خطوة ميدانية سعودية لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة/رامي الشاعر

تستضيف المملكة العربية السعودية منذ يوم أمس الأربعاء، 30 أكتوبر، اجتماعا رفيع المستوى في سياق مبادرة “التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين” الخاصة بتسوية الصراع العربي الإسرائيلي.

ويشارك في الاجتماع ممثلون عن 88 دولة إضافة إلى المنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة، وقد دعيت إلى الاجتماع، بطبيعة الحال، روسيا، بوصفها أحد أركان الرباعية الدولية لتسوية القضية الفلسطينية (الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة)، وبوصفها أحد أهم مناصري القضية الفلسطينية، والمدافعين عن حل الدولتين.

ويستمر الاجتماع في الرياض يومين، ويضم مجموعة الاتصال الوزارية لجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى النرويج، ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين “أونروا”، ويستهدف تقديم جدول زمني محدد للشروع في إقامة دولة فلسطينية “تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل”، وتنفيذ حل الدولتين بدعم من الجهود الأممية ومساعي السلام لجميع الدول حول العالم، وإنهاء الاحتلال.

وكان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان قد أعلن، في سبتمبر الماضي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن إطلاق “التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين”، بالشراكة مع الدول العربية والإسلامية إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والنرويج. وأعرب الوزير حينها عن عزم المملكة بذل قصارى الجهود لتحقيق مسار موثوق لا رجعة فيه سلام عادل وشامل، وحول الاجتماع المنعقد في الرياض قال إنه “سيركز على إيجاد مسارات عمل واقعية وعملية لتحقيق قيام حل الدولتين، حيث سيكون التركيز بالتأكيد على قيام الدولة الفلسطينية”.

وفي كلمته الافتتاحية أمام الحضور يوم أمس، قال وزير الخارجية السعودي إن أمن المنطقة “مرتبط ارتباطا كاملا بوجود حل للقضية الفلسطينية وقيام دولتها”. وأوضح أن ما تشهده المنطقة من تصعيد واستمرار للعدوان الإسرائيلي في غزة ولبنان، “يحتم على الجميع اتخاذ موقف حازم وفوري لوضع حد للجرائم التي ترتكبها إسرائيل”.

وأضاف بن فرحان أنه “لم يعد مجديا الاكتفاء بالإدانات والحلول الجزئية، خاصة أمام حجم المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ومضاعفة المستوطنات وتغيير الوضع التاريخي والقانوني للقدس الشريف، وتفشي خطاب الكراهية والتحريض”، مشيرا إلى أن ذلك كله يؤدي إلى “تقويض فرص تحقيق حل الدولتين، ويدفع نحو مزيد من العنف وعدم الاستقرار”.

وأكد الوزير السعودي على أن استمرار الإخفاق في إيجاد حل مستدام للصراع في الشرق الأوسط “سيكون له تداعيات خطيرة على السلم والأمن الدوليين، بما في ذلك نشر التطرف والإرهاب والهجرة غير الشرعية”، وجدد الوزير تأكيده على ضرورة وقف إطلاق النار الفوري والإفراج عن الرهائن والمحتجزين وتفعيل آليات المحاسبة وإنهاء سياسات الإفلات من العقاب والمعايير المزدوجة، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق.

وجدد بن فرحان دعم السعودية الكامل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى “أونروا”، مؤكدا على أهمية دورها الحيوي، لا سيما في ظل الممارسات الإسرائيلية، التي تعرّض عملها والعمل الإنساني ككل في كافة الأراضي الفلسطينية للانهيار.

من جانبه دعا المفوض العام للوكالة فيليب لازاريني إلى “إيجاد حلول طويلة المدى من أجل تحقيق السلام والأمن في دولة فلسطين”، وأضاف أن “الأراضي الفلسطينية المحتلة تعاني من صراعات عديدة وعنف متكرر، خاصة في الضفة الغربية”. وحث لازاريني على “تضافر الجهود لإنهاء العداء ضد فلسطين”، مضيفا أن “غزة تعاني من تصعيدات عنيفة، حيث يرقد أكثر من مليوني شخص تحت الأنقاض”، وأكد على ضرورة إنهاء الأزمة.

عودة إلى العنوان أعلاه “خطوة ميدانية سعودية لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة” فإن ما قصدته من استخدام مصطلح “ميداني”، هو أن الأوضاع بالفعل، وكما تفضل الأمير فيصل بن فرحان، لم يعد يحتمل الاكتفاء بمزيد من “الإدانات والحلول الجزئية”، أمام حجم المآسي التي نراها ويراها العالم جهاراً نهاراً على شاشات التلفزيون وفي وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تعد تكفي أي إدانات أو شجب أمام مضاعفة العدو الصهيوني للمستوطنات وتغيير الوضع التاريخي والقانوني للقدس الشريف، وتفشي خطاب الكراهية والتحريض داخل إسرائيل ومن أفواه مجرمي الحرب وزعماء العصابات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، في أكثر حكومات إسرائيل إرهاباً منذ قيام الدولة العبرية.

لقد تمادت العصابة الحاكمة لإسرائيل مؤخراً بمطالبتهم سكان مدينة بعلبك الأثرية اللبنانية بإخلاء المدينة، وهي مدينة يبلغ تعداد سكانها نحو النصف مليون نسمة. وليس لدي ما أقول ولا تستطيع أي كلمات أن تعبّر عن مدى البشاعة والوحشية التي يرتكب بها جيش “الدفاع” الإسرائيلي جرائم الحرب يومياً في قطاع غزة، والحصار الذي يفرضه عليه، والذي لا يقارن في التاريخ سوى بحصار لينينغراد السوفيتية أثناء الحرب العالمية الثانية من قبل الفاشية الألمانية. بل إن حصار لينينغراد أهون مما يحدث في غزة اليوم، التي يرتكب بحقها أفظع الجرائم الإنسانية على الإطلاق ضد 2 مليون إنسان على مرأى ومسمع من جميع العالم، فيما أصبح من الواضح أن عصابة تل أبيب وأسيادها في البيت الأبيض الأمريكي يضربون بعرض الحائط بكل المواثيق الدولية والقوانين الإنسانية وحتى الفطرة السليمة لبني الإنسان كنوع متفرد ومتميز بين الكائنات الحية على كوكب الأرض.

أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل قد أدركت فشل المشروع الصهيوني في تصفية القضية الفلسطينية وضم جميع الأراضي الفلسطينية تحت مظلة وهم “الدولة الواحدة” بكل الطرق والذرائع والألاعيب والحيل، ولم يعد أمامهم سوى أداة الإبادة الجماعية والتصفية العرقية للشعب الفلسطيني الحر الأبيّ المناضل ذي العزة والكرامة، والذي يقف شامخاً بمعوله وجاروفه متجذّراً في أرضه لا ولن يتركها.

يأتي ذلك بالتوازي مع تناقضين صارخين للغرب في مولدوفا وجورجيا، حيث تدخل الغرب، ودميته المولدوفية مايا ساندو، في استفتاء انضمام مولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي، ومنعوا نصف مليون ناخب داخل روسيا من الإدلاء بأصواتهم (طبعوا 10 آلاف بطاقة اقتراع لروسيا وفتحوا مركزي اقتراع فقط على الأراضي الروسية)، وأطلقوا كل الإمكانات للناخبين المولدوفيين في الاتحاد الأوروبي، وتفيد تقارير بأن تزويرا شاب هذا الاستفتاء وما صحبه من انتخابات على رئاسة الجمهورية. في الوقت نفسه تعالت الأصوات بشأن الانتخابات الجورجية البرلمانية النزيهة، حينما فاز بالأغلبية 54.2% حزب “الحلم الجورجي” الذي يريد استقلال وسيادة القرار الجورجي أمام رئيسة الجمهورية، (التي تحمل جواز سفر فرنسي!)، سالومي زورابيشفيلي، التي دعت إلى نزول الناس إلى الشوارع، وتهدد البلاد بسيناريو “ميدان” الانقلاب الأوكراني لعام 2014، والذي كان سبباً في كل ما حدث بأوكرانيا بعد ذلك.

وبعدما رفضت الإدارة الأمريكية منح الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فلاديمير زيلينسكي صواريخ “توماهوك” (التي يبلغ مداها 1500 ميل، أكثر بسبعة أضعاف مدى أنظمة الصواريخ بعيدة المدى “أتاكمس” التي حصلت أوكرانيا على عدد محدود منها هذا العام)، وهو ما يوضح إدراك الولايات المتحدة فشل النظام الأوكراني النازي في عملية استنزاف روسيا، الأمر الذي ينذر بانزلاق الأمور إلى “مواجهة مباشرة ما بين حلف (الناتو) وروسيا” إذا ما استمر مسار الأزمة الأوكرانية على النحو الحالي، حيث تتقدم روسيا بمعدلات مضاعفة على الجبهة، ولم يتبق سوى أشهر معدودات على الوصول إلى نهر الدنيبر.

لهذا السبب يراهن الغرب على أنشطته الاستخباراتية لافتعال أزمات داخلية في روسيا تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في البلاد، ويحاولون قدر استطاعتهم “خنق” الاقتصاد الروسي، إلا أن ما نراه على الأرض وما أسفرت عنه قمة “بريكس” الأخيرة في قازان أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن الغرب هو من سجن وحاصر نفسه، بينما التف الجنوب العالمي في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية حول الصين والهند وروسيا لا لإلحاق الضرر بالغرب أو المجتمع الدولي أو حتى بالولايات المتحدة الأمريكية، وإنما لكبح جماح الهيمنة والسيطرة والإملاءات والعقوبات والحصار أحادي الجانب الذي تفرضه المؤسسات المالية الغربية على من “يخرج” عما يسمونه “الإجماع العالمي”، و”المجتمع الدولي” و”الديمقراطية والحرية” كما يفسرها الغرب، دون أن يدرك هؤلاء أنهم أقلية، وأن الحضارة الغربية والتكنولوجيا الغربية وكل ما نتمتع به جميعاً من منجزات في شتى المجالات هي في واقع الأمر منجزات الحضارة البشرية العامة، التي يتعيّن علينا جميعاً الحفاظ عليها والبحث عن توازن مقبول للجميع يحقق العدالة والمساواة والتعددية القطبية.

عودة إلى مبادرة المملكة العربية السعودية، والتي أود التأكيد بصددها أن لقاء “بريكس” هو الآخر وضع المعالم الواضحة على أن الغالبية الساحقة من سكان العالم أكدت على قرارها الانتقال إلى أجواء دولية جديدة، وتفعيل قوانين الشرعية الدولية المتجسدة في ميثاق الأمم المتحدة، التي تضمن الحرية والعدالة في بناء العلاقات الدولية، وتأسيس نظام اقتصادي عادل، دون لجوء البعض إلى استخدامه أو استخدام أي عملة كسلاح ضد الآخرين خدمة لمصالح تلك الدولة أو هاتيك.

لقد اختارت المملكة العربية السعودية التوقيت المناسب، لا لمساعدة الشعبين الفلسطيني واللبناني فحسب، بل لوعي القيادة السياسية في المملكة بأهمية وضرورة وحتمية دور الشرق الأوسط والدول العربية والإسلامية في تسوية القضية الفلسطينية وإفشال المخططات الصهيونية الخبيثة التي قد تفضي لا قدر الله إلى إشعال حرب إقليمية شاملة، تؤدي بدورها إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة.

فمع تصاعد التوتر في الشرق الأوسط، وكلما ازدادت وتيرة الجرائم ضد فلسطين ولبنان، كلما ازداد احتقان المواطنين في العالمين العربي والإسلامي، وبغض النظر عن قدرة الحكومات والقيادات والجيوش على الحفاظ على ضبط النفس، والحكمة والرشادة، إلا أن للصبر حدود. وإذا ما تمادت الدولة الصغيرة الناشئة إسرائيل فيما تظن أنه “حقها في الدفاع عن وجودها”، فمن الممكن أن تنفجر الأمور وتتجاوز خط اللارجعة، وهو ما سيكون كارثة على البشرية جمعاء، وأول من سيهزم وربما سيمحى من على وجه الأرض، ستكون “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط: إسرائيل. لذلك فالحديث موجه لا للقيادة الإسرائيلية وحدها، وإنما أيضاً، وبالدرجة الأولى، إلى الشعب الإسرائيلي، إذا ما رغب في السلام والحياة الآمنة في هذه المنطقة.

أنا على يقين من أن روسيا ومجموعة “بريكس” سيتمكنون من تجنب سيناريو الحرب العالمية الثالثة المخيف، وكتبت الفقرة السابقة فقط من باب التوضيح لا أكثر، للتنبيه إلى أن نشوب حرب إقليمية وارد جداً في ظل الحماقات الإسرائيلية، وهو ما يمكن تجنبه من خلال إدراك إدارة البيت الأبيض لخطورة الوضع، وأيضاً من خلال تبني عقيدة عربية حازمة من جانبنا تضع الولايات المتحدة أمام مسؤوليتها في “حماية” إسرائيل من الدمار.

ولدرء هذا الخطر، وكما اشترط وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في كلمته الافتتاحية أمام التحالف، فإنه للمضي قدما في قضية التطبيع مع إسرائيل، لا بد من تنفيذ حل الدولتين، وهو ما يستهدفه “التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين” المجتمع في الرياض اليوم وأمس، لا سيما أن دولاً كبيرة قد اعترفت بالدولة الفلسطينية، والمساعي جارية لاعتراف بقية الدول.

وسنتابع الخطوة الميدانية الثانية لإنقاذ فلسطين ولبنان والوضع في الشرق الأوسط عامة بانعقاد القمة العربية الإسلامية المزمعة في شهر يناير المقبل بدعوة من المملكة العربية السعودية.

الكاتب والمحلل السياسي