طوارئ لها تاريخ/ فهمي هويدي
خلال القرنين الماضيين تقريبا (منذ تشكيل جهاز الدولة المصرية فى عهد محمد على باشا عام ١٨٢٠) لم تعرف مصر الرقابة الدستورية الشعبية الفعالة من خلال مؤسسات نيابية حقيقية إلا مددا متقطعة، لا تزيد فى مجملها على عدد أصابع اليدين. وكانت مصر قد دخلت تلك المرحلة بعد نحو مائة سنة من تأسيس جهاز الدولة، أى فى ظل دستور ١٩٢٣ الذى أثمرته ثورة ١٩١٩ التى تجلت فيها قوة الحركة الوطنية بقيادة حزب الوفد آنذاك، وأثبت المجتمع حضوره إلى جانب قوة الملك وقوة الإنجليز المحتلين لمصر. بعد إعلان الدستور عرفت مصر السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. وخلال سنوات تطبيقه وإلى حين إلغائه فى عام ١٩٥٤ (بعد قيام ثورة) يوليو جرت فى مصر عشرة انتخابات منها ستة حرة ونزيهة كان حزب الوفد هو الفائز بها دائما. إلا أن تلك البرلمانات لم تستمر إلا لفترات متقعطة لا تبلغ فى مجموعها ثمانى سنوات. أطولها كان فى السنوات ١٩٣٦ و١٩٤٢ و١٩٥٠ (سنتان لكل منها) ومنها مجلس لم يبق أكثر من ثمانى ساعات.
على الجملة، يمكن القول بأن مصر لم تعرف نظاما دستوريا ديمقراطيا قبل دستور ١٩٢٣ أو بعده. ورغم صواب ما يقال عن إيجابيات وإنجازات الحكم الوطنى فى عهد جمال عبدالناصر (من عام ١٩٥٢ إلى وفاته عام ١٩٧٠)، إلا أن ذلك النظام كان وطنيا وتقدميا من النواحى السياسية والاجتماعية، فى حين كان استبداديا وغير ديمقراطى. وقد صفيت جميع مكاسبه السياسية الوطنية والاقتصادية والاجتماعية على يد خليفته أنور السادات بذات الأسلوب الاستبدادى الذى كان مطبقا، وبذات أدواته فى الحكم. وخلال ثلاث سنوات فقط (من عام ١٩٧٥ إلى عام ١٩٧٨) تمت تصفية كل ما أنجزه عبدالناصر خلال ١٨ عاما.
كان واضعو دستور ١٩٢٣ قد استصدروا قبل العمل به عدة قوانين استبدادية ومنها قانون الأحكام العرفية (الطوارئ لاحقا) لاستخدامها عند اللزوم، إلا أن أحكام الدسور خولفت بعد عامين من العمل به لهذا السبب، ثم أوقفت بعض أحكامه الخاصة بالانتخابات بقرار صادر من الملك فى سنتى ١٩٢٨ و١٩٢٩، ثم ألغى تماما سنة ١٩٣٠، وصدر دستور غير ديمقراطى بديلا عنه. ثم عاد سنة ١٩٣٥ ورغم أنه لم تنشأ حالة تستدعى فرض الأحكام العرفية، إلا أن ذلك العبث بالدستور استمر بعدما تبين أن بالإمكان السياسى مخالفته صراحة ووقف العمل به ثم إلغاؤه واستبدال غيره به.
لما عاد دستور ١٩٢٣ وأعيد العمل به فى انتخابات ١٩٣٦، ما لبثت أن استغلت حالة الحرب العالمية الثانية التى بدأت فى خريف سنة ١٩٣٩ لفرض الأحكام العرفية، التى تمكن السلطة التنفيذية وحدها بواسطة من يعين «حاكما عسكريا» أن يصدر أوامر لها قوة القوانين، وتمكنه من إصدار القرارات باعتقال من يرى اعتقاله من المواطنين والتحفظ على أموالهم وحرمانهم من حقوقهم المشروعة. كما أن هذه الحالة تمكن من إنشاء محاكم خاصة تشكل حسبما يرى منشؤها للنظر فيما يرون من أمور فهى بديل متكامل عن النظام الدستورى وإن قامت فى ظل وجوده الصورى.
حالة الطوارئ (الأحكام العرفية) فرضت سنة ١٩٣٩ واستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٥ فألغيت، ثم عاد فرضها مع حرب فلسطين سنة ١٩٤٨ حتى تولى حزب الوفد الحكم فى ١٩٥٠ فألغيت، ثم عاد فرضها مع حريق القاهرة فى يناير ١٩٥٢ واستمرت مع ثورة ٢٣ يوليو حتى ألغيت بوضع دستور مؤقت صدر بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر فى سنة ١٩٦٤، وبمناسبة إلغائها صدر «قانون تدابير أمن الدولة» ليحل محلها فى ذات تاريخ إلغائها. ثم فرضت من جديد مع حرب سنة ١٩٦٧ حتى سنة ١٩٨٠ حيث ألغيت وحل محلها قانون لحماية الجبهة الداخلية، ثم فرضت مع اغتيال أنور السادات فى أكتوبر سنة ١٩٨١ واستمرت حتى بعد نهاية حكم حسنى مبارك وثورة ٢٥ يناير سنة ٢٠١١. ثم ألغيت وحل محلها الآن قانون التظاهر ثم قانون مكافحة الإرهاب. (إلى أن أعلنت رسميا فى العاشر من شهر إبريل الحالى).
معنى ذلك أنه خلال المدة من سنة ١٩٣٩ حتى الآن، وعلى مدى ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن كانت حالة الطوارئ مفروضة رسميا، ولم ترفع إلا سنوات قليلة متقطعة حلت محلها خلالها قوانين بديلة تقوم بذات المهام وتتيح ذات السلطات.
النتيجة أن جهاز إدارة الدولة المصرية اعتاد على الحكم بواسطة حالة الطوارئ. إذ تشكلت فى إطارها تجارب رجاله ومهاراتهم وأساليب إدارتهم للشئون العامة والتعامل مع المواطنين ومع أنشطتهم المختلفة، بمعنى أن الثقافة الإدارية لهذا الجهاز ورجاله التى تراكمت بالتجارب والخبرات والممارسات، صارت وليدة تلك السلطة الاستثنائية بحيث أنه لم يعد يستطيع الحكم ولا الممارسة لمهام عمله فى التعامل مع المواطنين إلا من خلال حالة الطوارئ وما تتيحه من سلطات وقرارات غير مقيدة.
(النص مقتبس من كتاب المستشار طارق البشرى «دراسات فى الديمقراطية المصرية»).
بوابة الشروق
تعليق واحد