كتاب عرب
يوميات صائم: إنك لا تهدي من أحببت / محمد رياض العشيري
يكون الكاتب إلى قارئه أقرب إذا خاطبه مباشرة مستخدما ضمير المخاطب. وهذا ما يلاحظه قارئ السور المكية التي يكثر فيها توجيه الخطاب من الله جل وعلا إلى نبيه الكريم. ولا شك أن في ذلك اطمئنانا لقلب النبي، خاصة إذا كان خطاب الله إليه مقرونا بكلمة رب، مثل قوله تعالى في سورة القصص التي نصحبها في هذه اليومية (وما كان ربك …)، ففي ذلك خصوصية له وكأنه سبحانه وتعالى “رب محمد” فقط. ولم يكن ذلك ببعيد عن الواقع الذي كان يعاني فيه نبينا الكريم عليه السلام من عنت قومه وعنادهم ورفضهم الدعوة إلى الإيمان بربوبية الله تعالى.
وبثا للطمأنينة في قلب النبي تبدأ سورة القصص المكية – وهي السورة التاسعة والأربعون من حيث النزول – في آيتها الثالثة:
(نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون: ٣)
وفي قصة موسى وفرعون تثبيت شديد لقلب النبي. فقد كان ما واجهه موسى عليه السلام من فرعون وقومه أكبر، إذ بلغ طغيانه حد ادعاء الألوهية. وقصة موسى في هذه السورة تأتي بتفصيل موسع، مقارنة بالسورة السابقة، النمل، التي ركزت أكثر على قصة سليمان وبلقيس.
وترد آي السورة الكريمة التهم التي وجهت إلى محمد عليه السلام. فقد اتهم عليه السلام بكتابة الوحي، واتهم أيضا بأنه يأخذه من بعض أهل الكتاب. ولذلك تبرئه الآيات في أربعة مواضع قائلة إنه لم يكن موجودا عندما وقعت تلك الحوادث:
(وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر: ٤٤)، أي بالجانب الغربي حيث كلم الله موسى
(وما كنت من الشاهدين: ٤٤)
(وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا: ٤٥)، ما كنت تعيش في أهل مدين
(وما كنت بجانب الطور إذ نادينا: ٤٦)، جبل طور سيناء
ثم تربط السورة قصة موسى عليه السلام بدعوة نبينا عليه السلام، مبينة مهمة رسالته:
(… ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون: ٤٦)
فقد أرسل إلى قوم لم يأت فيهم رسول من قبل لينذرهم.
وتظل دائما شخصية المعاند على طبائعها. فلم يرق لأهل مكة أن ينزل الوحي على محمد. ولما لم يجدوا في شخصه أي سوء التفتوا إلى ما أنزل إليه فقالوا:
(لولا أوتي مثل ما أوتي موسى: ٤٨)
لكن رد القرآن كان مفحما لهم:
(أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل: ٤٨)
ويواجههم الله تعالى بالتحدي الأكبر على لسان نبيه:
(قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين: ٤٩)
فهل هم فعلا قادرون على الإتيان بكتاب من عند الله، يكون أكثر هداية من كتاب موسي وكتاب محمد؟ وإن كانوا قادرين على ذلك وصدقوا فيه فإن محمدا – حتى يبلغ التحدي مداه – سيتبعه.
ويعلم الله عجزهم ولذلك يطمئن نبيه:
(فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله: ٥٠)
ويعلم الله تعالى إشفاق النبي على قومه، فهم مهما فعلوا قومه وعشيرته، ويعلم أيضا أنه يحزنه أن يظلوا على كفرهم، ولذلك يخفف عنه العبء بقوله تعالى:
(إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين: ٥٦)
وتواصل الآيات محاججة طغاة الشرك، الذين يقرون دون إدراك منهم بأن رسالة محمد حق، لكنهم يخشون على أنفسهم إن اتبعوه:
(وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا: ٥٧)
فأفحمهم الله تعالى بما أسبغ عليهم:
(أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء: ٥٧) إذ وفر لهم الأمن في الحرم الذي يحج إليه الناس، وتأتيهم الخيرات من كل مكان. فلا عذر لهم إن ادعوا الخوف على حياتهم وأنفسهم.
وتقرر السورة بعد ذلك سُنة عامة من سنن الله تعالى في الكون:
(وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون: ٥٩)
ونتنقل الآيات بعد ذلك إلى مشهد من مشاهد يوم القيامة عندما يُسأل المشركون عما أشركوا به فلا يستطيعون جوابا. لكنهم لا يؤمنون بالبعث. ولذلك تطرح الأيات – على لسان محمد عليه السلام – سؤالين مهمين في صورة سيناريو متخيل عسى أن يتفكر القوم:
(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بضياء: ٧١)
(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه: ٧٢)
ولا ينتظر منهم ردا بعد هذا الإفحام، لكنه يوجه إليهم الخطاب مباشرة:
(ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون: ٧٣)، ولكن من منا من يتذكر ذلك ويشكر الله عليه.
وتختتم السور بقصة قارون: قصة الثروة الطائلة وما قد يصحبها من غرور وخيلاء وكبر وفساد تفضي جميعا إلى البعد عن الله والكفر به. وهذا ما نعايشه في حياتنا الآن مع “قوارين” عصرنا، وانقسام الناس بشأنهم – كما انقسموا وقت قارون – أناس يتمنون ثرواتهم وسلطانهم ويذلون أنفسهم في سبيل ذلك، وآخرون يدركون زوال المال والسلطة والجاه وما تبعه من وبال وفساد وهلاك.
وتنتهي آي السورة بخطاب إلى النبي الكريم لتثبيت فؤاده:
(إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد: ٨٥)،
فسوف يردك الله يوم القيامة إلى مكان متميز لقاء ما واجهت بعد نزول القرآن عليك من مشقة وجهاد. وقيل إن في ذلك بشرى بعودته إلى مكة بعد أن اضطر إلى الهجرة منها.
وهنا يجب أن أشير إلى عادة بعضنا في البلدان العربية في تلاوة هذه الآية خاصة عند مغادرة بلدة أو مدينة، أوبيتا يزورونها إيمانا بأنهم بتلاوتها سيعودون إليها مرة أخرى. بل يصر بعضهم على كتابة أحرف الآية على باب البيت أو الشقة التي يغادرونها حتى يرجعوا إليها. كما يفعل آخرون عندما يقتسمون عبارة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) كتابة أو لفظا، تيمنا منهم بأنهم سيجتمعون مرة أخرى، كما تلتئم أحرف العبارة. ولست أرى أي دليل على صحة هذا السلوك الخرافي في القرآن ذاته.
وما كان محمد يدري بنزول القرآن عليه، ولكن الله أنزله عليه رحمة منه:
(وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك: ٨٦)
وتؤكد السورة في نهايتها جلاء الطريق أمام النبي حتي لا تزل قدمه بسبب ما يواجهه، وهو بشر، ويظل صامدا:
(فلا تكونن ظهيرا للكافرين: ٨٦)
(ولا تكونن من المشركين: ٨٧)
(ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك، وادع إلى ربك: ٨٧)
(ولا تدع مع الله إله آخر: ٨٨)
الأحد ٢ رمضان ١٤٣٨
٢٨ مايو ٢٠١٧