على الرغم من ردود الفعل الأمريكية والأوروبية الخجولة، وردود الفعل العربية المتواضعة، تجاه ما قامت به مؤخّراً دولة الاحتلال في الضفّة الغربية، فإنّ الجهود السياسية والدبلوماسية الأردنية المكثّفة ما تزال تقف، نسبيّاً، شبه وحيدة في ميدان المقارعة مع حكومة نتنياهو.
تلك الحكومة التي تتسارع وتيرة إجراءاتها في ضمّ الضفة الغربية، بأساليب أكثر خبثاً ودهاءً ومراوغة وتضليلاً. بل ولعلّ تقويض هذه الجهود الأردنية كان أحد أهداف تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين الأخيرة، حول علاقة الأردن بالضفة الغربية، وحول خريطة إسرائيل التي تضم الأردن، بُغية تشتيت الاهتمام الأردني عن الجهود التي يقوم بها ضد ما تقوم به حالياً حكومة المستوطنين في الضفة الغربية.
أمَا وقد أصبحت الأمور واضحة وضوحاً تاماً، فإنّ الوعي والموقف السياسي العربي الرسمي، عموماً، لم يتمكّن من الوصول، حتى الآن، إلى النتيجة التي تفيد باستحالة التوافق بين المشروع الصهيوني وبين العرب على مختلف مشاريعهم الوطنية أو القومية.
وأشعر أنّ من واجبي تبيان هذا الأمر، وتكشيف ما وصلت إليه تطورات الأحوال الفلسطينية. وبصراحة، أقول: إن كثير من العرب غير مقدرين لخطر استكمال المخطط الإسرائيلي كما لا يحظى باهتمام كافٍ كما ينبغي. وقد نجد أنفسنا، جميعاً، في وضع استكمل فيه الاحتلال القسم الأكبر من إجراءاته في عملية الضمّ، وذلك باستكمال الخطوة التالية في ضمّ كامل أراضي المناطق المصنفة (ج) إلى دولة الاحتلال، التي ستترافق مع مقدمة لتكرار ما شهده الشعب الفلسطيني المنكوب من تهجير قسري في العام 1948، لتليه عمليات تطهير وتهجير أخرى تشمل المعازل السكانية الكبرى التي صنعها الاحتلال خلال السنوات القليلة الماضية.
ذلك أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تتجه، ومنذ عقود، نحو ضمّ الضفة الغربية ببطء، وبأساليب ووسائل غامضة نسبياً ومخادعة أحياناً اخرى . حيث أقامت أنظمة قانونية منفصلة، وغير متكافئة، ووضعت الفلسطينيين وجميع الأراضي المحتلة، تحت الحكم العسكري، في محاولة لتصوير السيطرة الإسرائيلية على أنها إدارة مؤقتة فقط. وطبقت القوانين المدنية بالتدريج على سكّان المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية، بُغية جذب المزيد من المستوطنين. «فإسرائيل صنعت صورة لنظام احتلال مؤقت منفصل عن الدولة كخديعة سياسية»، وبقي الخط الفاصل بين السيطرة المدنية والعسكرية في الضفة الغربية غائم وغير محدد منذ العام 1967.
فخلال عام واحد من حرب العام 1967، بدأ الإسرائيليون في إنشاء المستعمرات في الضفّة. وبعد شهر من الاحتلال، سنّ الكنيست أول قانون يطبّق القانون الجنائي الإسرائيلي على مستوطنيها في الضفة الغربية، بمعنى إخضاع المنطقة التي يسكنها المستوطنون إلى الولاية القضائية للقانون المدني الإسرائيلي العادي، بينما أخضِعت المنطقة التي يسكنها الفلسطينيون للقانون العسكري الإسرائيلي.
وبين العامين 1967 و1981، كانت الشؤون المدنية والعسكرية للأراضي المحتلة تدار من قبل الجيش الإسرائيلي. وفي العام 1981، قامت حكومة إسرائيل بإنشاء ما كان يُعرف بـ(الإدارة المدنية) للضفة الغربية وقطاع غزة، وتحت قيادة الجيش الإسرائيلي. أما عملياً، فقد تحكّمت الوزارات الحكومية الإسرائيلية بحياة الفلسطينيين، اقتصاديا وصحيّا وبنيةً تحتيةً، بينما بقيت كامل السلطات في يد الجيش. حيث تمكنّت السلطات المدنية والعسكرية الإسرائيلية، في تلك الفترة، وعلى نحو مشترك، من إدارة حياة الناس في الضفة الغربية، بما في ذلك إدارة الأراضي. بمعنى «أن حكومة إسرائيل تصرفت بصفتها مالكة لأجزاء واسعة من الأراضي في الضفة الغربية، واستخدمتها لأغراض عسكرية، أو زراعية، أو للمستوطنات». أي أن مستويات الحكم الثلاثة في إسرائيل، الجيش والكنيست والمحكمة العليا للقضاء، كانت منخرطة في تنفيذ الاحتلال. الجديد في جوهر تطورات هذا الاحتلال، هو أن حكومة المستوطنين الجديدة، بقيادة نتنياهو، قامت بتحويل إدارة الضفة الغربية من سلطة عسكرية مختلطة (الإدارة المدنية والجيش)، إلى (سلطة مدنية)، وهي خطوة خبيثة وخفيّة وكارثية في نتائجها، لأنها تُنهي «وَهمَ، وفكرةَ، الاحتلال المؤقت للضفة الغربية»، وتُنهي التزام دولة الاحتلال، بشكل علنيّ، بفكرة حل الدولتين العتيدة.
فأول خطوات حكومة المستوطنين، التي فازت في شهر تشرين ثاني/ نوفمبر 2022، هو قيامها بتعديل (القانون الأساس) للدولة، وهو بمثابة الدستور، بحيث يسمح للحكومة بتعيين وزير ثان خاص داخل وزارة الدفاع. وتبع ذلك بفترة قصيرة توافق تلك الحكومة على دور لـ(هذا الوزير الجديد)، وهو توليه سلطات مدنية معينة على الحياة في الضفة الغربية، والتي كانت من اختصاص الجيش الإسرائيلي بشكل حصري. ويُعتبر «هذا التغيير الإداري، بمثابة إعلان صريح للسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، بما فيه من انتهاك لميثاق الأمم المتحدة المتعلق باحتلال الأراضي. وهو ما أكّدته ثلاث منظمات إسرائيلية مدنية وحقوقية، بأن هذا التغيير البيروقراطي يعتبر ضمّاً قانونياً للضفة الغربية»، ويحطّم الوهم بأن الاحتلال الإسرائيلي للضفة هو احتلال ويرسخ (نظام الأبارتهايد)، الذي يشمل منظومتي قانون غير متكافئتين للإسرائيليين والفلسطينيين، ويقوّي السيطرة الإسرائيلية الدائمة على الضفة الغربية، بحسب ما يؤكّده كاتبان إسرائيليان هما (داليا شيندلين) و(ياعيل باردا). ذلك «أنّ نقل إدارة الضفة الغربية إلى سلطة مدنية هو عمليّاً تتويج لعقود من السياسات التي كرّست سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، ولا حاجة لإسرائيل الآن إلى الإعلان رسمياً عن ضم الضفة الغربية. فالضمّ بدأ بالفعل».
الوزير اليهودي المدني سيقود (سلطة استيطانية) لإدارة شؤون اليهود، بينما سيبقى الفلسطينيون تحت السيطرة العسكرية. حيث سيواصل الجيش الإسرائيلي تحديد معدلات المياه المتاحة لاستخدام الفلسطينيين، بينما السلطة المدنية الجديدة ستسيطر على المياه التي يستخدمها المستوطنون اليهود، على نحو يسهّل توزيع المياه بشكل غير متكافئ بين المجموعتين. كما أن السلطة المدنية ستعزز الاستيطان وترخصه وتقوم بتطوير البنى التحتية لصالح المستوطنين اليهود، بكل ما في ذلك من انتهاك أساسي للقانون الدولي، الذي يحظر إقامة حكم مدني في الأراضي المحتلة.
ويبدو أنّ تلك الخطّة الخفيّة وغير المعلنة هي الهدف المقصود بالضبط، فبعد التنكر لقانون الدولة الأساس، ستتجاهل هذه السلطات الجديدة جميع القيود المرتبطة بالقانون الدولي. و«سيتحكم الوزير المدني في تخصيص الأراضي، والتخطيط، والطاقة، وترددات الاتصالات، وستكون لديه سلطة تقرير مَن يمكنه بناء المنازل والمدارس، والمباني العامة، وأية مبانٍ سيتم هدمها، أيّ أنها صيغة أخرى لتوسيع الاستيطان اليهودي، وقمع حياة الفلسطينيين»، وهو ما طبّقه الجيش الإسرائيلي سابقاً. والحقُّ أن هذه هي بالضبط (خطة الحسم)، التي أعلنها (الوزير بتسلئيل سموتريتش) في العام 2017. وهي خطّة، كانت تسمّى في أوساطهم بـ(خُطّة الربّ)، وتقوم على إخضاع الفلسطينيين بالكامل للسيطرة الإسرائيلية، ودفن حق تقرير المصير الوطني الفلسطيني إلى الأبد. حيث اقترح سموتريتش، آنذاك، دولة يهيمن عليها اليهود، وتشمل جميع الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن (أي فلسطين الانتدابية)، ودعا إلى (ترانسفير)، أو استخدام العنف لقمع أولئك الذين يقاومون المخطط، هذا فضلاً عن رفضه وجود ما يقرب من مليوني مواطن عربي داخل إسرائيل. وهو ما عبّر عنه صراحة في العام 2021، قائلاً: (إنّ رئيس حكومة إسرائيل الأول، ديفيد بن غوريون، أخطأ في أنه لم يُنهِ مهمة طرد جميع الفلسطينيين من الدولة الإسرائيلية الجديدة التي أُنشئت في العام 1948). بل إن شرطه الأساس للانضمام لحكومة نتنياهو كانت (بأن يكون وزيرا مدنيا يتحكم بالأرض المحتلة). وبتولّيه مهمّة الوزير المدني حاليّاً، فإنّه يستطيع القضاء على إمكانية العيش وكسب الرزق للفلسطينيين في المنطقة (ج)، وهي المنطقة التي تشكل ستين في المائة من الضفة الغربية، وتشمل جميع المستوطنات الإسرائيلية فيها. وهناك «ما يقرب من 200 إلى 300 ألف فلسطيني يعيشون في المنطقة (ج)، ويعيش معظمهم على الزراعة أو الرعي». حيث تتركّز، حالياً، جهود الجناح الأكثر تطرفاً في حكومة المستوطنين على المطالبة بالمنطقة (ج) بالكامل للمستوطنين اليهود.
ويحضرني هنا المرحلة السياسية العربية التي ترافقت مع توقيع السادات لمعاهدة كامب ديفيد الأولى، وما شهدته من ضغوط على الأردن للالتحاق بركب السادات في كامب ديفيد. وللحقيقة والتاريخ أقول: بأنّ الملك حسين لم يوافق على الاشتراك فيما توصل إليه السادات، من اتفاقات حول مصير الضفة الغربية وقطاع غزة، لم يكن بسبب ما توصلت إليه تلك الاتفاقيات، بل بسبب ما لم تستطع إنجازه. وهو نفسه حال اتفاقية أوسلو، التي لم تستطع تحصيل توافقات تتجاوز ما كان معروضاً في اتفاقيات كامب ديفيد بين دولة الاحتلال والسادات!
لقد تمكّنت إسرائيل من إقناع المجتمع الدولي بأنها تحكم الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال نظام عسكري فريد، وقابل للتفكيك، وذلك من خلال تسليطها الضوء على تاريخها في إزالة المستوطنات عند الحاجة؛ تفكيك مستوطنات سيناء في العام 1979، بعد توقيع اتفاق سلام مع مصر؛ وتفكيك مستوطنات غزّة في العام 2005، بعد أكثر من أربع سنوات من الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وبالتظهير الدعائي لتلك الإجراءات، تمكّنت من ترسيخ سيطرتها أكثر فأكثر على الضفة الغربية؛ فالسلام مع مصر أدى إلى تخفيف الضغوط على إسرائيل للتخلي عن الأراضي الفلسطينية، والانسحاب من مستوطنات من غزة أدى إلى انقسام القيادة الفلسطينية. كما سمحت عملية السلام نفسها لإسرائيل بتصوير احتلالها للضفة الغربية على أنه احتلال مؤقت.
بالغموض البنّاء، أدارت الحكومات الإسرائيلية الكثير من سياساتها في الأراضي المحتلة على مرّ العقود؛ وهو ما يجب التنبّه له عند محاولة الإجابة على سؤال: لماذا الآن تحديداً، نقلت الحكومة الإسرائيلية السيطرة على الضفة الغربية إلى سلطة مدنية؟
فمعركة نزع المصداقية عن القضاء، في المجتمع الإسرائيلي، هيَ بمثابة «إزالة العقبة الأخيرة أمام السيادة اليهودية الدائمة على الشعب الفلسطيني في جميع أنحاء الأرض المحتلّة. ما يمكّن حكومة المستوطنين من تحرير المستوطنين والمستوطنات من كافة العراقيل التي يسببها القضاء والمحكمة العليا، نسبيّاً، وكذلك من السيطرة المزعومة للجيش الإسرائيلي على الضفة الغربية».
وعلى الرغم من بعض النجاحات التي حققتها هذه الحكومة في تحقيق أهدافها، فإنّ أحداً لا يمكنه الهروب من فكرة أن إسرائيل قد أنشأت نظاماً دائماً للسيطرة في الضفة الغربية، وليس نظاماً مؤقتاً، وهو نظام يميّز، على نحوٍ عنصريّ وفَجّ، بين الإسرائيليين والفلسطينيين في كامل أرض فلسطين التاريخية، التي يقتربون الآن من المراحل الأخيرة لفرض سيطرتهم عليها، بالقوّة وبالتدليس والغموض والتضليل.. تماماً كما بدأوا مستعمراتهم الأولى في فلسطين منذ القرن التاسع عشر.
ولعلّه من الترف السياسي، ولا يشعر به كثيرون للأسف، التذكير هنا بأنّ استكمال الاحتلال لمؤامراته المشار إليها في هذه المقالة، بالضمّ والتهجير والتطهير العرقي، فسيتغيّر وجه الشرق الأوسط على نحو دراماتيكي، مرة جديدة، مستندين إلى فكرة الاستفراد والانفراد السياسي في العلاقة مع الأطراف العربية كلّ على حدة!