ألا نخجل من ترديد أغنية مُمِلّة ملّ منها الملل؟/ دكتور محيي الدين عميمور
4 ديسمبر 2024، 18:14 مساءً
التهديد الذي أطلقه دونالد ترامب، ربما إكراما للمدام التي أرسلها “ناتنياهو” للعشاء معه وتسوّل دعمه، كان جديرا ببلطجي من الدرجة العاشرة.
كان التهديد أن على “حماس” أن تُطلق من أسماهم “الأسرى” في حدود 50 يوما، وهي المدة الباقية قبل تنصيبه كرئيس، وإلا فإن “الشرق الأوسط سيشهد مشكلة خطيرة”، حسب النص الذي أوردته “رأي اليوم”.
وغلبني الضحك من غباء “الكاو بوي” رغم الظروف المأساوية التي تصعب فيها حتى الابتسامة الخجولة، فقد أدركت تستره على المقصود الحقيقي بالتهديد، حيث أن المقاومة الفلسطينية العظيمة لم يعُدْ لديها ما تخسره بعد الدمار الرهيب الذي عرفته غزة على وجه التحديد، والأعداد الهائلة لضحايا عملية التطهير الرقي والإبادة الجماعية التي مارسها الكيان الصهيوني، بدعم مطلق لا نهائي من قيادات الشمال النصراني- العبري، وتواطؤ نذلٍ من دول عربية وإسلامية، لعله سبب تخاذل روسيا والصين.
واستعمال كلمتي “الشرق الأوسط” في التهديد لا يمكن إلا أن يعني شيئا واحدا يدركه أبسط مواطن يتابع الأخبار، وأتصور أن راعي البقر الأمريكي أراد أن يبعث برسالة واضحة لعدد مُعيّن من قيادات دول المنطقة، مضمونها أنها ستفقد عروشها إذا لم تضغط بكل قوة على “حماس” لتتخلى عن الورقة الرابحة التي ما زالت تُمسك بها ضد الكيان الصهيوني.
ولعل التهديد كان موجها أولا لدول تحتضن عناصر المقاومة ثم لدولٍ قد تحتضن بعض قيادات حماس، علما بأن هناك دولا “شقيقة” تحمل من العداء للمقاومة الفلسطينية ما يفوق عداء الصهاينة لها، ربما لمجرد أن المقاومة متمسكة بالصفة الإسلامية.
ولعل ” ترامب” أراد تكرار موقف طهران في بداية الثمانينيات، حيث ظلت تحتفظ بأسرى السفارة الأمريكية إلى أن انقضت الدقائق الأخيرة من ولاية “جيمي كارتر”، فتم إطلاق الأسرى في الدقائق الأولى لولاية “رونالد ريغان”، وهكذا بدا أن له الفضل الأكبر في تحقيق العملية.
ولو كان عند بعض القيادات العربية عقل رشيد وتفكير حكيم لأدركت أن ما يطلبه ترامب اليوم قد يعطيها فرصة المناورة للضغط عليه ليتحقق له ما تحقق قبله للرئيس ريغان.
فالرئيس الجديد القديم هو أساسا رجل أعمال، أي أنه تاجر يراعي موازين الربح والخسارة في كل تعاملاته، ويستعمل أسلوب لاعب القمار في “الهفّ” أو “الفهلوة” ليقنع من أمامه بأنه يمسك في يده بكل الأوراق الرابحة، وعهدته الجديدة تعطي القيادات العربية التي خبرت التعامل معه فرصة مواجهته بنفس أسلوبه، ووقفة رجولةٍ جماعية يمكن أن تقنعه بمراجعة حساباته، فهو في حاجة لقواعده العسكرية والبترولية والبشرية في المنطقة، ولا يستطيع تكرار عملية غزو أفغانستان أو العراق، ومركبات صناعة الأسلحة ومؤسسات النفط لن تتركه يرتكب حماقة بوش الأب والابن على حدّ سواء، وشعوب الشمال يمكن أن تكرر وقفتها التي أنهت حرب فيتنام، وشعوب الجنوب قد تنتفض كما حدث في بداية العشرية الماضية لتكرر غضبة شمشون.
لكن هناك أمرا يجب أن يكون في الحسبان، وهو احتمال أن يكون من أهداف هذا التهديد الغبي استفزاز حماس، ودفعها إلى تصفية الرهائن جسديا بمنطق “عليّ وعلى أعدائي”، وهكذا يمكن إخماد صوت كل الشعوب المتعاطفة مع المقاومة الفلسطينية، وأن كنت على يقين من أن قيادة المقاومة أذكي من أن تقع في هذا الفخ.
وهنا يبدو لي أن هناك فرصة سانحة لن نخسر شيئا بانتهازها، وقد نحقق ما لم يحلم به أحد، إذا تحلت القيادات العربية المعنية بالرجولة وقبلت المجازفة، وردّت على الرئيس الأمريكي بهدوء يُحَمّله هو شخصيا مسؤولية استمرار حجز الأسرى، لأنه لم ينطق بكلمة واحدة تردع السفاح الإسرائيلي.
لكن يبدو أننا خبراء في إضاعة الفرص التاريخية، وهو ما أشرت له في أحاديث سابقة، ويذكرني اليوم بأمر يفرض عليّ إزعاج القارئ ببعض الاجترار.
فقد كنت تلقيت في يوليو 2023 دعوة كريمة لحضور المؤتمر القومي العربي الذي كانت ستحتضنه العاصمة اللبنانية نهاية الشهر، لكن ظروفا خاصة جعلتني أضطر إلى الاعتذار، وأحسست أن عليّ أن أقول، كتابيا، ما كنت أريد قوله في بيروت، وهكذا وجهت من خلال “رأي اليوم” رسالة مفتوحة للمؤتمر القومي العربي، كان مما جاء فيها ما يلي:-
طالبت منذ شهور وشهور بوقفة نقد ذاتي نواجه بها أنفسنا ونتعرف على أخطائنا ونقوم بإجراء التعديلات الضرورية لمواقف ثبت أنها لم تكن الطريق السليم لإنجاز “المشروع الحضاري القومي العربي” طبقا لما جاء في “أهداف المؤتمر القومي” (..).
ومن حقنا، كمثقفين، أن نرفع سقف المطالب الوطنية بغض النظر عن الالتزامات الدولية لبلداننا، وهنا فقط نكون جديرين بدور الريادة الذي يتحمله مثقف وطني يسبق زمانه ولا يجري وراءه عالةً على أحداثه.
ولن أستعرض كل ما هو معروف بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي، الذي تلقينا خلاله ضربات قاصمة منذ القرن الماضي، وتوالت النكسات في الرقص “الأهبل” بين “مدريد” و”فاس” الأولى وفاس الثانية، وتمخض الجبل فولد فأرا اسمه “حل الدولتين”، والذي كان وراءه الصحفي الأمريكي المخابراتي “فريدمان”، وبالتنسيق المؤكد مع الحلفاء التقليديين للكيان الصهيوني، تزامن مع “تفهّمٍ” عربي لا تخطئه البصيرة.
وحكاية الدولتين أصبحت أغنية ممجوجة ثقيلة الدم منذ رفضتها إسرائيل منذ البداية، لكن القيادات العربية ظلت تمضغها كعِلْكٍ التصق بفمٍ فقد أسنانه وجفّ لُعابه.
وقلت إن الضفة الغربية تتحول شيئا فشيئا، نتيجة سرطان المستوطنات، إلى أرخبيل من التجمعات العدوانية، بينما أصبحت غزة مجرد سجن كبير.
وهنا يأتي دور المؤتمر القومي العربي، والذي ينص قانونه على أنه “يعمل على صعيدٍ مستقلٍّ عن أجهزة الحكم”، بما في ذلك القيادة الفلسطينية بالطبع.
وقلت بأنني: أرى أن على المؤتمر القومي العربي أن يعلن اليوم سقوط فكرة “الدولتين”، ويطالب العالم كله، والقيادات العربية في المقدمة، باعتماد تكوين دولة واحدة متعددة الأديان والمذاهب، تتحول تدريجيا إلى واحة سلام في المنطقة وفي العالم.
وذكّرت في نفس الحديث بما كنت كتبته في الستينيات إثر هزيمة يونيو، مناديا بأن يكون الشعار الذي يجب أن نرفعه…. لا بقاء لدولة عنصرية تؤمن بالتوسع والغزو… ويكون البديل الذي نقدمه للعالم ولأنفسنا.. إقامة دولة فلسطينية تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود داخل إطار المحبة والإخاء، وتشكل لهذا العالم أرضا مقدسة وواحة سلام ومرفأ أمان.
شعارٌ يُعطي لشعوب العالم أجمع أغنية عاطفية من نوع ..” فلسطين !! أرض السلام ؟؟ حيث لا حروب ولا خصام، وحيث تتعانق الأديان .. ويجد كل خائف ومشرد أرض الأمان، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بإزالة الكيان الذي يزرع التعصب ويؤمن بالتوسع، ويشكل بممارساته بؤرة إثارة مستمرة للحقد والكره….ولا يتحقق ذلك إلا بإنهاء وجود دولة إسرائيل”.
وطرحت رأيي بشكل واضح على المؤتمر وقلت: هل يجرؤ المثقفون العرب على إعلان سقوط فكرة الدولتين، والمناداة بدولة واحدة، تواجه فكرة الدولة اليهودية العنصرية التي يعمل لها قادة الكيان، وبهذا نعطي الشمال فرصة إثبات نزاهته عندما يطالبنا بإقامة دولٍ “علمانية”، وفي نفس الوقت نعطي للشباب في العالم أجمع ما يذكرهم بأيام شعارات “تشي غيفارا” وبدورهم الرائد في مواجهة حرب فيتنام، ليكون الشارع الدولي النصير الأول لنا في مواجهة العنصرية اليهودية؟
ورغم يقيني من أن كثيرين من أعضاء المؤتمر اطلعوا على الرسالة، وبوجه خاص من هم مكلفون بمتابعة كل ما يتعلق بالمؤتمر من كتابات، فإن ما قلته كان صرخة في واد.
وأعترف أنني أصِبتُ بخيبة أمل كبرى.
كنت أرى أن المثقف “الوطني”، وأنا أزن كلماتي، يجب أن يتمتع بحرية تسمح له بتجاوز القيود التي تتحكم في تحرك قيادات سياسية، تربطها التزامات يمكن أن يقُال عنها الكثير، وهو ليس أمر مُشرفا بأي حال من الأحوال، لكنه واقع يجب ان نعترف به.
وأذكّر بان هذا كان هذا قبل “طوفان الأٌقصى” وما نتج عنه من مآسٍ جعلتنا عُرّة الأمم، وبدون أن أتجاهل هنا حق أشقاء تصرفوا بما يُشرّف المواطن العربي، وحق جماهير من الأغراب في الشمال كانوا أكثر إنسانية من الأقرباء والأصهار.
لكن نتيجة كل التحركات كانت سلبية بشكل عام لأنها لم تتحول إلى تيار عارمٍ يفرض إرادته على القيادات العربية المتخاذلة وتهتز له مراكز القرار في الشمال، فيمكن إنقاذ أعداد كبيرة ممن ارتقوا كشهداء وحجما كبيرا مما لحق به الدمار الصهيوني، وهو ما سوف نتحمل جميعا وزره إلى يوم الدين.
وأذكّر بما قاله ترامب بالأمس: لا تُراجعوني في السنة الأولى بخُصوص دولة فلسطينية.. لديّ “خطة واقعية” لحلّ الصّراع بعيدًا عن “حل الدولتين”.
وهو ما يُضاف إلى ما نُشر عن مخطط ناتنياهو لاحتلال قطاع غزة بالكامل وإلغاء “أوسلو” والسيطرة على الضفة الغربية بإقامة مدن يهودية.
ولعلي أتخيل اليوم ما الذي كان يمكن أن يحدث لو صدر بيان من المؤتمر القومي آنذاك يعلن بأن حل الدولتين هو شعار ميت، وإكرام الميت سرعة دفنه، وهو ما سوف يُسجّل تاريخيا كموقف سياسي واعٍ ومدرك لالتزامات المثقف العربي، ومن المؤكد أنه قد يؤثر على موقف الكثيرين.
وأنا لا أدعي أنني محلل إستراتيجي أو خبير سياسي لكنني، وأمام وضعية الانسداد التي أراها في صالح العدو، أجرأ على التطاول، وأتخيل أن ما يحدث الآن من تطورات قد يفتح مجال المناورة أمام القيادات العربية لكي تقف وقفة رجولة تتخلص بها من عقدة النقص أمام من يتصرف معها على أنه حاميَ الديار، وتتذكر أنه هو نفسه من وضعه ثوار الفيتنام ورجال “طالبان” حيث يجب أن يكون.
وأتصور أن علينا اليوم، كمثقفين لا نملك سلطة القرار لكننا ما زلنا نملك ألسنتنا، أن نسجّل مواقف استباقية جريئة هي من صفات المثقف الوطني الذي يستطيع تجاوز التزامات السلطات التاكتيكية، ليكون من أمثال مالك بنابي والهادي المنجرة وعبد الوهاب المسيري وآخرين لم ندرك قيمتهم إلا بعد أن غيبهم الموت، ولنقول لقيادات الأمة الجبناء….استقيموا أو استقيلوا.