هل أصبح قدر أمة “محمد” أن تتباهى بأمجاد الجاهلية؟/ دكتور محيي الدين عميمور
29 نوفمبر 2024، 13:53 مساءً
كنت دائما أشعر بالنفور ممن درجنا يوما على أن نطلق عليهم لقب “جنرالات المقاهي”، ممن كانوا يجلسون بعيدا عن ميدان القتال ويتبارون في اجترار الآراء التي تحكم على أداء المقاتلين في ميدان المعارك النبيلة التي تخوضها طلائع من أبناء الأمة.
واليوم، وأنا أتابع ما يعيشه الوطن العربي من إحباط، والذي أراه أشد مرارة مما عرفناه إثر هزيمة 1967، أجرؤ، ولو بتردّدٍ يعلم الله شدته، على القيام بمثل ما نددتُ به دوما، مُقرّا ومعترفا بعجزي عن تحليل كل ما حدث، بحكم أنني، كالأغلبية الساحقة من أبناء أمتنا، أجهل المعطيات الأساسية التي قادت إلى قبول الهدنة اللبنانية.
غير أن سيل التعليقات التي تابعتُها سوّلت لي أن أعتبر نفسي جالسا على هضبة بعيدة بما يُمكنني من رؤية بعض ما يمكن أن يغيب عمن يعيشون في الميدان، تماما كما يمكن أن يحدث مع جالس في مدرجات ملعب تلتهب أرضيته بمعركة ساخنة.
وبداية، أطرح تصوري لما حدث أيا كانت نسبة الخطأ فيه أو حجم التجاوز فيما أرتئيه، بعد أن استُهلك رصيد دموعي فلم يبق منه قطرة واحدة، وأصبحت العيون كرات ملتهبة لا ملجأ لنظراتها إلا السماء، أما القلوب فقد تكسرت فيها النصال على النصال، وأصبحت لقيْمات يحاول بها المرء أن يقيم صلبه معاناة يومية مريرة.
وأعرف أن أبسط ما يمكن أن يعلق به كثيرون على ما يمكن أن أقوله هو اتهامي بالانهزامية، لكنني أعتبر أن هذا هو قدر المثقف الوطني الذي لا يملك منه فرارا، فأنا ممن يرون أن من أهم أسباب هزائمنا هو أننا كنا ضحية للخدَر والغرور الذي زرعته فينا انتصارات جزئية أعمت عيوننا عن الصورة الكاملة لمعطيات الصراع من العدوّ.
ولعل أهازيجنا بالانتصار في مرحلة العدوان الثلاثي ما زالت في الأذهان.
ولقد قلت حرفيا في حديث سابق، ما عرضني لكثير من النقد الحاد الذي تفهمته بدون أن أستسلم لاستنتاجاته: “أتصور أن قائد كتاب القسام لم يُخطِر حزب الله بانطلاقته حرصا منه على السرية المطلقة التي تحقق المفاجأة وتضمن النجاح، وثبت فيما بعد أنه كان على حق في ذلك، بعد أن أثبتت التطورات وجود اختراقات قادت إلى عملية “البيجر”، ثم إلى اغتيال الشهيد حسن نصر الله وبعض رفاقه.
وبالتالي لم يكن قائد طوفان الأقصى، في تصوري، ينتظر أن يسارع حزب الله في الأيام الأولى لقنبلة الكيان الصهيوني بما يُخفف الضغط على غزة، لأن ذلك كان سيؤلب العالم كله ضد المقاومة الفلسطينية حيث سيؤكد مزاعم إسرائيل التي ظلت تقدم نفسها كحمل وديع يحيط به الذئاب، وقد يحرم المقاومة من تضامن شعوب الشمال.
لكنني كنت أتصور أيضا أن الشهيد العظيم كان ينتظر أن تضع قوات حزب الله ثقلها في المعركة بعد فترة ترقب حذر لكل التطورات، وبحيث لا تتكرر مأساة سيناء، عندما وقفت القوات المصرية الظافرة “وقفة تعبوية”، كانت وقفة زمنية محدودة جدا ستواصل قوات العبور بعدها تحركها نحو مضايق سيناء، منتهزة أن العدوّ ما زال تحت تأثير الصدمة، وهو ما سمعته شخصيا من الفريق سعد الدين الشاذلي.
وما لم يكن معروفا آنذاك هو أن السادات طمأن كيسنجر في 7 أكتوبر، وبالتالي إسرائيل، عن عدم تطوير الهجوم نحو الشرق، وهنا ركزت إسرائيل كل قواها لسحق التحرك السوري في الجولان لتعود بعد ذلك إلى سيناء، وكان ذلك من أسباب إجهاض نتائج أكتوبر العظيم”.
وكان هذا، في تصور قائد المقاومة في غزة العظيمة، درسا لا بد أن الشهيد حسن نصر الله قد وعاه جيدا، وبالتالي فإنه كان سيتحرك بعد فترة زمنية تمت دراسة تطوراتها لكي يضع ثقله بجانب كتائب الأقصى، حيث أن قصة الثيران الثلاثة يعرفها حتى الأطفال في المدارس الابتدائية، ووحشية الكيان الصهيوني الحيوانية ليست ممارسات تمت في جنح الظلام، وكنت، بكل تواضع، حذرت من أن إسرائيل ستتصرف بشراسة كوحش جريح، لأن طوفان الأقصى كشف عورتها ككيان مفتعل خلق لنفسه وهم القوة الهائلة التي لا تُقهر.
والسؤال الذي أطرحه يستكمل السؤال الذي سبق أن طرحته حول حسابات الشهيد يحيى السنوار، ومضمونه هو محاولة معرفة أسباب تأخر حزب الله في التحرك، وهو يعرف أن مصير الثور الأسود آتٍ لا ريب فيه.
وأنا أعتمد هنا على تحليل متميز للرفيق بسام أبو شريف، قال فيه بكل ثقة أن الأمريكيين: “ابتداء من وزارة الدفاع وضباطها والبيت الأبيض ومسئوليه ومجلس الأمن القومي ومسئوليه تأكدوا إن حزب الله لديه القدرة على التصدي لإسرائيل ومنعها من التقدم وإلحاق الخسائر الباهظة بها كما شاهد كل الناس على شاشات التلفزيون والنتائج التي أدت إلى فشل “نتنياهو” فشلا ذريعا في تحقيق مكسب واحد أو احتلال قرية في جنوب لبنان ليقول انه انتصر في المعركة، وأنه سيفرض شروطه على المقاومة اللبنانية أو من خلالها على الحكومة اللبنانية”.
وأتساءل هنا ثانية: ما هي العناصر الميدانية التي اعتمدت عليها قيادة حزب الله لتأخير دخوله في معركة كسر عظام الكيان الصهيوني، إلى أن أصيب بعدة ضربات متتالية، كان من أهمها اغتيال الشيخ حسن نصر الله؟.
ولقد توقفت طويلا عند تعليق للأخ بنموسى محمد نجيب يقول: “عندما شعر القادة الصهاينة بقرب انهيار دولتهم بفضل أشاوس المقاومة الصادقة، أرادوا إيقاف جحيم حزب الله، وبسرعة مذهلة اصطف الكل معهم، فتم توقيع هدنة بأسرع من البرق، أما إخواننا المستضعفون في غزة فقد جف ريقهم في طلب إيقاف العدوان الصهيوني عليهم دون أن يولي أحد أهمية لاستغاثاتهم…..الحقيقة المرة أن الرابح الحقيقي من اتفاق الصهاينة مع لبنان هم الصهاينة دون سواهم، فخلال الـ 60 يوما التي فرضوها لخروجهم التدريجي من لبنان، سيزرعون عملاء و جواسيس لهم على مهلهم …فذاك ديدانهم “
وعندما قرأت هذا التعليق أحسست أن اعتبار الهدنة اللبنانية انتصارا على الكيان الصهيوني هو أمر لا أستطيع التسليم به بسهولة، وأتفق هنا مع عبد الباري عطوان في زفرته وهو يتساءل: “لماذا هذا التسرّع يا قيادة حزب الله؟ وأين وصيّة سيّد الشهداء نصر الله في الحِفاظ على وحدة السّاحات ودعم غزة حتّى النّصر؟”.
هل السبب في “التباطؤ” غامض الملامح الذي أعقبه “تسرع” غير واضح الأسباب هو أن القرار النهائي لم يكن في يَدِ قيادة حزب الله، بالإضافة إلى أن روسيا اليوم ليس روسيا “خروتشوف” 1956، وأن الصين مشغولة بأهدافها الاقتصادية وعينها على “تايوان”، وأن آردوغان لم يعُدِ ذلك الذي كنّا نظنه، وأن إيران تعيش ما وراء سقوط الطائرة الرئاسية وتداعياته.
وأنا أعرف أن تساؤلات كهذه ستكون الأغنية المفضلة للمتخاذلين في الوطن العربي، برغم أنها لا تعفيهم من أوزار الخيانة المؤكدة، وهم الذين دعموا تصلّب وعدوانية الكيان الصهيوني بالأغذية والوقود بل وبالعناصر البشرية، لكنها تساؤلات رأيتها ضرورية قبل تسلّم “دونالد ترامب” لمقاليد البيت الأبيض، خصوصا وأن وزير الخارجية الأمريكي الحالي راح يختتم أيامه بمحاولة ابتزاز من يحرصون على حماية القرار المستقل للمقاومة الفلسطينية، بممارسة تهديدات معلنة أو مبطنة.
لكن الإجابة على هذه التساؤلات هي التي ستُحدّدُ التصرف الذي يتحتم القيام به على المستوى العربي والإسلاميّ، حتى لا نصبح نهائيّا عُرّة التاريخ، كما كان ملوك الطوائف، وربما أحطّ من ذلك بكثير.
إننا نعيش أسوأ مراحل العروبة والإسلام، بعد أن أصبح الاسترشاد برجولة “أبو جهل” يطغى على التذكير ببطولة “المعتصم”، واسترجاع نخوة أهل الجاهلية يكاد يُنسينا مراحل مشرقة في حياة الوطن والأمة.
ومن هنا فإن علينا، في تصوري، أن نتصرف على أساس أننا خسرنا معركة ومن هنا يبقى علينا أن نعمل لنكسب الحرب، كما حدث مع الحروب الصليبية…. أيام صلاح الدين.
وخطوتنا الأولى هي مواجهة الطابور الخامس في كل المستويات….أقول …كل المستويات.
كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق
ندرك جيدا أنه لا يستطيع الجميع دفع ثمن تصفح الصحف في الوقت الحالي، ولهذا قررنا إبقاء صحيفتنا الإلكترونية “راي اليوم” مفتوحة للجميع؛ وللاستمرار في القراءة مجانا نتمنى عليكم دعمنا ماليا للاستمرار والمحافظة على استقلاليتنا، وشكرا للجميع للدعم: