أعترف بداية أنني مقصر في حق “رأي اليوم وقرائها”، لكن هذا “التقصير” يعتبر نسبيا في مقابل ما أحسّ به من “قصور” تجاه الأعزاء في فلسطين وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، وهو ما جعلني أعجز، طوال الأسابيع الماضية، عن كتابة سطر واحد قد أفشل في حمايته من الإحباط الذي أشعر به وأنا أجد نفسي عاجزا عن تلبية دعوات الاستنجاد، لا من قنابل العدو الهمجي فقط ولكن من جوع يفتك بأمعاء الصغار في غزة هاشم وحولها، ومن مرارة فتاكة يحس بها من عرف أن هناك أشقاء يفرضون على من يريد مغادرة القطاع آلاف الدولارات، لكي يتمكن من الفرار من همجية الكيان الصهيوني.
والواقع أيضا هو أنني لم أكن قادرا على التحكم في شعوري بالضآلة وقلة الحيلة أمام صورة لطفل غزاوي يكتب اسمه واسم إخوته على أذرعتهم وصدورهم ليمكن التعرف عليهم عندما يستشهدون، هذا إن عُثر على أجسامهم.
ولم أستطع تقدير الحجم المناسب من شتائم الازدراء الذي يمكن أن تحتمله الجريدة، موجها لعواصم نظم القياديون المعنيون فيها حفلات صاخبة جُمع فيها ما اعتبر نخبة المدينة، وربما كانت الجماهير العريضة بعيدة عنها.
والمنصفون يعترفون بأن بلادي فعلت كل ما يمكنها القيام به، لكنني ما زلت أقول وأكرر بأن كل ذلك ليس كافيا، لأن الثورة الجزائرية هي ثورة معجزات، وأنا أتصور بأن مما تحاول القيادة في بلادي تفاديه هو مقاطعة القيادات التي سخِرت علنا من كفاح المقاومة، حتى لا نتهم بتشتيت الصف الفلسطيني، في حين أنه لا يختلف في واقعه عن أسنانٍ مهترئة متساقطة في فم عجوز ينتظر ساعته الأخيرة.
وأنا أعترف بأنني ما زلت أرجو أن تجمد بلادي فورا علاقاتنا مع التكية التي تحمل اسم جامعة الدول العربية، خصوصا ونحن نحتفل هذا الأسبوع باستقلال الجزائر بعد كفاح دام عقودا، وبعد ثورة هائلة دامت سنوات وسنوات، وشهداء يُعدون بالملايين، حصدهم الرصاص والقنابل وحرائق المغارات وغول الأوبئة.
وأعرف أن بعض ما كان يزعج بعض القيادات العربية التي ترفع شعارات مقاتلة العدو هو تذكيرهم بالأسلوب الفعال التي تمكنت به الثورة الجزائرية من تمريغ أنف الجمهورية الفرنسية الرابعة في التراب، ولم يكن حظ الجمهورية الخامسة بأحسن كثيرا.
وأحاول، في 5 يوليو/ تموز، أن أفرّ من مهانة الحاضر لأذكر بأن الثورة الجزائرية انتصرت لأن إرادة الصمود والتصدي كانت قاهرة، وأنا أشعر باعتزاز هائل عندما أسترجع صور العبقرية التي تميزت بها الثورة الجزائرية، والتي لم يعرف قادتها “الصوربون” أو “أوكسفورد” او حتى جامعة القاهرة، ولا كان من بينهم من استفاد من “سان سير” في فرنسا أو “وست بوينت” في أمريكا أو “فرونزي” في روسيا أو “سندهيرست” في بريطانيا.
تجلت تلك العبقرية في وضع إستراتيجية العمل الثوري على أساس أن الصراع مع أقوى قوة عسكرية وسياسية في البحر الأبيض يتطلب شن معركة قاسية وطويلة الأمد على ثلاث جبهات: جبهة القتال العسكري المباشر بالأسلوب المناسب الذي يتطور طبقا للاحتياجات وللإمكانيات، وجبهة الصراع الديبلوماسي عبر العالم بأسره، وجبهة المواجهة الإعلامية في كل المنابر المتاحة.
وأذكر هنا بأن مأساة مايو 1945، التي فقدت فيها الجزائر نحو 45 ألف شهيد ودُمّرت فيها آلاف القرى ونتج عنها آلاف المعطوبين والمشوهين جسديا ونفسيا، تلك المأساة تركت أثرا هائلا في نفوس الجزائريين، إذ وصلت الطلائع إلى اليقين بأهمية نداء مصالي الحاج في المؤتمر الإسلامي عام 1936، عندما صرخ وهو يُمسك بحفنة من تراب الجزائر قائلا: “هذه الأرض ليست للبيع”، وبصواب التعبير الذي قاله الشيخ البشير الإبراهيمي في نفس العام: “إن ما أخذ اغتصابا لا يُسترجع إلا غلابا”.
وأتذكر هنا تعبيرا سمعته يوما من الرئيس هواري بو مدين حيث قال: خلَقت مذابح ماي في نفسيَ اليقين بأن “السلاح هو الطريق الوحيد أمامنا لاسترجاع الحقوق واسترداد الكرامة”.
وكان من أهم ما يتوجب على الثورة القيام به مواجهة بعض التوجهات النخبوية التي سقطت ضحية الإحباط أمام مأساة مايو، ونتيجة للفعالية الهائلة للإعلام الفرنسي.
وكثيرون لا يعرفون أن أول بيان عن الثورة كان بيان 30 أكتوبر 1954، الذي صدر قبل بلاغ أول نوفمبر بيومين، وكان عنوانه: من جيش التحرير الوطني إلى الجزائر “المسلمة”، وهو يسجل في بدايته نقطة بالغة الأهمية عشناها فيما بعد خلال الثورة، عندما كانت الاجتماعات تفتتح باسم الجيش والجبهة، بوضع الجيش قبل الجبهة، وكان التعبير الفكاهي الذي كنت نستعمله في جيش التحرير هو أن الجيش مذكر والجبهة مؤنث، والرجال قوامون على النساء، وهو هنا يعطي للعسكرية الجزائرية وضعا بعيدا عن الوضع الذي عرفته بلدان لا تملك جيوشها الوطنية، بحكم الظروف المختلفة للنضال، الماضي الثوري الذي عرفته الجزائر.
وسنجد أن بيان أكتوبر يجسد عبقرية نادرة في الصياغة، إذ أنه استعمل ثلاثة أساليب في نص واحد.
أولا: مخاطبة الشعب الجزائري بصيغة المفرد، فهو يقول : إن إخوانك في تونس والمغرب يكافحون، وعليك ألا تنسى لحظة واحدة أن مصيرنا واحد.
وهذا الأسلوب يشعر المتلقي بالألفة والحميمية، وبأن الخطاب موجه له وحده، مما يخلق في نفسه اعتزازا كبيرا يجعله يستجيب لما يقدم له.
ثانيا: مخاطبة الشعب الجزائري بصيغة الجمع، فيقول مثلا :اعملوا مع إخوانكم المغاربة والتونسيين من أجل تحقيق استقلالكم.
وهذا الأسلوب يخلق الشعور لدى المتلقين بأنهم كتلة واحدة مع المغرب العربي الكبير، مما يزرع لديهم الشعور بالقوة والاتحاد، ويقوي من عزيمتهم لتنفيذ الأهداف المطروحة عليهم.
ثالثا – يتوجه البيان لمستقبليه بصفة المتكلم الجمع فيقول: إن مصيرنا واحد، وليس هناك من مانع يحول بيننا وبين الاتحاد، إن سلامنا واحد وحريتنا واحدة، ونحن نستطيع الكفاح بكل جدارة.
وهذا الأسلوب يحقق إحساس المواطنين بأن من يرسلون البيان يعيشون معهم ويقفون إلى جانبهم ولا يخاطبونهم من برج عاجي.
ويتكامل مع ذلك البيان بيان أول نوفمبر الذي كان يهدف إلى اكتساب تعاطف المعني الأول بالثورة، وهو الشعب الجزائري، ثم ضمان تعاطف الحلقات الجغرافية المحيطة بالجزائر، عربيا وإسلاميا، ثم دوليا، واستثمار كل هذا في تدمير الوجود الاستعماري وانتزاع الحرية والاستقلال.
تقول الجملة الأولى في البيان الذي أصدرته جبهة التحرير الوطني: أيها المناضلون من أجل القضية الوطنية، أنتم الذين ستصدرون حكمكم بشأننا، نعني الشعب بصفة عامة.
هكذا يوضع الشعب في موضع اتخاذ القرار، وهو أهم عامل تستهدفه قيادة الثورة لخلق التفاعل الجماهيري مع حركة ثورية تنطلق لتدمير أهم قوة عسكرية في البحر الأبيض، ويقف وراءها الحلف الأطلسي بكل جبروته وقوته المُعدة أساسا لمواجهة الاتحاد السوفيتي.
النقطة الثانية في البيان كانت اعتبار الثورة التحريرية تتويجا لمراحل أخرى سبقتها، أي أنها لم تعط لنفسها كل المزايا، وهذا نقطة رئيسية لضمان التأييد العام من كل الاتجاهات، وهذا من أهم ما يمكن أن يحققه التجنيد الذكي للجماهير العريضة.
النقطة الثالثة هي تحديد الأهداف الثورية بما يحقق وضوح الصورة بالنسبة للمناضلين وتأكيد التعاطف من قبل الأشقاء والأصدقاء، وهكذا حُدد الهدف الأساسي بإقامة الدولة الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية ضمن إطار المبادئ الإسلامية، وتحقيق وحدة شمال إفريقيا داخل إطارها العربي الإسلامي.
وتتجلى عبقرية الصياغة في تأكيد البيان بأن المصالح الفرنسية ، المُحصّل عليها بنزاهة (أعيد …المحصّل عليها بنزاهة) سوف تحترم، وسواء تعلق الأمر بالأشخاص أو بالعائلات، وهي نقطة بالغة الأهمية.
Les intérêts français, culturels et économiques, honnêtement acquis, seront respectés ainsi que les personnes et les familles.
وهو ما يعني الاحتياط لمواجهة كل المطالب الفرنسية المحتملة باسترجاع ممتلكات معينة كانت العناصر الفرنسية تستثمرها في الجزائر المستعمرة، والتي كانت بالاستيلاء التعسفي العقابي لشعب كان يتمسك بحريته.
أي عبقرية هذه التي جعلت من صاغ البيان يعطينا، بعد عشرات السنين، الحق في أن نرفض الادعاءات الفرنسية بوجود حقوق للأقدام السوداء في الجزائر المستقلة.
ثم يستعمل البيان صيغة المفرد التي سبقت الإشارة لها في بيان 30 أكتوبر، ويقول: أيها الجزائري، إننا ندعوك لتبارك هذه الوثيقة، إن جبهة التحرير هي جبهتك وانتصارها هو انتصارك.
ثم يختتم بصيغة المتحدث الجمع لنزع كل إحساس بالزعامة الفردية: أما نحن، العازمون على مواصلة الكفاح، فإننا نقدم للوطن أعز ما نملك.
وأذكر هنا بأن عبقرية الثورة الجزائرية فرضت محاصرة الخلافات في مستوى القمة، فلم تنزل إلى المستوى الشعبي ولم تلوث ساحة المعركة، سواء العسكرية أو الديبلوماسية أو الإعلامية.
واعتبرَ من أعدموا لتناقض وجهات النظر شهداء، احترامهم فرضُ عينٍ على كل وطنيّ، وهذا ما كان على قيادات عربية معينة التعامل به مع العناصر التي قد لا تنسجم مع بعض التوجهات التاكتيكية.
من هنا أتصور أن من حقي القول بأن منطق الثورة يفرض علينا في الجزائر أن نقوم بأكثر مما قمنا به حتى الآن، وإن كنت لا أعرف ما الذي يمكن أن نضيفه على وجه التحديد، خصوصا وليس سرّا أن عراقيل بعض الأشقاء أكثر من عراقيل الأعداء.
ولن أقول أكثر، فما فينا يكفينا، وحجم المرارة عند الأشقاء في غزة لا يحتمل المزيد، لكن الثورة الجزائرية تثبت بأن النصر هو دائما للشعوب، مهما كانت التضحيات.