هناك موازين قوى جديدة تمثلها المنطقة العربية وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والهند والصين / رامي الشاعر
.
يصوروننا في الغرب وكأننا شعوب “تكره” السلام، وترغب في الموت كما يرغبون هم في الحياة. ولا أظن أن هناك ما هو أبعد من هذا التصور عن الحقيقة.
فنحن، العرب، أصحاب حضارة وثقافة ورسالة لطالما ولا زالت جسراً عبرت عليه حضارات المصريين القدماء والآشوريين والكلدانيين والإغريق والرومان والفرس وغيرها من الحضارات في غابر الأزمنة.
وكانت اللغة العربية، ذات يوم من الأيام، بمثابة الوعاء الذي صبت فيه كل هذه الحضارات والثقافات مخزونها البشري العام، والذي استندت إليه أوروبا في نهضتها القوية، التي ألهمت الإنسانية بمفاهيم الحرية والديمقراطية والمساواة والإخاء، والتي لا تقتصر على “أوروبا” أو “الغرب” أو “الولايات المتحدة” وحدهم، وإنما تعد منتجاً بشرياً عاماً نمتلكه جميعاً بالتساوي، تماماً كما لا يمتلك المصريون الأهرامات، أو الألمان بيتهوفن.
لهذا السبب أود التركيز على ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخراً، في حديثه لمذيعة “بلومبرغ”، من أننا على أعتاب “مرحلة مفصلية في التاريخ”، وألفت الاهتمام لقوله إن المنطقة تتمتع بـ “ممر اقتصادي للطاقة والنقل والاتصالات يمر بشكل طبيعي عبر جغرافيتنا، ويصل ما بين آسيا وشبه الجزيرة العربية وأوروبا”، وآمل أن تتمكن منطقة الشرق الأوسط من استغلال كافة إمكانياتها الاقتصادية والبشرية والجغرافية لتحقيق تنمية مستدامة يستفيد منها أهالي المنطقة والأجيال القادمة على أفضل صورة ممكنة.. ولكن،
حينما ينعت رئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو، والذي يجلس على قمة هرم أكثر حكومة يمينية متطرفة في تاريخ دولة إسرائيل الدولة الفلسطينية المزمعة بأنها سوف تكون دولة تابعة “تحت سيطرة إيران” التي يصفها بـ “الدولة الإرهابية” علانية وصراحة، وحينما يقول نتنياهو إنه لن يقدم ما يمكن أن “يقوض أمن إسرائيل”، في الوقت الذي يقوم فيه إرهاب الدولة في إسرائيل بقمع وتعذيب وقتل المواطنين على الهوية، وتغتصب دولة الاحتلال الأراضي عنوة واقتداراً أمام مسمع ومرأى من “العالم الحر” أجمع، فإن ذلك لا يبشر بأي أرضية تفاوض ممكنة مع الاحتلال، ولا يدفع على أي أمل للتطبيع مع العدو.
لا يسعني في هذا المقام سوى الثناء على دور المملكة العربية السعودية وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي لا زال يقبض على الجمر، ويضع القضية الفلسطينية نصب عينيه، فيما تطالب المملكة الولايات المتحدة وإسرائيل باتخاذ خطوات ذات مغزى تجاه تطبيع العلاقات مع تل أبيب، وليس مجرد خطوات صغيرة.
وقد نقلت صحيفة “فاينانشال تايمز” عن مسؤوليين سعوديين قولهم إن المملكة ستحتاج أيضاً إلى لفتة كبيرة من إسرائيل تجاه الفلسطينيين، دون أن يوضحوا ما سيترتب على ذلك. في الوقت نفسه، نشر كاتب العمود في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان، عقب لقائه بايدن الأسبوع الماضي، مقالا قال فيه إن “المطالب السعودية من إسرائيل يمكن أن تشمل فرض حظر على التوسع الاستيطاني، وتعهدا بعدم ضم الضفة الغربية”.
في سياق متصل، وفي روسيا، وعلى الرغم من انشغاله الشديد، وبرنامج عمله المكثف، الذي يجعل الطائرة مكاناً لإقامته المستدامة، حرص وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على لقاء السفراء العرب، في مؤتمر مصغر، أتصور أنه بحاجة إلى تجاوب جاد من وزراء خارجية الدول العربية.
التقى لافروف في هذا المؤتمر المصغر رؤساء البعثات الدبلوماسية في موسكو من لبنان وفلسطين والجزائر ومصر والأردن والعراق والمغرب وعمان والمملكة العربية السعودية وسوريا وتركيا والبحرين وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة وكذلك ممثل جامعة الدول العربية.
ووفقا لبيان الخارجية الذي نشرته في صفحتها الرسمية، فقد تم تبادل مهم لوجهات النظر حول قضية الشرق الأوسط، وتم التركيز على قضية التسوية في الشرق الأوسط، فيما أكد الوزير الروسي على الموقف الروسي الثابت تجاه القضية الفلسطينية، المتمثل في تحقيق الاستقرار في المنطقة، وتهيئة الظروف اللازمة للشروع في عملية سلام مستدامة.
وأكد لافروف على التزام موسكو الثابت بالإطار القانوني المعترف به دوليا لحل القضية الفلسطينية، المستند إلى قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية، و”مبادئ مدريد” المطبقة على الجولان السوري، وكذلك على “حل الدولتين” فلسطين وإسرائيل، تعيشان جنباً إلى جنب في أمن وسلام، وشدد على دعم روسيا الدائم لإنشاء الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ما يثير الاهتمام في ذلك المؤتمر هو ما أشار إليه من أن “الحلقة المفرغة” من العنف، التي لا يمكن إخراج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منها، تعود إلى حد كبير إلى خط واشنطن طويل الأمد المتمثل في “احتكار” وظيفة “الوساطة”، وعدم اهتمام الجانب الأمريكي بالتعددية المثمرة، والعمل في إطار الرباعية الدولية لتسوية القضية الفلسطينية، والتي تقوم واشنطن بعرقلة جهودها تحت ذرائع مختلفة.
وأشار لافروف إلى أن نقل جهود حفظ السلام في الشرق الأوسط إلى أساس جماعي، مع دور قيادي لدول المنطقة يحمل أهمية خاصة، انطلاقا من حقيقة أن تحسين العلاقات ما بين المملكة العربية السعودية وإيران مؤخرا، وما بين سوريا وتركيا، وكذلك عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وغيرها من التغيرات التي تشهدها المنطقة، تهيئ المناخ الأساسي لتسوية القضية الفلسطينية في إطار الشرعية الدولية.
أعتقد أن مثل هذا اللقاء يتطلب مبادرة من جميع وزراء الخارجية في الدول العربية للعمل بنشاط مكافئ لنشاط لافروف، يؤكدون من خلاله على ثوابت القضية الفلسطينية غير القابلة للتفاوض، ويطرحون وجه النظر العربية الواضحة، والتي تسعى إلى التمسك بالمبادرة العربية، وإلى الاستناد إلى قرارات الأمم المتحدة، والتأكيد على أن كافة محاولات فصل القضية الفلسطينية عن التطبيع، ومحاولة اختراق الصف العربي باتفاقيات فردية، دون تقديم تنازلات، تمثل الحق الأصيل لشعبنا الفلسطيني، مصيرها الفشل الذريع.
أعتقد أن المملكة العربية السعودية والأمير محمد بن سلمان بالتحديد يتعرض لضغوط هائلة، فيما يخص العلاقة مع الصين، وروسيا، ومؤخراً مع إيران، وأتوقع أن أحد مناطق “ابتزاز” السعودية إنما تكمن في تلك الملفات بالتحديد. فلا يعجب الأمريكيون بطبيعة الحال أن يكون المستثمر الرئيسي في ولوج المملكة العربية السعودية إلى مجال الطاقة النووية هو “روس آتوم”، ولا يعجبهم كذلك أن يتعامل السعوديون مع الصين باليوان الصيني بدلاً من الدولار الأمريكي، لهذا يتعيّن على الدول العربية أن تقف صفاً واحداً، وأن تعلن بصرامة عن استقلالها، وقدرتها على تحديد اختياراتها، دون إملاءات أو ضغوط أو عقوبات أو حصار.
ففي ظل أفول الأحادية القطبية على الولايات المتحدة الأمريكية أن تستيقظ من سباتها، وتستنشق القهوة وتعي موازين القوى الجديدة، التي تمثلها المنطقة العربية وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والهند والصين.
لهذا أعود وأكرر أن المنطقة والعالم بأسره يمر بمرحلة تاريخية، أرجو أن ننتهز، نحن العرب، الفرصة كي نؤكد على رغبتنا في السلام العادل والشامل المستند إلى ميثاق الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية.