المساجلات في الشعر الموريتاني موضوع ندوة في بيت شعر نواكشوط
(إيجاز صحفي) – نظم بيت الشعر نواكشوط -مساء أمس (الخميس) ندوة أدبية حول “المساجلات في الشعر الموريتاني” تطرقت لأهمية الموضوع، حيث وعلى مر قرون وثقت المساجلات الشعرية روائع الشعر الموريتاني، وأثارت موضوعات لغوية عويصة في النحو والصرف، كما تطرقت بقوة وأثارت عشرات الإشكالات الفقهية في القطر الشنقيطي وبلاد المغرب.
وكان المحاضر الرئيس في هذه الندوة الأستاذ الجامعي/ محمد الحافظ أكاه، بتعقيب نخبة من الأساتذة والأدباء.
بدأت الندوة الأولى بمهاد تأطيري قدمه الأستاذ الدكتور/ عبد الله السيد مدير بيت الشعر – نواكشوط، تطرق فيه لأسباب اختيار هذا الفن الشعري للنقاش، وعرف بضيف الندوة، أستاذ اللغة العربية، ومحاضر المساقات العلمية لتطبيق الدراسات اللغوية على القرآن الكريم بعدة جامعات، والحائز على خبرة التدريس في هذا المجال لمدة أكثر من 25 عاما، درس خلالها أمهات ومتون علوم اللغة.
وقال ولد السيد مخاطبا الحضور “نلتقي اليوم بأحد أعلام الحياة العلمية والأكاديمية في هذا البلد” موضحا أن معرفته بالأستاذ محمد الحافظ أكاه – الذي أنجز للمكتبة العربية عشرات البحوث وحقق عديد الكتب، فضلا عن ديوانه الشعري “لمحات شعر في لوحات شعر” – بدأت سنة 1998 حيث كنت أتصفح كتاب “المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها” للدكتور عبد الله الطيب في جزئه الثالث وفاجأني أنه كتب صفحات في الإشادة برسالة للأستاذ محمد الحافظ ولد أكاه وأثنى على هذه الرسالة وعلى صاحبها، وقال إنه من نوابغ الحركة الفكرية والشعرية في الأقطار العربية، وإنه مع ذلك لا يريد الظهور ولا يحبه، وإن تلك الرسالة التي أنجزها تحت إشرافه لو كان أنجزها غيره لكانت أخذت آفاقا كبيرة ولكنه هو لعدم رغبته في الظهور لم ينشرها.
ووصف الأستاذ السيد موضوع المساجلات الشعرية في الأدب الموريتاني بـ “الموضوع الكبير” مشيرا إلى تعدد جوانبه، وبين أن أسباب المساجلات الشعرية هي نفسها أسبابها في الشعر العربي القديم مضافا إليها موضوعات الفقه التي دفعت العلماء الموريتانيين إلى المساجلات الشعرية، واختلاف الطرق الصوفية التي دفعت الشعراء إلى مؤازرة هذا الطرف أو ذاك، وكذلك العوامل التي أثرت الموضوع خاصة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وبداية القرن الرابع عشر، وهو ما نتج عنه ركام شعري كبير هو موضوع محاضرة الأستاذ محمد الحافظ ولد أكاه.
بعد ذلك بدأ الأستاذ محمد الحافظ ولد أكاه إلقاء محاضرته، والتي استهلها بكلمة شكر لبيت الشعر وإدارته، منوها بنوعية الحضور، وهنأهم على الاهتمام باللغة العربية وبثقافتها وبالشعر، مضيفا “هذا الشعر معرفته مطلب تجب المحافظة عليه”، ملمحا إلى أن الشعر كان أفصح ما لدى العرب عند نزول القرآن الكريم، وأن معجزة القرآن الكريم التي تحدت فصاحة العرب هي شهادة للشعر العربي ولأهميته ولقيمته.
بعد ذلك وزع المحاضر محاضرته إلى عدة محاور، قدم في أولها التعريف اللغوي لعبارة “مساجلات”، وقال إنها جمع “مساجلة” وهي المناظرة والمفاخرة، والمساجلة أخذا من السجْل، والسَّجْلُ هو الدلو الكبيرة، أو الدلو مملوءة أو ملؤها، فللدلو أسماء: لفظ الدلو مؤنث وأسماؤها مذكرة.. السجل.. إلخ. ومن خلال هذا الاشتقاق نلمح ما قصد في هذا المصطلح من إرادة ذكر ووفرة وغزارة ما يصدر عن كل واحد من أطراف المساجلة”، وقال “كل يروم أن يكون سجله أكبر من سجل نده.. ومن هنا قيل: الحرب بين القوم سجال، أي يتبادلون سجالها جمع سجل”.
وأوضح أن “المساجلة في الأدب هي ضرب من المصاولة الشعرية” يجري بين طرفين تعددت أفراد أحدهما أم لا. وبهذا المعنى تكون المساجلات أعم وأشمل مما يعرف بـ”النقائض” و”المعارضات” فكل واحد من المصطلحين “النقائض” و”المعارضات” داخل في المساجلات لغويا. إلا أن الاستعمال حصر النقائض فيما يجري بين طرفين منصرفا من التعيير وذكر المثالب وتجريح الكرامة وتدنيس العرض، فهي أي النقائض تقع بغرض الهجاء بامتياز، مع اختلاف الطرفين على المعايير، أما المعارضات فهي في أصلها محاذاة لنموذج فني يراه اللاحق أسمى من السابق. فهي إقرار للأول بالتفوق والتقدم من أول وهلة.
ثم تحدث المحاضرعن المساجلات عند أوائل الشعراء الموريتانيين الكبار وخاصة محمد ولد الطلبة، وابن رازكة ومعارضتهما للشعراء الجاهليين والمخضرمين، وأورد في ذلك نماذج من شعر هؤلاء الشعراء، ليتحدث في المحور اللاحق عن مساجلات العلماء الموريتانيين في قضايا فقهية ولغوية.
وفي هذا المجال ذكر المحاضر أن أضابير المسائل الفقهية واللغوية أرسلت شعرا على شكل أسئلة إلى محاضر العلم خارج القطر بحثا عن أجوبة لها، ثم عادت دون أجوبة ليرد عليها العلماء الموريتانيون، وأورد نماذج من بينها ما تنبه إليه الشناقطة في القرآن الكريم من نِكات بلاغية، كالإظهار في محل الإضمار والإضمار في محل الإظهار، وهو الذي جعل سيدي عبد الله بن محمد يوجّه لغزا إلى علماء فاس، ويخص ابن زكري في قصيدته التي يقول فيها:
أسائلكم ما سر إظهار ربنا * تبارك مجدا من وعاء أخيه
فلم ياتِ عنه منه أو من وعائه * لأمر دقيق جلّ ثمّ يخيه
فإن تك أسرار المعاني خفية * فمرآتها أفكار كل نبيهِ
وأنت ابن زكريٍّ إمام محقق * تفردتَ في الدنيا بغير شبيهِ
إذا خضتَ في بحر حصلتَ بدره * وخليتَ عن سفسافه ورديه
يمدك في إتقان علم تبثه * قياس أصوليٍّ ونص فقيــــه.
ولما لم تجد الرسالة الشعرية أعلاه جوابا، رد عليها العالم الموريتاني محمد اليدالي بقوله:
معمى قد أعيا أهل فاسَ وغيرهم * وكنا بحمد الله مفتتحيه
فلو قال فرضا ربنا من وعائه * فذلكمُ بعد التفكر فيه:
يؤدي إلى عود الضمير ليوسف * فيفسد معناه لمختبريه
وإن قال منه اختل أيضا لأنه * يؤدي لعود مضمر لأخيه
فينزع منه الصاع لا من وعائه * وتأنف من ذا نفس كل نبيه.
وأورد المحاضر معلومات وفيرة عن المكانة التي كان يكنها المتساجلون فيما بينهم، وما ورد في ذلك من إقرار بمكانة من يساجلون علما ونسبا، وهو عكس ما جرى من هجاء وشتائم في النقائض لدى شعراء آخرين مشهورين في البلاد.
هذا، وفي أعقاب هذه المحاضرة رد الأستاذ الجامعي محمد الحافظ ولد أكاه على مداخلات الحضور، وخاصة حول المساجلات الشعرية التي أرسلت لمحاضر العلم خارج موريتانيا، وذكر أن كمها كبير وكمثال فقط ما أرسلته محضرة أهل محمد ولد محمد سالم من إشكالات لغوية وعلمية، وقال إن كثيرا منها مروي ومعروف في الداخل، ولكن لا يعرف حجم ما حفظ منها في الخارج.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الندوة كشفت عن ثراء موضوع “المساجلات في الشعر الموريتاني” وارتباط هذا الموضوع بكم شعري هائل سواء كان مساجلات بين شعراء أو علماء أو بين شعراء وعلماء أو بين شعراء في عشرات الأغراض الأخرى.