هل آنَ وقتُ رحيل “حماس” من الدوحة؟ وما هي الوجهة الأكثر ترجيحًا بالنّسبة لنا؟ ولماذا يأمُرُ بايدن وتابعه بلينكن بهذه الخطوة الآن؟ ولماذا لا تستطيع قطر الرّفض؟
10 نوفمبر 2024، 08:09 صباحًا
عبد الباري عطوان
لنبدأ من الآخِر ونقول إنّ حركة المُقاومة الإسلاميّة الفِلسطينيّة “حماس” لعبت دورًا رئيسيًّا في هزيمة إدارة الرئيس جو بايدن ومُرشّحتها كامالا هاريس والحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة الأمريكيّة يوم الثلاثاء الماضي، ولهذا إقدام هذه الإدارة المهزومة على مُحاولةِ الثّأر من الحركة، والرّد على عِقابها لها، وخاصَّةً بتحريضِ الناخبين العرب والمُسلمين والأفارقة على عدم التّصويت للمُرشّحين الدّيمقراطيين، والخطوة الأولى في هذا الرّد، الضّغوط المُتصاعدة على دولة قطر بإغلاق مكتب الحركة في الدوحة، وإبعاد قيادة الخارج الموجودة فيها.
ما أغضب إدارة بايدن، وأنتوني بلينكن مُهندس سياستها الخارجيّة تحديدًا، رفض قيادة “حماس” لكُلّ الضّغوط الأمريكيّة التي مارستها الإدارة عبر “الحُلفاء” المِصريين والقطريين على حركة “حماس” للقُبول بمُقترحاتها الأخيرة بالقُبول بوقف إطلاق نار مُؤقّت لعدّة أيّام، والإفراج عن سبعة أسرى إسرائيليين، بما يؤدّي إلى تحسين فُرص فوز مُرشّحتها، أي كامالا هاريس، ولكنّ قيادة الحركة، ووفاءً لإرث يحيى السنوار شهيد الأُمّتين العربيّة والإسلاميّة، بالإصرار على التمسّك بكُلّ الشّروط القديمة المُتجدّدة، بالانسحاب الكامل من قطاع غزة، بما في ذلك محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، وممر نتساريم وسط القطاع، والوقف الشّامل والدّائم لإطلاق النّار، وإعادة الإعمار للقطاع فورًا.
وكالة أنباء “رويترز” العالمية أكٍدت ونقلًا عن مسؤولٍ أمريكيٍّ كبير في إدارة بايدن أمس الجمعة قوله “إنّ حُكومته أبلغت دولة قطر بأنّ وجود حركة “حماس” على أراضيها لم يعد مقبولًا، بعد أنْ رفضت الحركة في الجولةِ الأخيرة من المُفاوضات قبل أسبوعين في الدوحة، المُقترح الأمريكي بوقفٍ مُؤقّتٍ لإطلاق النّار يُشكّل طوق النّجاة للحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسيّة.
دولة قطر لا تستطيع رفض هذا الطّلب الأمريكيّ، وحركة “حماس” تُدرك ذلك جيّدًا لسببين رئيسيين:
الأوّل: التّصريح الذي أدلى به الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، والشّريك الرئيسيّ الذي يُمثّل بلاده في المُفاوضات المذكورة مُنذ بدئها قبل 13 شهرًا، وقال فيه “إنّ مكتب حماس موجودٌ في الدوحة للسّماح بالمُشاركة في المُفاوضات، وطالما ظلّت قناة التّواصل هذه مُفيدة، فإنّها ستسمح ببقاء هذا المكتب مفتوحًا”، ممّا يعني أنه سيُغلق بعد انهيار هذه المُفاوضات، وعدم الفائدة من استِمرار وجود هذا المكتب وأعضائه على الأرض القطريّة.
الثاني: دولة قطر التي حصلت على امتيازاتِ العُضويّة شِبه الكاملة في حلف الناتو وتفرّدت بتحالفٍ استراتيجيٍّ مع الولايات المتحدة، لا يُمكن أن تُضحّي بهذه الوضعيّة الاستثنائيّة التي لم تحظ بها أي دولة عربيّة أو إسلامية، أو صديقة أمريكا خارج حلف النّاتو، مُضافًا إلى ذلك أنها دولة صغيرة، وتُوجد على أرضها واحدة من أضخم القواعد الأمريكيّة في العالم (العيديد) ولهذا لا يُمكن أن تقول “لا” وتشقّ عصا الطّاعة على أمريكا.
أذكر أنّ الزميل أحمد منصور أجرى مُقابلة مع الشيخ حمد بن جاسم وزير خارجيّة قطر عام 1996 على قناة “الجزيرة”، وكان الشيخ حمد بن خليفة تولّى الحُكم خلفًا لوالده بعد إقصائه، وسأل ضيفه عن وجود القاعدة (العيديد) على الأراضي القطريّة، وما إذا كانت الحُكومة القطريّة لها سُلطةٌ عليها، فردّ الشيخ بن جاسم بكُلّ صراحةٍ وجُرأةٍ بالقول ما معناه، “أي سُلطة التي تتحدّث عنها، هذه قاعدة عسكريّة لأمريكا الدّولة الأعظم في العالم، ومن نحنُ حتّى تكون لنا سُلطةٌ عليها”، وأعترف بأنّ قطر ليس لها رأيٌ في هذه المسألة (تردّد أنها أنفقت 60 مليار دولار لتغطية نفقات بنائها باعتبارها تُوفّر الحماية لها)، وقال الشيخ بن جاسم “نحنُ لا نعرف ماذا يجري في هذه القاعدة”، والمُقابلة موجودةٌ في أرشيف “الجزيرة”.
هُناك سُؤالان يستدعيان طرحهما في هذه العُجالة: الأوّل هو عن رد فعل “حماس” في حال إبلاغ قادتها الموجودين في الدوحة بحزم حقائبهم والرّحيل، أمّا الثاني فهو يتعلّق بالخِيارات المطروحة والبدائل المُتاحة.
بالنّسبة للسّؤال الأوّل، عبّر جميع أعضاء المكتب السياسي لحركة “حماس” المُقيمين في الدوحة عن توقّعهم لصُدور قرار الإبعاد في أيّ وقت، خُصوصًا بعد إعلان الدوحة اليوم انسحابها من دور الوسيط الرئيسي في التوصّل إلى اتّفاقٍ لوقف إطلاق النّار في غزة والإفراج عن الرّهائن، وأبلغت حماس أنّ مكتبها في الدوحة “لم يعد يخدم الغرض منه”، ووضع أعضاء حماس استراتيجيّةً كاملةً للتّعاطي معه، وإن كانوا قد أكّدوا أنه لم تتم حتّى الآن مُفاتحة الدّولة القطريّة لهم، أو مُطالبتهم بالمُغادرة، وكانوا في قمّة الكِبر والمسؤوليّة، وقالوا “إنّنا لا يُمكن أن نُنكر فضل قطر، والعلاقة معها لا ينبغي ولا يتوجّب أن تصل الأمور إلى هذه المرحلة، أي طلب المُغادرة، وسنُغادر الدوحة من تلقاءِ أنفسنا”، أي لا خلاف ولا صِدام، وذكروا بمقولة السيّد خالد مشعل قائد حماس في الخارج بأنّ “أرض الله واسعة”.
أمّا الإجابة على السّؤال الثاني، أي حول الوجهة البديلة للدوحة، فيُمكن القول إنّ هُناك ست عواصم ومدن مُحتملة، إسطنبول صنعاء طهران الجزائر بغداد وبيروت.
في ظِل فوز دونالد ترامب كرئيسٍ للولايات المتحدة، وباعتباره صديقًا للرئيس رجب طيّب أردوغان، فإنّ الانتقال إلى إسطنبول ربّما يكون خِيارًا صعبًا ومحفوفًا بالمخاطر، ومرهونًا بشُروطٍ وقيود على الحركة، والشّيء نفسه يُقال عن بغداد أيضًا، ويُمكن استبعاد بيروت في الوقتِ الرّاهن في ظِل تصاعُد حرب الإبادة الإسرائيليّة فيها، أمّا إيران، ولا نعتقد أنّها ستتردّد مُطلقًا في استضافة قادة حماس على أرضها إذا رغبوا بذلك، حيثُ أنّها دعمت المُقاومة ووقفت إلى جانبها دائمًا، ولهذا لم يتبقّ إلّا عاصمتان: الجزائر وصنعاء.
الجزائر رحّبت دائمًا بكُلّ فِلسطيني مُقاوم يلجأ إليها، بغضّ النّظر عن الأيديولوجيّة السياسيّة والعسكريّة التي يعتنقها، وكانت تجمَع أنصار حركة فتح وأبا نضال خصمها اللّدود على أرضها، والحال نفسه يُقال عن الفصائل الأُخرى، وهُناك ممثّل رسمي لحركة “حماس” في عاصمتها يحظى بكُلّ الاحترام والتقدير وحُريّة الحركة، واستضاف الرئيس عبد المجيد تبون في قصر الصنوبر الشهيد إسماعيل هنية جنبًا إلى جنب مع الرئيس الفِلسطيني محمود عبّاس أثناء مُحاولته تحقيق المُصالحة الفِلسطينيّة الوطنيّة، والتزمت كُلّ الحُكومات الجزائريّة بمقولة الزعيم المرحوم هواري بومدين نحنُ مع فِلسطين ظالمةً أو مظلومة”.
أمّا صنعاء، فكانت أوّل عاصمة تُبادر رسميًّا بتوجيهِ دعوةٍ إلى قيادة “حماس” بالانتقال إلى اليمن فورًا، وقال السيّد عبد الملك الحوثي في رسالةٍ مُوجّهةٍ إليها “أهلًا بكُم وسط أهلكم في اليمن، وفي أيّ وقتٍ ودُونَ طرق الأبواب، ومُواصلة الجهاد دُونَ قُيود”.
ثُقل “حماس” الرئيسي موجودٌ في الدّاخل الفِلسطيني، واستشهاد القائد السنوار في ملحمة مُقاومة بُطوليّة، وصُمود مُقاتليها الأبطال أكثر من 13 شهرًا ألحقوا خِلالها خسائر ضخمة في صُفوف العدو، أبرزها تدمير هيبته، وفضَح أُسطورة جيشه، وتفوّق أجهزة مُخابراته، كُل هذا يُؤكّد أنّ إغلاق مكتبها في قطر لن يكون له إلّا تأثير محدود جدًّا، بل ربّما يُعطي نتائج عكسيّة.
خُروج أعضاء القيادة الخارجيّة لحركة “حماس” من الدوحة حدث سيكون خسارة كبيرة لدولة قطر، وللولايات المتحدة الأمريكيّة، فدولة قطر ستفقد، قناتها “الجزيرة” ورقة سياسيّة وغطاء وطنيا على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة، أعطتها دورًا سياسيًّا ودبلوماسيًّا على السّاحتين العربيّة والإسلاميّة، والعالميّة بالتّالي، ومثلما ندمت إسرائيل والولايات المتحدة أشدّ النّدم باغتِيال السيّد حسن نصر الله ورفاقه، سيكون ندمها بالقدر نفسه لاغتيال الشّهيد السنوار وإخراج قيادة “حماس” الخارج من الدوحة لأسبابٍ ربّما نعود لشرحها لاحقًا.
محور المُقاومة، سواء بقيادته أو بأذرعه سيظلّ الحاضنة الحنون لحركة “حماس” وكُل فصائل المُقاومة الفِلسطينيّة والعربيّة الأُخرى، وباتت المُواجهة الكُبرى وشيكةً جدًّا، ومثلما انهزمت أمريكا في أفغانستان والعِراق وقبلهما فيتنام ستُهزَم في غزة والضفّة ولبنان واليمن.. والأيّام بيننا.