أحسن الوداع.. لعلّك تعوّض ما فات! / سلطان بركاني
حُقّ لعيوننا أن تدمع، ولقلوبنا أن تحزن، ونحن نشعر بأنّ رمضان بدأ يتأهّب للرّحيل.. وكيف لا نحزن لرحيل رمضان، وأبواب الجنّة فيه مفتّحة، وأبواب النّار مغلقة؟ أبواب السماء فيه مشرعة ومردة الشياطين فيه مصفّدة؟ كيف لا نحزن وفي كلّ يوم من أيامه وفي كلّ ليلة من لياليه يعتق الله من عباده من لا يحصي عددهم إلا هو سبحانه؟ كيف لا نحزن وقد وجدنا فيه للصلاة حلاوة، ولتلاوة القرآن طلاوة، وللجلوس في بيت الله في أيامه ولياليه لذّة ومتعة؟ كيف لا نحزن لرحيل رمضان، ونحن لا ندري هل سيعود العام القابل ونحن بين الأحياء أم في عداد الموتى؟ فوق التراب أم تحته؟
عزاؤنا أنّه قد بقيت في رمضان بقية حاسمة، هي ختام رمضان ومسكه، والأعمال بخواتيمها كما قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-.. لا يزال في عمر رمضان يومان أو ثلاثة، وليلتان أو ثلاث قد تكون بينها ليلة العمر ليلة القدر.
حقيق بكلّ متحسّر على رمضان، نادم على إضاعة أيامه ولياليه في السهرات و”الدومينو” ولعب الورق أن يعصر قلبه في هذه الأيام، ويُري الله من نفسه خيرا، ويقوم في التراويح والتهجّد قيام خاشع مودّع، ويصوم هذه الأيام القليلة الباقية صيام مودّع، وفي نفسه أنّها آخر عهد له برمضان في هذه الدّنيا. كلّ يوم منها خير من الدّنيا وما فيها، بل كلّ ساعة أغلى من الدّنيا وما حوت.. وعينه على ليلة القدر، يرجو من مولاه الكريم العفوّ الرّحيم أن تكون فيما بقي من ليال وأن يوفّقه لإدراكها لتكون بدايته للظّفر بسعادة الدّنيا والآخرة، بدايته على طريق الجنّة، طريق الصلاح والاستقامة، طريق ينظّم فيها حياته وأوقاته ويعيش فيها لأنبل وأسمى غاية في الوجود: أن يرضى الله عنه ويسكنه جنّته ويريه وجهه الكريم.
بقيت ليلتان أو ثلاثة في عمر رمضان، بينها ليلة وترية: ليلة التاسع والعشرين، قد تكون هي ليلة القدر، ليلة العمر، ليلة الظّفر، ليلة الخضوع والتذلّل والخشوع، ليلة إسبال الدّمعات وطلب الحاجات وبثّ الهموم والأحزان والأمنيات.. الليلة التي ينكّس فيها العبد المؤمن رأسه ويسبل دمعاته ويعترف لمولاه بتقصيره وسوء فعاله، وينتظر فيها العبد من مولاه نظرة رحمة ورضا، تتغيّر بعدها حياة العبد إلى ما يحبّه الله ويرضاه، نظرة رحمة ورضا تغفر بها ذنوب العمر صغائرها وكبائرها وتمحى الخطايا كلّها، ويأذن الله فيها بكتابة اسم عبده في سجلّ السّعداء.. ليلة يُذكر فيها اسمُ العبد في الملأ الأعلى، يقول الله لملائكته: اشهدوا يا ملائكتي أنّي قد غفرت لعبدي فلان وأعتقته من النّار وأحللت عليه رضواني فلا أسخط عليه أبدا.. فيا الله ما أروعه وأحلاه من مقام! أن يعتق العبد من النّار ويحلّ عليه رضا العزيز الغفّار.
((حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)).
إنّها ليلة القدر، الليلة التي يعدل أجر العمل الصّالح فيها أجره في 83 سنة كاملة. الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تكون أكثر في الأرض من عدد الحصى، وينزل فيها أمين الوحي جبريل عليه السّلام.. الليلة التي تتنزّل فيها الرّحمات حتى يمتلئ إبليس غيظا وحنقا من كثرة ما يرى من عباد الله الذين يعتقهم الله ويكتب لهم رضوانه: ((لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)).. الليلة التي من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه.. الليلة التي يكون فيها العبد أقرب ما يكون إلى عفو ربّه.. فعن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: “اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”.
نحن لا ندري لعلّ ليلة القدر قد مضت في الليالي التي انقضت من العشر الأواخر، ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين، لكنّنا أيضا لا ندري لعلّها لا تزال في ليلة التاسع والعشرين.. فحريّ بالعبد المؤمن الذي اعترته الحسرة على التقصير فيما مضى من أيام رمضان، أن يستعدّ في الليالي والأيام التي بقيت، يستعدّ ليتعرّض لرحمة الله وفضله، يهيّئ قلبه وروحه، ويحصي همومه وحاجاته، وينتقي دعواته وأمنياته التي يرفعها إلى مولاه الكريم، ليختم رمضان على خير حال، عسى الله أن يختم له حياته على خير حال. فمن فرّط في استقبال رمضان، فلا يفرطنّ في وداعه، وربّ عبد يحسن الوداع يكون من الفائزين والسعداء برمضان، ويكون رمضان شاهدا له عند الله.