الذرائعية السياسية في العالم العربي / حسام ميرو
قد يكون من غير الممكن عملياً فصل الذرائعية عن السياسة، خصوصاً إذا ما اعتبرنا أن الذرائعية تطابق البراغماتية في مكان ما، والتي تشكّل مذهباً خاصّاً في الفلسفة السياسية، كما أن السياسة، من حيث كونها نمطاً في الإدارة يسعى لتحقيق أهداف معينة، فإنه من البدهي أن يتمتّع هذا النمط بالمرونة، قليلها أو كثيرها أحياناً، ليتمكن من تحقيق الأهداف المرجوّة في واقع متغيّر، لكن أيضاً، ليس بالإمكان الفصل عملياً بين الذرائعية والتبريرية في حالات كثيرة، خصوصاً عندما يجري تحريف المفاهيم والحقائق معرفياً، لخدمة مسار سياسي معين، وبالتالي، إخراج السياسة نفسها من نطاق المعرفة.
ليست الذرائعية بالمعنى التحريفي مقطوعة الصلة بالعقل الأحادي، أو العقل غير الجدلي، بل هي وريثة منظومة معرفية أحادية، من خصائصها الدينامية، صناعة الثنائيات الضدّية، ووضعها في حالة تقابل، تغيّب طيفاً واسعاً من الألوان بين الأبيض والأسود، أي إبقاء كل ما نعيشه تحت رحمة الفهم المانوي للعالم، الذي يقيّم أي فعل أو حركة تبعاً للخير والشرّ المطلقين، أي أنه يمنح نفسه منذ البداية صفة الخير المطلق، في مواجهة الآخر، الذي يمثّل الشر المطلق، وبالتالي، فإنه يمنح نفسه حقّ وسلطة الحكم على الآخر، كمقدمة لنبذه، وإقصائه، وربما إفنائه.
قد يتساوى في ذلك، عقل السلطة والمعارضة في الوقت نفسه، وليس هذا أمراً مستغرباً، بالنظر إلى المنظومة الاجتماعية/ الاقتصادية التي ينتمي إليها كلاهما، فديناميات هذه المنظومة -ما دامت مستمرّة- فمن غير المتوقّع أن تنتج ما يقطع مع دينامياتها فكرياً، ومع العقل المانوي الذي يحكمها، ويتحكّم في أقوالها وممارساتها؛ إذ إن إنتاج وعي مغاير، يتطلّب مساراً مغايراً في الديناميات التي تنتج الواقع نفسه، وهذه القاعدة، التي تصف علاقة الفكر بالواقع، ليست ثابتة على طول الخط، وليست نهائية، لكنها نسبية، وتابعة لمستوى الجدل بين الواقع والفكر.
في تفسير الوقائع السياسية التي عاشها عالمنا العربي منذ نهاية عام 2010، هناك وجهتا نظر، تمثلان مواقف تكاد تكون متطابقة، على الرغم من وجودها في حالة تضاد، تنظر الأولى إلى تلك الوقائع بوصفها شرّاً مطلقاً، هدفه تفتيت المنطقة، مدعوماً بقوى خارجية، والثانية، تنظر إلى الوقائع نفسها، بوصفها خيراً مطلقاً، تدخلت أيضاً قوى خارجية لمنع تحقيقه، وبالتالي، فإن الموقف الأول ينظر إلى كلّ المفاهيم التي طرحت من قبل وجهة النظر الثانية بأنها مجرد تبريرات، لا علاقة لها بالأهداف السياسية المعلنة، والأمر ذاته، ينطبق على وجهة النظر الثانية، التي ترى أن مفاهيم وجهة النظر الأولى مجرد تبريرات، لممانعة تغيير الواقع.
هذا التضاد، الذي يقف على الأرضية التحليلية ذاتها، أي العقل المانوي، يطرد النسبي من التحليل، يجعله مرذولاً، ويرفع رؤيته للواقع إلى مرتبة المطلق، وقد وصف المفكر الراحل إلياس مرقص (1927-1991)، هذه الوضعية، بأنها أسّ الاستبداد، وبحسب مرقص فإن «الاستبداد هو رفع النسبي إلى مرتبة المطلق»، وهذه الحالة، ليست سمة خاصّة برؤية وقائع السنوات الأخيرة، وإنما سمة، تكاد تكون ملازمة لعموم الفكر والممارسة السياسيين في العالم العربي.
إذاً، نحن بحاجة إلى إقامة تمييز مبدئي بين الذرائعية/ البراغماتية، بوصفها فلسفة وضعية، يعدّ الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1856-1952) أبرز منظّريها؛ حيث يرى ضرورة «الحكم على الأفكار من خلال تأثّرها بالواقع الاجتماعي والثقافي»، وبالتالي، الحكم على صلاح الأفكار من خلال خدمتها للواقع، وبين الذرائعية/ التبريرية، التي تستبدل المعرفة بالأيديولوجيا، بطريقة تقزّم فيها من أهمية المعرفة والأيديولوجيا في الوقت نفسه، والأهم أنها تجعل من غير الممكن إعمال مبضع التشريح المعرفي في الواقع، لفهم مشكلاته وتحدّياته وسبل تجاوزه.
إن تفكيك هذا المنطق الذرائعي/ التبريري ليس فقط مسألة فكرية، تجري بعيداً عن الواقع، في أكاديميات ومختبرات، وليس أيضاً خارج نطاق مسؤولية فئات محدّدة، بل هو على وجه الدقة، مسؤولية عموم النخب، وخصوصاً النخب السياسية؛ إذ إن الخروج من المطلق إلى النسبي هو عودة إلى الواقع، من أجل فهمه، بوصفه، على الدوام، واقعاً نسبياً، وليس معطى نهائياً، أي أنه واقع قابل للتغيير، وأيضاً، قابل للتحديث، وهو ما يجعل، على سبيل المثال لا الحصر، وضع فكرة الخصوصية، في حيّزها المطابق لها، أي حيّز النسبي، وعدم جعلها أداة لمنع حركة الواقع والتاريخ.
في عالم يشبه عالمنا العربي اليوم، مملوء بالاضطرابات والفوضى والحروب والهزائم، ما زالت إحدى أدوات ممانعة تغيير الواقع، وتجاوز مشكلاته وكوارثه، تتمثّل في الذرائعية/ التبريرية، المعنية فقط بتبرير المواقف السياسية، والتي قد تصل أحياناً إلى حدّ جعل بعض الهزائم انتصارات؛ إذ لا يقبل العقل المانوي، الذي يزعم امتلاك الحقيقة، الاعتراف بواقعه، بل هو معنيّ فقط بإيجاد مبررات، تعفي الذات من مسؤولياتها، بينما المطلوب فعلياً رؤية الواقع كما هو؛ إذ إن أولى مقدّمات تجاوز أي هزيمة، أو أي نتائج سلبية للممارسة السياسية، هي الاعتراف بالأخطاء الذاتية المرتكبة، والاعتراف بأن عالم الممارسة السياسية هو عالم وضعي، خاضع للحسابات، وليس للرغبات، وهو كما أنه قابل للانتكاس، فهو قابل للتقدّم.