”
“وقد نستطيع الآن أن نحرّك الموضوع على الصعيد الواقعي، لنلتقي بكل القضايا التي يمكن أن تثار سياسياً في المسألة الوطنية، على أساس قضية الحرية بكل فروعها الداخلية والخارجية، فعندما تكون المسألة مثلاً، مسألة احتلال معاد، أو مسألة هيمنة ظالمة، فقد يفرض علينا الواقع أن نتحرك وطنياً بالمعنى الواقعي، لكن في إطار الخط الإسلامي، خدمة لمصالح المسلمين والمستضعفين من غير المسلمين، وقد يملي علينا هذا التحرك، الدخول في جبهة وطنية مع القوى السياسية الأخرى، التي لا تلتقي معنا فكرياً، ولكن بشروطنا الإسلامية الفكرية والسياسية، التي لا تتعارض مع الآخرين، فنشترك في تحرير هذا البلد، كمرحلة من تحرير المنطقة، أو في هدم النظام الجائر الذي يضغط على حياة الناس.”
“وإذا كان البعض يجد في الخصوصية الإسلامية حاجزاً يقف بين المسلمين وغيرهم في المجتمع المتنوّع، ما يشكل فرصة للتناحر والتناقل والاختلاف، الذي يفسح في المجال لكثير من الاختراقات المعادية، أو يؤدي إلى الفوضى والارتباك، فإننا لا نرى المسألة كذلك، لأن هناك أكثر من قاعدة للتوافق والتعاون أو الوحدة في الموقف خلال القضايا المشتركة، التي تفرضها طبيعة الوضع السياسي، الذي تعيشه العلاقات الدولية أو المحلية المتحركة في صعيد الوطن كله، كما أن المشكلة قد تعيش في جذورها في كل مواقع الخلاف الفكري أو السياسي المتنوع، ما يجعل القضية في موضع الخطورة أو القلق، بعيداً عن طبيعة الخصوصية الإسلامية وغيرها، ولكن الحل يكمن في طريقة إدارة الخلافات، وتحريك المعارضة، وإيجاد الوسائل الكفيلة بتحويل الخلافات إلى مواقع للحوار والصراع الفكري والسياسي بطريقة حضارية، بعيداً عن كل أساليب العنف والتهويل.
وربما كانت الأجواء الدينية التي تتحرك في داخلها الصراعات السياسية، مثيرة للحساسيات الملتهبة والمشاعر المتوترة، ولكن هذه المشكلة ليست من المشاكل البالغة التعقيد، إذا استطعنا التعامل معها بطريقة موضوعية على الصعيد الفكري أو السياسي، بحيث تبتعد المسألة عن موقع الإحساس إلى منطقة العقل، وتحريك الخلافات الدينية في الدوائر الفكرية، بدلاً من تحريكها في الدوائر الطائفية، وإذا كانت هناك بعض الصعوبات التي تعترض ذلك في ساحة التطبيق، من جهة طبيعة الذهنيات الضيقة في مجالات الخلاف، التي تخضع لها ذهنيات المتدينين بهذا الدين أو ذاك، فإنها ليست بالمستوى التي تصل فيه إلى المستحيل، الذي لا يمكن معالجته، بل قد نجد في الساحات السياسية الأخرى بعض ملامح هذه المشاكل.”
“إن الوطنية بالمعنى الضيق المنغلق الذي تتحول فيه إلى خط فكري ينظر بأسلوب اللامبالاة أو الرفض نحو التيارات الأخرى، لا يلتقي بالمعنى المنفتح الذي تتحرك فيه الخطوط الفكرية في البعد القومي أو الإنساني أو الديني، ولا سيما الإسلامي، لأن طبيعة هذه الساحات الواسعة، تلغي الحدود الموضوعة هنا أو هناك… ولكنها لا تتنكّر للخصوصيات الوطنية بالمستوى الذي يثير الاهتمام بالقضايا العامة، المطروحة في هذه الدائرة، ويعمل على الدفاع عن كل المواقع التي يفرضها الواقع، ويتكامل مع القوى الأخرى المتحركة فيها في كل الأصعدة السياسية والأمنية.
إن الاحتضان الإسلامي للمسألة الوطنية، ينطلق في نطاق الواقع، لا في نطاق المفهوم، ويتحرك من المواقع الإسلامية التي هي الأساس من الجانب النظري في اللقاء بالمواقع الأخرى أو الافتراق عنها، لأنه لا معنى لأن تتحرك كإسلامي بعيداً عن المفاهيم الإسلامية العامة.”
“لا بد للإسلاميين من التحرك بالكثير من الوعي والمرونة والانفتاح على كل الساحة، لدراسة كل مواقع اللقاء والخلاف، مقارنةً بدراسة المفهوم الإسلامي للقضايا العامة في داخل الساحة الإسلامية وخارجها، لأن الأفق الضيق والعزلة عن الواقع، لا يستطيعان أن يحققا أي ربح للحركة الإسلامية في أي مجال، بل يسهّلان للآخرين عزلها عن مواقع التأثير ومصادر القرار. وإذا كان البعض يرى أن من الضروري المحافظة على نقاء الذهنية الفكرية للإنسان المسلم، حتى لا تختلط عنده المفاهيم لتدخل عليها مفاهيم الانحراف، فإننا نؤكد ذلك، ولكننا نؤكد إلى جانب ذلك، أن هناك أكثر من أسلوب للحفاظ على الأصالة، مع التحرك في خط المرونة، للإيحاء بالواقعية الحركية للإسلام، وبالانفتاح على المواقع الأخرى غير الإسلامية للحصول على كثير من إيجابياتها السياسية، لمصلحة الواقع الإسلامي، وللتحرك نحو النفاذ إلى عمقها، الذي سوف يجد في الإسلام الكثير من الأمور التي يعمل الأعداء على تشويه الصورة من خلالها، مما لا أساس له في حركة الواقع.
هذه هي بعض الملامح العامة للحديث عن الوطنية في النظرة الإسلامية، وربما تمس الحاجة إلى الدخول في بعض التفاصيل الأخرى التي قد نحتاج إليها في توسيع الفكرة، من خلال ملاحظات المفكرين الإسلاميين، التي نرجو أن نجد فيها بعض الأفكار الناقدة التي تعيننا على تأصيل المفهوم الإسلامي في دائرة المفاهيم العامة.”
وفي موقع اعلامي اخر خلال مقابلة مع جريدة الوسط يذكر السيد فضل الله: “إننا نرى أن مسألة المواطنة هي الأساس في علاقة الإنسان بنظام الحكم وبالدولة، بصرف النظر عن الخصوصيات الأخرى الدينية أو العرقية أو السياسية وما إلى ذلك. فالإنسان يتساوى مع مواطنه الآخر في المواطنية وما يترتب عليها من حقوق وواجبات. ومن هنا، فإن النظام الطائفي ينسف معنى المواطنية ويقتلها في الصميم ليحول الوطن إلى ولايات طائفية غير متجانسة وأفراد تتحكم بهم العصبيات الطائفية بدلا من أن تجمعهم الروح الوطنية وسقف المواطنية.
لقد فشلت فكرة المواطنة عندنا مع كل هذا الإدمان لها في أديباتنا السياسية، لأننا تعاملنا مع ذهنية الشقاق التي نتحرك فيها مذهبيا وطائفيا كمقدس من المقدسات، ولم نكلف أنفسنا عناء البحث عن مواقع اللقاء تحت السقف الوطني العام. ولذلك لجأت كل جماعة إلى مواقعها الطائفية لتبحث عن سبل للحماية الذاتية بعيدا عن السقف الوطني العام الذي يمثل ضمانة كبرى للجميع لو أحسنا التعامل معه، ولو أن البحث انطلق جديا في إخراج البلد من الطائفية السياسية التي عملت مواقع دولية وإقليمية لتكريسها في النصوص وزرعت حراسا لها في مفاصل البلد لتمنع من قيام الوحدة التي تعني الانصهار الحقيقي بعيدا عن كلمات النفاق السياسي التي تسالم الكثيرون على أنها الخبز السياسي الذي لابد للبنانيين أن يتعودوا على التهامه ليكون سما في الدسم الوطني العام.
“لقد أمضينا عقودا ونحن نمارس لعن الغرب المستكبر أو هذه الدولة وتلك، على أساس أنها المسئولة عن تقسيمنا إلى دول وأقطار، والحال أننا اليوم نترحم على القطريات بعدما فقدنا معنى الانتماء للبلد الواحد، من خلال العفن السياسي والطائفي الذي أفقدنا معنى الإحساس بأننا مواطنون في بلد واحد، وأنه لابد لنا من أن نتساوى أمام القانون حتى يكون هو المظلة، لا أن يكون الانتماء العشائري هو الذي يؤمن عنصر الحماية مع ما تحمله هذه الحماية من عناوين قد تؤسس لفساد أكبر ونهب أوسع... ولذلك، فإنني أزعم أننا نحتاج إلى ثورة حقيقية على المستوى الثقافي وعلى مستوى تغيير الذهنية السياسية ليكون الناس على بينة حيال الصورة الحقيقية للدولة الحديثة التي يعيش فيها المواطن وفق مبدأ العطاء والأخذ فيما هي الحقوق والواجبات، لأن المواطنة تعني قبل كل شيء الانتصار على العقلية العشائرية التي لم تعد متوافرة على المستوى الطائفي، بل على مستوى الأحزاب والحركات التي تلزم المنتمين إليها بالاصطفاف حولها وفق المعطيات العشائرية التي ينتفي فيها الحس النقدي لتتم المصادرة للجميع وبالمجان.
إن علينا أن نسأل أنفسنا: هل نريد أن نؤسس لدولة الإنسان لنصل إلى دولة المؤسسات من خلال الفهم الحقيقي لمعنى المواطنة في كونها التزاما حيال البلد كله، وفي نبذ التقييم العشوائي للآخرين المنطلق من العقلية التي تحسبهم على هذه الجهة المذهبية أو تلك الجهة السياسية بعيدا عن دراسة طاقاتهم وإمكانات إبداعهم لحساب الوطن والمواطنين؟ إن البناء الحقيقي للبلد المثخن بالمآسي والجروح والديون، والذي يحمل أعباء المنطقة مع أعبائه الداخلية، يبدأ من هنا، ومن خلال توافر النية الصادقة للعمل على قيام دولة القانون، دولة القيم والأخوة والتسامح والتعاون على أنقاض دولة السرقة والنهب. ولن يكون ذلك إلا من خلال نماذج قيادية صافية وواعية لم تترب على سلوك الطرق الملتوية في العمل السياسي أو في حركتها الإدارية. ولذلك فإننا نعتقد أن لبنان هو أحوج ما يكون في هذه المراحل لقيادات شابة تعيش طهر القلق في البحث عن سبل بناء المستقبل ولا تعيش عقلية كيدية وعدوانية حيال الآخر، أيا كان هذا الآخر.
إننا في أمس الحاجة للارتفاع من حضيض الاختلافات المذهبية غير المبنية على أسس فكرية وثقافية إلى فضاء الحوار الوطني الجامع، والقبول بالتنوع السياسي والاجتماعي الذي يقود إلى التفاهم من خلال الحوار البناء الذي يعترف منذ البداية بخصوصية الآخر ليمهد للتفاهم العام بشأن كيفية بناء الوطن ودولة الإنسان والمجتمع الكبير وفق أسس الحماية الإدارية والسياسية والاقتصادية والثقافي“
ان هذه المطولات المهمة من كلام المرحوم محمد حسين فضل الله تعطينا القاعدة الفكرية لأسقاطها على الواقع العربي من حيث ما حدث ويحصل من أمور اثناء العمل الحزبي والتنظيمي لمن هم إسلاميين وغيرهم في واقعنا العربي، فأين موقع كلام السيد محمد حسين فضل الله والثقافة القرأنية الحركية التي قدمها في تجربته بما حدث وبما جرى في واقعنا العربي؟ وأيضا في موطن السيد محمد حسين فضل الله نفسه داخل الجمهورية اللبنانية؟ بكل ما تحمله هذه الدولة العربية من تشابك وتعقيدات وتفاصيل كثيرة وأيضا عجائب وغرائب واحداث.
اذن الحديث عن المرونة في النظرة للحالة الوطنية ضمن النطاق الإسلامي وهو امر تحدده الظروف المرحلية التي يعيشها الإسلامي وأيضا مواقع القوة التي تعيشها الحالة الإسلامية ضمن الموقع الوطني، اذن المسألة متحركة تقررها ظروف الواقع، فما هو مسموح في مرحلة قد يكون مرفوضا في مكان اخر، والأهم والمهم هو عدم الخروج عن المبادئ القرأنية العامة التي تحكم حركة الإسلاميين في الواقع، هذا ما فهمته من هذه النصوص، والتي تستمر في الشرح والتحليل وإعطاء ابعاد أخرى لها موسعة.
نحن هنا سنقدم نماذج من هذا الواقع حيث نجد ان تاريخيا عندما نقرأ تجارب الماركسيين والقوميين العرب من ناصريين وبعثيين وكذلك الإسلاميين فيما يختص بين ما هو انتماء وطني وانتماء فكري عابر للحدود نجد ان المسألة متنوعة بين ما هو سلبي وإيجابي وأيضا تختلف القناعات والمواقف، فمن اهم الوطن او الفكر الاممي او التنظيم الحزبي العابر لحدود الوطن؟! هل الدولة الفكرية قوميا كانت او ماركسية او إسلامية هي الحاكمة وصاحبة القرار على اتباع دولة أخرى ليست ملتزمة ثقافيا او مؤدلجة؟
ان التاريخ يقول لنا: ان الالتزام الفكري والتنظيمي لما وراء الحدود الوطنية وخارجها أدى الى الضرر والاذية ؟! ولكن أيضا هناك نماذج تاريخية تقول عكس ذلك؟ ماذا لدينا من تفاصيل تشرح ذلك؟
هنا أجد من المناسب ذكر “حركة الواقع التاريخية” في أكثر من موقع، على سبيل المثال: نجد ان مصلحة الاتحاد السوفيتي تطلبت منه التضحية في الحزب الشيوعي العراقي على مقاصل الإعدام لحزب البعث الجناح اليميني الحاكم في العراق، وهنا الغت الدولة النموذج في الماركسية انتمائها الايديولوجي لصالح منافعها ومصالحها وتركت اتباعها للموت والسحل والتعذيب.
وفي مثال اخر نجد ان “كيم فيلبي” رفض اعتباره جاسوسا ضد بلده بريطانيا عندما قيل له كسؤال لتبرير ارتباطه مع أجهزة الاستخبارات التابعة للاتحاد السوفيتي، قال انه لا يعتبر نفسه جاسوسا او خائنا لبريطانيا، لأنه ماركسي العقيدة والانتماء والاتحاد السوفيتي هو وطنه لأنه يعبر عن انتمائه الفكري الماركسي والاتحاد السوفيتي هو ذلك الانتماء وذلك الفكر اذن هو الوطن بالنسبة لكيم فيلبي !؟ فهو كان يخدم وطنه الماركسي وبريطانيا بالنسبة له تمثل النقيض لفكره كأحد مواقع الرأسمالية العالمية اذن هي ليست وطنه؟!.
ويكرر المرحوم الأستاذ “عاد تكليف الفرعون” وهو أحد أعضاء الحركة الناصرية في العراق تفس المسألة ووجهة نظر “كيم فيلبي” اثناء لقائه مع د. حميد عبد الله في مقابلة تلفزيونية عندما يقول انه لم يجد غضاضة او ندم او أي خطأ عندما نقل اسرار دولة العراق الى “الجمهورية العربية المتحدة” لأنه يعتبر نفسه ك “قومي عربي” انه هذه الجمهورية هي دولته وليس العراق !؟ حيث يقول ان تعليماته كان يأخذها من سفارة الجمهورية العربية المتحدة وكان يقدم التقارير للسفير المرحوم الأستاذ امين الهويدي عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والعسكري، حيث لم يكن الأستاذ “عاد تكليف الفرعون” يعتبر نفسه “عراقيا” بل “عربي” والعراق جزء من الوطن العربي، وهو يرتبط مع العراق كما يرتبط مع نجد او مصر او اليمن، وهو يعتبر “الوطنية العراقية” خيانة !؟ وان وطنه الحقيقي هو كامل الأرض العربية من المحيط للخليج.
وفي مثال تاريخي اخر نجد ان اتفاق القاهرة الشهير الموقع في الستينات كان يتحرك ضد مصلحة الدولة اللبنانية وان هي وقعت ووافقت عليه ؟! فأن موافقتها جائت لحل مشكلة عربية تتعلق بنقل المقاتلين الفلسطينيين من الأردن لمكان اخر، فهذا الاتفاق حل مشكل الوطن الأردني على حساب الوطن اللبناني وأيضا بطلب من قيادة الجمهورية العربية المتحدة المرحوم جمال عبد الناصر، اذن هنا تم صناعة ضرر واذى للحالة الوطنية اللبنانية.
اذن هل الوطن اهم من القومية العربية او العكس؟ هل الالتزام الفكري بمنظومات فكرية اممية عابرة للقارات نفس الماركسية او الإسلام تسمح لنا في الغاء الوطن ومصالحه ودولته لحساب دولة أخرى لديها رافعة ثقافية نحن نؤمن بها؟ او نؤيدها؟
إذا أردنا ان نغوص أكثر في التاريخ نقول انه عندما حكم “الاتراك الصفويون” منطقة فارس وما حولها، فلأنهم فاقدين للرافعة الفكرية الدينية التي تبرر لهم الحكم والسيطرة وعدم السقوط في ظل الخلافة الرسمية الإسلامية المعقودة آنذاك في ظل حكم “الاتراك العثمانيين”.
فأن “الصفويون الاتراك” لمنع اسقاطهم ضمن “الحكم التركي العثماني” غيروا مذهبهم الديني الوراثي و استعانوا برافعة مذهبية إسلامية اخرى تضمن لهم ربط كل القوميات الفارسية و الآذرية و العربية و الطاجيكية و البشتونية و البلوشية الواقعة تحت حكمهم “القومي التركي” تحت رابطة المذهب الإسلامي الاثنى عشري الجعفري ومنها تحقق لهم الرافعة الدينية لحكمهم “القومي التركي” و أيضا حموا سلطانهم العائلي من السقوط تحت مظلة حكم عائلة تركية اخري , هي أيضا استخدمت لتعزيز سلطانها القومي العائلي الرافعة الدينية للمذهب الإسلامي الشافعي الذي يسمح لمن هم “غير عرب” بأن يكونوا ضمن موقع الخلافة الإسلامية الرسمية و الذي أيضا يضمن لهم السيطرة على القوميات الأخرى من عرب وارمن واكراد و يونانيين وبلغار والبان وشركس داخل حكمهم “القومي التركي العثماني”.
من ذلك نستطيع ان نستنتج لماذا تصر الدولة الإيرانية الحالية ضمن “الجمهورية الإسلامية” والسابقة “الملكية الشاهنشاهية” وما قبل السابقة “القاجارية و الصفوية” على السيطرة على موقع الفتوى الأول للمذهب الإسلامي الجعفري ضمن تحكمها و اوامرها “مركزيا ضمن جغرافيتها” و أيضا التحكم به نجفيا بما يتعلق بالقرار , لذلك لا يتم السماح في بروز أي مرجعية فقهية على الأطراف جغرافيا في البحرين او شرق الجزيرة العربية او في المنطقة العربية اللبنانية , و من هنا نفهم و نستوعب احد أسباب الحملة التسقيطية الشعواء التي تحرك بها الإيرانيون حماية لمصالحهم القومية بعيدا عن أي اخلاقيات إسلامية وللمسألة ابعاد و قصص أخرى ذكرتها في كتابي المنشور تحت عنوان “عشرية الثورات و التحولات” , و أيضا في كتابي “ما وراء الستار” لمن يريد تفاصيل اكثر و أوسع , اذن كان الفكر الديني هنا او الانتماء المذهبي “عذر” للسيطرة القومية العائلية على قوميات أخرى و تبرير “سلطاني” للسيطرة و التحكم , بما يمثل حالة سلبية.
ولكن نفس التاريخ المعاصر يقدم لنا نماذج إيجابية على العكس تماما حيث نجد بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية على ارض ايران ان الأفكار الاسلامية العابرة للحدود الوطنية الجغرافية قد خدمت الحالة الوطنية الفلسطينية “إيجابيا” و أيضا كذلك الحالة الوطنية اللبنانية وهي قضايا عربية وليست “قضايا إيرانية” من خلال دعم قضية تحرير فلسطين و طرد النفوذ الصهيوني و شبكات استخباراته و ارتباطاتهم الأمنية و الاقتصادية و الدبلوماسية التي تم تأسيسها و انشائها مع نظام الشاهنشاه داخل ايران , و ايضا دعمت الجهاد العسكري و الأمني و الاستخباراتي الفلسطيني و اكبر شاهد على ذلك “قوة حركة حماس” ماليا حيث اصبح لهم استثمارات دولية و ملائة اقتصادية و تمويل ذاتي اغرقهم في بحار من المال بعد ان كانوا “شحاذين” في أوروبا , و أسست “الجمهورية الإسلامية لحركة حماس لهم المواقع الإعلامية الفضائية المكلفة في التمويل في العاصمة البريطانية لندن , و دربتهم عسكريا لمستويات متقدمة تصنيعية في ظل اقصى أنواع الحصار في بقعة ضيقة صعبة الدخول و الخروج و هي “قطاع غزة” فأصبح ل “حركة حماس” منظومة صواريخها و شبكة انفاقها تحت الأرضية و خطوطها الأمنية و الاستخباراتية حول العالم والامر كذلك حصل مع “حركة الجهاد الإسلامي” التنظيم الجهادي الفلسطيني الاخر , و هذه أمور إيجابية في خدمة القضية الفلسطينية و لكن هي تضر مصالح قومية إيرانية “سلبيا” ولكن الفكر الديني الإسلامي العابر للحدود هو الحاكم هنا وهو المحرك و الدافع.
وأيضا قامت “الجمهورية الإسلامية” في انشاء ودعم منظومة أخرى حزبية امنية وعسكرية وثقافية لبنانية وربطتها بها من حيث الانتماء الفكري من باب الالتزام في نظرية ولاية الفقيه التي هي نظرية الحكم الإسلامي التي تم تثبيتها ديمقراطيا في دستور نظام الجمهورية الإسلامية، والتي هي نظريا موجودة على الموقع الجغرافي لما اسسه البريطانيون وظيفيا تحت اسم “إيران” وهي ضمن المناطق المتعارف عليها تاريخيا ضمن مسميات أخرى مثل الإمبراطورية القاجارية وقبلها الإمبراطورية الصفوية …. الخ.
هنا نظرية “ولابة الفقيه” عابرة للجغرافيا الوطنية الإيرانية على مستوى الفكرة ولكن واقعها المادي هو ارض إيران ولكنها معرفيا تشمل كل العالم، وهذه النظرية في خط حركتها عارضت المصالح القومية الإيرانية كما ذكرنا سابقا.
اذن هذه النظرية اضرت الأرض الإيرانية القومية سلبيا بخروجها من واقعها الجغرافي لكي تهتم في قضايا عربية وليست “أيرانية” مثل احتلال فلسطين وأيضا مشاكل لبنان مع الاحتلال العسكري الصهيوني ومن هذا كله استفاد اللبنانيون “إيجابيا” في “صناعة “تحرير جزء كبير من مناطق جنوبهم المحتل، وترتب عليه انشاء منظومة عسكرية وامنية واستخباراتية وتنظيمية أنجزت لهم هزيمة عسكرية ضد الكيان الصهيوني في أكثر من موقع ومناسبة.
ولكن على النقيض تماما نجد ان المصلحة القومية الإيرانية في زمان لاحق اضرت “سلبيا” لبنان الدولة والمجتمع عندما تم تحريك نفس منظمتها الأمنية العسكرية التابعة لها لضرب مصالح دول عربية امنيا، وهذا غير استغلال لبنان ك “منصة ردح دعائي” ضد اشقائه العرب !؟ بناءا على الطلب الإيراني “القومي؟!” !؟ من المنظومة الحزبية التابعة لهم ومما اذى لبنان واللبنانيين؟! وخلق مشاكل مع اخوانه العرب بدون ان يستفيد ومن غير داعي او مصلحة.
اذن قد تكون المسألة إيجابية في خدمة الحالة الوطنية اللبنانية من جهة وأيضا قد تتحول المسألة سلبية تضرها من جهة أخرى لذلك أتصور ان علينا ان نتحرك كما فهمته من كلام المرحوم فضل الله في دراسة كل موقف على حدة ضمن ظروفه ومعطياته وأيضا خلفياته، لذلك القيادات الإسلامية الحركية على مستوى وطني عليها ان تكون ملتزمة وطنيا كما هي ملتزمة إسلاميا إذا صح التعبير، ولكن على مستوى الواقع كذلك هل من هم مرتبطة حياتهم ومعيشتهم وقوتهم ونفوذهم في دولة أخرى في التمويل والدعم والانشاء؟ هل لديهم “فخفخة” اتخاذ قرار وطني مستقل يتعارض مع مصالح الدولة الاخرى؟ هل لديهم “ترف” ان يقولوا “لا” إذا قرأوا ان القرار الذي يصل لهم يضر “الجغرافية الوطنية” و “الدولة” و “المجتمع الوطني”؟
لعله موضوع يحتاج للحديث والكلام على نطاق ندوة موسعة أكبر لحل إشكالية الوطن والمواطنة والالتزام مع أفكار عابرة للحدود، ولكن ضمن حدود الكلام عن ذكري رحيل السيد محمد حسين فضل الله، نقول ان الحوار يجب ان يستمر.
في الختام نقول: ان المرحوم فضل الله كان من أصحاب المشاريع الناجحة بكل سلبياتها وايجابياتها كأي حالة بشرية، لذلك إعادة التذكير بمناسبة وفاته تمثل فرصة لنقول لكل الشباب العربي: ان عليكم ان تعيشوا تجربتكم الذاتية لكي تخدموا اوطانكم، وان التزامكم الفكري الواعي العقلاني مع الاسلام المنطلق تحت مبدأ حاكمية القران الكريم، يمثل شخصية فردية اجتماعية لكم، تعطيكم التميز والخصوصية المطلوبة امام الاخرين من حولنا، لكيلا تكونوا “الفراغ” الذي يعيش الموت بل الرسالة التي تصنع الحياة.
رحم الله السيد محمد حسين فضل الله واسكنه فسيح جناته وعلى الدرب سائرون وموعدنا جميعا في يوم القيامة.
د.عادل رضا
طبيب استشاري باطنية وغدد صماء وسكري
كاتب في الشئوون العربية والاسلامية