غزّة الجريحة تعلّمنا قيمة الحياة الحقيقية / سلطان بركاني
أكثر من 22 ألف روح مسلمة طاهرة في غزّة ارتقت إلى ربّها، نحتسب أصحابها من الشّهداء السّعداء الذين عاشوا يطلبون الشّهادة ويهيّئون لها أبناءهم، فنالوها، هنيئا لهم، فما أروع أن يكون للعبد هدف عظيم في هذه الدنيا الفانية يرتبط بالآخرة الباقية! بين هؤلاء الاثنين والعشرين ألف، كم رجل وكم امرأة وكم طفل نعرف اسمه؟ ربّما لا نعرف منهم إلا ما يعدّ على أصابع اليد الواحدة. لكن كفاهم شرفا أنّ الله يعلمهم ويعلم أسماءهم جميعا.
حال إخواننا هؤلاء ذكرتنا بحال ذلك الأعرابيّ الذي لم تذكر كتب السير اسمه، ولم يعرفه أحد. جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه وقال: أهاجر معك. فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه، فلما كانت غزوة، غنم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها أشياء، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم.
فلما جاء دفعوا إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فأخذه فجاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد، ما هذا؟ قال: قسمته لك. قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت وأدخل الجنة. فقال: “إن تصدق الله يصدقك”، فلبثوا قليلا، ثم نهضوا إلى العدو، فأتي به النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل، قد أصابه سهم حيث أشار. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أهو هو؟ قالوا: نعم. قال: “صدق الله، فصدقه”، وكفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبة، ثم قدمه فصلى عليه. فكان مما ظهر من دعائه له: “اللهم إن هذا عبدك، خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا، أنا شهيد عليه”.
غزّة الأبية الصّامدة علّمتنا أنّه لا قيمة للحياة إذا كان الإنسان لا يملك فيها هدفا يسعى لبلوغه، ويضحّي لأجله بماله وأهله وكلّ ما يملك، أهلنا في غزّة عانوا الحصار فصغرت الدّنيا في عيونهم، وارتفعت راية الجهاد في قطاعهم فتاقت نفوسهم إلى الآخرة، وتلهّفت لجنّة عرضها السماوات والأرض، أصبحوا لا همّ لهم إلا أن يلدوا أبناء يربّونهم على عشق الجهاد، ويضمّونهم إلى كتائب القسّام، لعلّهم يصنعون نصر الأمّة الموعود، أو يستشهدون في سبيل الله فيشفعون في أهليهم، أصبح قائل إخواننا في غزّة يقول: “نحن مشاريع شهداء”.
هذا هو المفترض في حقّ كلّ عبد مؤمن؛ أن يملك غاية في هذه الحياة هي يبلغ رضوان ربّه، ويخدم دينه وأمته، ويسجّل اسمه في سجلّ المقبولين، ويترك أثرا في هذه الحياة، ويسكن جنّة عرضها الأرض والسّماوات، العبد المؤمن لا يليق به أبدا أن يعيش حياته من دون هدف. لا همّ له إلا أن يجمع المال لينفقه في الملابس والأطعمة، وتمضي أيام حياته وساعات عمره لا همّ له إلا المظاهر الفانية، لا يشغل باله إلا ألوان الطّعام وأنواع الثياب وطراز السيارة! هذه حياة من لا يؤمن بجنّة ولا نار، بل حياة الأنعام التي لا تعقل: ((إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)).
أحداث غزّة ستنتهي بإحدى الحسنيين النصر أو الشّهادة.. ووالله لئن لم نستفد ممّا نراه من إخواننا من دروس يكتبونها لنا بدمائهم، فربّما لن نستفيد من درس آخر بعدها، إذا لم تخرج هذه الأحداث الدنيا من قلوبنا، فربّما تضرب هذه الدنيا الدنية بجذورها في قلوبنا ولن تخرج بعدها أبدا، إذا لم تحملنا هذه الأحداث على إعادة حساباتنا وتنظيم حياتنا وترتيب أولوياتنا فربّما لن تستقيم حياتنا بعدها أبدا إلا أن يمنّ الله علينا بسبب آخر.
في واقعنا لا نكاد نرى إلا خصومات حول الدّنيا، جيران لا يكلّم بعضهم بعضا بسبب الدّنيا، وإخوة لا يلتقي بعضهم بعضا بسبب الدنيا، تنافس قائم على أشدّه على الدّنيا، وحسد ملأ القلوب وخنق الصّدور، ووصل ببعضنا إلى حدّ الكيد لأقاربهم وجيرانهم بشتّى أنواع المكائد بسبب خلاف تافه حول دنيا تافهة، أو بسبب حسد على نعم أنعم الله بها على من شاء بفضله وحرم منها من شاء بحكمته.
غزّة تنادي فينا أنّ هذه الدنيا أقصر وأتفه وأحقر من أن تكون همّنا الأكبر ونجري وراءها حتى يفجأنا الموت، هذه الحياة رحلة قصيرة، والحياة الحقيقية هي التي تبدأ بعد الموت، واللبيب هو من يفكّر على أيّ شيء سيموت، ويستحضر دائما وأبدا أنّ من عاش على شيء مات عليه. من عاش لدينه عاش عيشة هنية ومات ميتة رضية، ومن عاش لبطنه وفرجه عاش عيشة البهائم ومات ميتة ردية.
غزّة علّمتنا أيضا أنّ أسرنا مشروع مهمّ يجب أن نهتمّ به ونعطيه من همومنا وأوقاتنا ما يكفي ليكون مشروعا ناجحا نجني أرباحه في الدّنيا والآخرة، من واجبنا أن نهتمّ بدراسة أبنائنا وننتظر بشغف نتائجهم في الامتحانات، لكن لا يجوز أبدا أن يكون هذا هو همّنا الأوّل والأخير، فنحن لا ندري متى يفرّق بيننا وبينهم الموت، لنلتقي يوم القيامة ونرى نتائج الامتحان الأهمّ، يومها ربّما يفرح بعضنا بعض، نفرح بأبنائنا أنّهم كانوا من المصلّين وحافظي القرآن وكانوا يأسرون القلوب بأخلاقهم التي ربّيناهم عليها، ويفرح بنا أبناؤنا لأنّنا ربيناهم على أن يكون دينهم أهمّ ما يملكون، وعلّمناهم أنّ أهمّ امتحان هو الذي تظهر نتائجه هناك في الآخرة، يفرح بعضنا ببعض، ويأخذ بعضنا بأيدي بعض لننطلق إلى دار البقاء: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)).
لكن ربّما نلتقي يوم القيامة بزوجاتنا وأبنائنا ليلعن بعضنا بعضا ويبرأ بعضنا من بعض ويلقي بعضنا اللوم على بعض: يقول الأبناء والزّوجات: ((رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ))، فيأتي الجواب سريعا: ((قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ)).
في الأيام الماضية وزّعت نتائج الامتحانات، فمنّا من فرح بنتائج أبنائه، ومنّا من تملّكه الحزن والغيظ والغضب على أبنائه الذين حصّلوا نتائج غير مرضية.. لكن لعلّنا إلا من رحم الله منّا لا اهتمام لدينا بنتائج أبنائنا في دينهم: هل يصلّون الصلوات الخمس في أوقاتها؟ هل يحفظون القرآن؟ هل يهتمّون بغزوات النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وفتوحات الصحابة وملاحم الفاتحين، أم إنّهم يهتمّون بدوريات كرة القدم ومغامرات نجوم الكرة؟!