المنهج التجريبي في دراسة الطبيعة البشرية عند ديفيد هيوم / محمد مروان

“ينظر هيوم إلى كل معرفة تخص الإنسان على أنها فلسفة أخلاقية بما فيها نظرية المعرفة ومبحث السياسة والدين والاقتصاد. وتنقسم المعارف البشرية عنده إلى فلسفة طبيعية تضم كل معارفنا عن الطبيعة، وفلسفة أخلاقية تضم كل ما يخص الإنسان. ولذلك فإن هيوم قد وضع لبحثه في الطبيعة البشرية عنوانًا فرعيًا هو “محاولة لإدخال المنهج التجريبي في الموضوعات الأخلاقية”، وهو يقصد بالموضوعات الأخلاقية كل أجزاء كتابه: الفهم الإنساني والانفعالات والأخلاق.
لم يكن هيوم أول من بحث في الطبيعة البشرية، لكنه يعد أول من بحث فيها انطلاقًا من المنهج التجريبي، حيث يدرس المعرفة انطلاقًا من الإدراك الحسي وانطباعات الحواس، ويدرك الأخلاق انطلاقًا من الانفعالات. وهذا البدء بالإدراك الحسي والانفعالات يجعل نظريته سيكولوجية، وهو يذهب إلى أن علم النفس هو العلم الفلسفي الحقيقي عن جدارة. والملاحظ أن علم النفس الذي يفهمه هيوم هو علم الطبيعة البشرية.
كما يقصد هيوم من تطبيق المنهج التجريبي على الموضوعات الفلسفية والأخلاقية أن يكون مُشَرِّح الطبيعة البشرية، مثلما يفعل الطبيب مع الجسم الإنساني، وهدفه الوصول إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لهذه الطبيعة. وقد أخذ إيحاءه في ذلك من الإنجاز الذي حققه نيوتن لعلم الفيزياء. فقد اكتشف نيوتن عددًا قليلًا من المبادئ التي تحكم كل حركة فيزيائية، وينظر هيوم إلى الطبيعة البشرية على أنها في النهاية طبيعة، يمكن دراستها بنفس الأسلوب. ولأن العلم النيوتوني هو علم للحركة، فقد نظر هيوم إلى علم الطبيعة البشرية على أنه علم للحركة النفسية لا الفيزيائية، منطلقًا من المبادئ الأساسية التي تحرك النفس الإنسانية مثل الانفعالات والمشاعر، مؤسسًا عليها نظريته في المعرفة والأخلاق.
لكن هيوم انتهى في مؤلفاته اللاحقة إلى النظر إلى علم الطبيعة البشرية على أنه علم وظائف لا علم حركة، ذلك لأنه اكتشف أن حركة النفس صادرة عن وظائف للنفس. ولذلك لم يطبق نموذج العلم النيوتوني بحذافيره، لأن المنهج التجريبي عند تطبيقه على الموضوعات الأخلاقية لن يكون بحثًا عن الحركة بل عن الوظيفة. وهذا هو السبب الذي جعله يتوصل إلى أن أفعال النفس صادرة عن ملكات معرفية وأخلاقية، متحدثًا عن الإدراك الحسي والمخيلة والفهم باعتبارها ملكات معرفية.
كان سبب إعجاب هيوم بالعلم النيوتوني أنه نجح في تفسير حركة الأجسام بقليل من المبادئ العامة، وهو ما دفعه لدراسة الطبيعة الإنسانية بنفس الأسلوب، بهدف التوصل إلى أهم القوانين التي تحكم الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني. وكان يرى أن الدراسة العلمية للطبيعة البشرية يجب أن تتم وفق المنهج التجريبي، القائم على ملاحظة سلوك الإنسان، ورفض التأملات القبلية في الطبيعة الإنسانية، مثل الافتراض بأنها خيرة أو شريرة، كما كان يفعل الفلاسفة القدماء.
وتقترب طريقة تفكير هيوم من نيوتن في جانب أساسي، وهو المتعلق بالمعرفة، إذ درس نيوتن الطبيعة على أنها مكونة من ذرات وحركة الجاذبية، بينما درس هيوم الطبيعة البشرية على أنها مكونة من إدراكات بسيطة يصنع منها الفهم إدراكات مركبة، كما درس هذه الإدراكات على أساس الترابط بينها في الذهن، وهو ما يعرف بنظرية ترابط الأفكار، التي رأى فيها نوعًا من الجاذبية المشابهة لجاذبية الأجسام في الفيزياء النيوتونية.
ينطلق هيوم في بحثه في الطبيعة البشرية من فكرة أساسية، تذهب إلى أن ما يحكم السلوك الإنساني، سواء كان معرفيًا أو أخلاقيًا، هو الإحساسات. فنحن نعتقد في وجود اللون الأحمر لأننا نتلقى إحساسًا به، ونسعى إلى اللذة ونتجنب الألم لأننا نشعر بهما. والطبيعة الإنسانية تجعلنا نستحسن أشياء ونرفض أخرى، ليس بناءً على قرارات عقلية، بل بناءً على الإحساسات والمشاعر. أما العقل فلا يحـ.. تل دورًا في هذه المجالات، ويقتصر دوره على المجال العلمي وحده.
يخالف هيوم بذلك النظرة التقليدية التي سادت منذ أرسطو، والتي ترى أن الإنسان كائن عقلاني في الأساس. فهو يقر بأن الانفعالات والأحاسيس والعواطف هي ما يشكل الطبيعة الإنسانية، ويرى أن العقل ليس دافعًا للسلوك، بل هو مجرد أداة تنظيمية لما تتلقاه النفس من لذة وألم. وهذا ما يجعله يؤكد أن “العقل عبد للانفعالات، ولا يمكنه أن يفعل أي شيء سوى أن يخدمها ويطيعها”.
كتاب “بحث في الطبيعة الإنسانية”
يتكون من ثلاثة كتب: الأول عن الفهم، وفيه يتناول الأفكار من حيث أصلها وما يحدث بينها من علاقات، بالإضافة إلى أفكار الزمان والمكان والسببية والاعتقاد. والثاني عن الانفعالات، وفيه يتناول الكبرياء والتواضع، والحب والكـ . ر. ه، والإرادة. والثالث عن الأخلاق، وفيه يتناول الفضيلة والرذيلة، والعدالة والظلــ . م، والخير والإحسان. ويحتوي بذلك على نظرية في المعرفة، وسيكولوجيا للانفعالات، ونظرية أخلاقية.
يرى بعض الباحثين، مثل نورمان كيمب سميث، أن البداية الحقيقية لفلسفة هيوم هي في الكتاب الثاني حول الانفعالات، وليس في الكتاب الأول حول الفهم والمعرفة، لأن أساس نظرية هيوم هو النظر إلى الكائن البشري من منطلق الانفعال لا العقل. وهذا ما أدى إلى سوء فهم لفلسفته، وإلى اعتباره فيلسوف الشك، بينما هو في الحقيقة ينطلق من رؤية سيكولوجية للطبيعة البشرية.
قبل أن يعرض للانفعالات، تعامل هيوم مع عناصر الإدراك الحسي، وكيفية فهم العقل للأشياء، حيث يعطي الأولوية للانطباعات الحسية باعتبارها أساس المعرفة. ويرى أن موضوعات العقل ليست كلها أفكارًا، بل يسميها “إدراكات”، ويقسمها إلى نوعين: الانطباعات والأفكار.
الانطباعات والأفكار
يميز هيوم بين الانطباعات والأفكار على أساس درجة القوة والحيوية التي تؤثر بها على العقل. فالانطباعات هي الإدراكات التي تدخل بكل قوة، وتشمل إحساساتنا وانفعالاتنا وعواطفنا كما تظهر لأول مرة في النفس. أما الأفكار فهي الصور الخافتة لهذه الانطباعات، كما تظهر في التفكير والاستدلال.
وبذلك، فإن الفرق بينهما هو فرق في الدرجة لا في الطبيعة، فهما معًا إدراكات. وما ينطبع على الإدراك الحسي يكون قويًا، وما ينطبع على العقل يكون خافتًا وضعيفًا.
ولأن هدف هيوم الأساسي هو الكشف عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان وفق طبيعته، ولأن هذه الطبيعة انفعالية، فهو يرى أن التفكير غير ممكن إلا بحضور إدراكات في الذهن، سواء كانت انطباعات أو أفكارًا. ولأن الأفكار ليست سوى صور عقلية لانطباعات حسية، فإن كل تفكير ينطوي على استقبال لانطباعات، مما يجعل الإدراك الحسي أساس المعرفة.
ويضيف هيوم أن الأفكار يمكن أن تكون أولية، وهي الصور الذهنية المباشرة للانطباعات، أو ثانوية، وهي أفكار أكثر تجريدًا نكوِّنها عن الأفكار الأولية. لكنه يؤكد أن هذا التمييز لا يتعارض مع أولوية الانطباعات، بل يؤكدها، لأن كل فكرة في النهاية تعود إلى انطباع حسي سابق.
بهذه الطريقة، يؤسس هيوم رؤيته للطبيعة البشرية والمعرفة، انطلاقًا من المنهج التجريبي، الذي يرفض التأملات العقلية المجردة، ويركز على ملاحظة السلوك الإنساني والانفعالات التي تحكمه.”
محمد مروان.
المصدر: الفيسبوك، صفحة: سالم يفوت