المنطقة العربية امام مرحلة مخاض اشد مما عرفناه بالربيع العربي../ كمال خلف
23 فبراير 2024، 13:10 مساءً
ما يجري ليس بسيطا ولا عابرا وان كان في بقعة جغرافية ضيقة اسمها غزة، هذا ما يبدو ظاهريا، لكن في العمق وحسب تفاعلات ما يجري على المساحة العربية والإقليمية والدولية، فان غزة لا تعدو كونها صاعق التفجير ومقياس للواقع على حقيقته. وفي الاتفاق فان خلاصة ما يجري من المنظور الاستراتيجي على صعيد النتائج هو تضرر النظام الدولي هذا بات جليا. موقع الولايات المتحدة في هذا النظام تضرر، سيكون لذلك تباعات عميقة وخطيرة، في المدى المتوسط والبعيد على الولايات المتحدة ودول غربية وقفت في ظلها.
خلال خمسة شهور من الاحداث والمواقف نحن لسنا الا امام “عملاق عالمي ضخم” لكن بعيون تعاني قصر النظر. من الطبيعي ان تعاني دول العالم من هذا المارد الاعمى، لكن ليست كمعاناة صاحبه لاحقا.
كشفت احداث غزة ان النظام الرسمي العربي هو الاخر أصيب بأضرار بليغة، سنشهد تداعياته في وقت ليس ببعيد، ولا ابالغ بالقول ان الدول الوطنية العربية بحدوها وهويتها الحالية والتي هندستها الدول الغربية بعد ان حسمت الحرب العالمية لصالحها على عكس إرادة شعوبها، ستعيد البحث عن ذاتها ومراجعة كينونة وجودها، وشكل أنظمتها السياسية، وهذا ما سيدخل المنطقة العربية مرحلة من عدم الاستقرار، بل الاضطرابات ذات الطابع المصيري الجذري، ستكون ارتداداتها اشد بأضعاف من حقبة ما سمي “بالربيع العربي”، والذي استطاعت الدول الغربية الإمساك بناصيته والتحكم بمساراته وتوجيهه في اطار اتجاه سياساتها الدولية على حساب اهداف وتطلعات الجماهير التي خرجت من اجل التغيير.
ما هو قادم عربيا سيكون مختلف كليا. ومن الصعب السيطرة عليه وكبح جماحه هذه المرة، وسيتخذ شكل مخاض ولادة عسير وعسير جدا، يتطلب سنوات من الاهتزازات السياسية والاجتماعية، ترافقها نظريات فكرية جديدة ذات طابع ثوري، وصولا الى تشكيل جديد كليا للبيئة العربية، يصعب تصور كيف ستكون ماهيته وشكله.
الشعوب والمجتمعات العربية وهي في حالة صدمة مما يجري في غزة من مذابح، ووقوف الولايات المتحدة والغرب الى جانب إسرائيل بكل صلف لإكمال إبادة الشعب الفلسطيني، واحتقار مشاعرها، واستسلام أنظمتها بشكل غير مسبوق في التاريخ الحديث، لم تكن قبل هذا الحدث بحالة استقرار، المنطقة العربية كلها أصيبت في العقد الأخير بحالة مع عدم الاتزان، والفوضى، واختلال مراكز التأثير، والاحجام والاوزان بين الدول العربية، وتراكم الازمات، والخيبات والمعاناة والفشل في انتاج حوكمة رشيدة.
وليست احداث غزة سوى المقياس لما وصلت اليه الحالة العربية من انحطاط وتدهور، بلغ حده في مسار التاريخ، والمرحلة المقبلة هو محاولة التغيير بكل قوة.
اما إسرائيل بعد كل ما جرى في غزة من إبادة، وارتداداته الدولية السياسية والشعبية والقانونية، فقد ظهرت عليها اعراض حمل بذور التحول التاريخي. ولن تعود إسرائيل قادرة على الاستمرار بصورتها الراهنة، وليست الحرب في غزة سوى نهاية لمسار تراجعي في الخط البياني منذ انشأ الغرب دولة لليهود على أرض عربية عام 1948، ودعمها بأقصى قدر من القوة لتبقى على قيد الحياة، وتتفوق على محيطها لضمان بقائها باعتبارها عصارة ما انتجه الغرب في المنطقة العربية وامتداد عضوي له.
هذا الغرب نفسه سيكون السبب الرئيس في انكماش إسرائيل القادم، النخب السياسية والفكرية الغربية الجديدة الوليدة ومن منظومة الحضارة الغربية وقيمها ذاتها، وبعد تفاعلات تخص القضية الفلسطينية عينا، وتأثيراتها في النظم الفكرية الجديدة هي من سيتصدى في المستقبل القريب لمهمة ابراز عدالة القضية الفلسطينية، وهي من سيقود تحولات انتزاع الشعب الفلسطيني حقوقه، وليست أي اقطاب دولية صاعدة في الشرق من نمط الصين او الهند او روسيا. رغم ان المسارات الدولية في الشرق وامريكا اللاتينية وافريقيا ومواقف منظمات وتيارات سياسية وفكرية عديدة في العالم سيكون لها تأثير كبير في دفع الغرب نحو قيادة عملية التحول من التأييد والدعم العضوي لإسرائيل، الا احتضان القضية الفلسطينية، وإعادة انتاج دولة إسرائيل على أسس جديدة لتبقى وتستمر.
هنا لا اتحدث بمنظار ما هو قائم الان في الغرب بصورته البليدة العنصرية والمتوحشة، انما كيف ستكون تفاعلات التعامل مع قضية عدالة كونية وإنسانية لشعب نال نصيبه من العذابات والابادة والقتل الوحشي الجماعي بقدر اكبر مما ناله اليهود في أوروبا اربعينات القرن الماضي على يد النازيين الالمان، لدى نخب سياسية وفكرية جديدة في الغرب في ظل منظومة تملك فضاءات لحركة السياسة و الفكر والتعبير و بات لديها استعداد اكبر للتخلص من عقدة الذنب، والقدرة على التفريق بين دولة تستخدم البطش والابادة لشعب اعزل، وبين مظلومية تاريخية لاتباع ديانة لم يكن لهم دولة خاصة بهم لحظة اضطهادهم. المعركة الأساسية داخل الدول الغربية، وهي معركة بدأت ولن تنته الا بأحداث التغيير الذي يقود عملية تصحيح كبرى للتاريخ وبالتالي للمستقبل. والعامل الأكبر نحو إعادة الغرب صياغة السياسة بصورتها الجذرية المتوقعة، هو صمود الشعب الفلسطيني على ارضه، وافشاله كل محاولات شطبه، ودفعه ثمنا باهظا يصعب على العالم هضم فصوله.
بزوغ التغيرات الجذرية في بنية الحياة السياسية والاجتماعية العربية القادمة لا محالة ومخاضاتها المؤلمة كما ذكرنا سابقا، مع تحولات المقاربة العالمية للقضية الفلسطينية، والنظرة الى استمرار إسرائيل بشكالها الهمجي العدواني الراهن المعبر عن فشل النظام الدولي والمعاكس للمسار الانساني الطبيعي. سيدفع المنظومة الغربية نفسها الى قيادة تحول يؤدي الى، قيام دولة فلسطينية تعوض الشعب الفلسطيني عما لحق به من إبادة، مقابل حفاظ الغرب على دولة اسمها إسرائيل منكمشة بحدود وقدرة، وتعيش عقدة ذنب يضعها العالم في رقبتها تجاه الشعب الفلسطيني، كما سيعيش الغرب كله ذات القعدة ولاجيال طويلة. هذا لن يكون في اجال بعيدة ولن ننتظر عقودا طويلة، المسار الموصل الى هذا النوع من النتائج او القريبة منها بدأ في الشرق والغرب. وعلينا ان نستعد لنعيش فصوله ومراحله الصعبة.