محطات في ذاكرتي..(الحلقة3) محمد فال ولد بلال
… جمعتُ بين المدرسة والمحظرة في كيمي (Guimi) ومقطع لحجار من 1954 الى 1957، تاريخ نجاح والدي رحمه الله في مسابقة اكتِتاب معلمين للغة العربية… وتمّ تحويله الى ولد اعل بابي (Sélibaby). أخذني معه في أول رحلة من البادية الى القرية…ويا لها من رِحلة !؟ كيف الوصول من ضواحي مقطع لحجار الى ولد أعل بابي ؟ سفرٌ شاق ومُتعبٌ وطويل؛ لا سيارات ولا طرقات ولا مواصلات… بدأتْ الرحلةُ بمغادرة الأهل والأحبّة في “المَرْصَه” على شاطئ “تاشوط الصفية ” في منتصف شتمبر. و”المَرْصَه” لمن لا يعرفها: فترَة يُرابِط فيها الفلاحون في الجانب الشرقي من سدّ مگطع لحجار إيذانا ببدء الموسم الزراعي. أخذنا الإبل والثيران برفقة جماعة من الإهل (أذكر منهم الخال محدّو ولد عينينَه ودُّو رحمه الله، وكان بحَوزَته سلاح ناري) متجهين الى كيهيدي عبر منطقة “افطوط” بأوديتها وسهولها ومرتفعاتها الجميلة، ثم منطقة “الرّومد” و كثبانها الرّمليّة الزاهيّة، ثم منطقة اكْصُورْ إفلاّنْ من “لمْ عُودُ”، و”الوَسْكَة”، و”بيفدي”، و”باسْ أنْگدِّي”، و”لگريْعَات”، وحَرَم “مَيتْ”، إلى ضواحي كيهَيْدي.
ولفت نظري في الطريق ما كنتُ أسمعُهُ عند الجماعة من أنّ المنطقة مليئة بالثّعابين والوحوش الضاريّة؛ فيها الأسد والذئب والنّمر والضبع. ولفت انتباهي كذلك، ما كنتُ أراهُ من أغنام الغزلان والدّمْيان، وأسراب الحباري، والبِطط، والدّجاج البرّي (لحْـبَـشْ)، وطيور كثيرة أخرى تحلق وتدور حولنا وتنادي كأنّها تُغازل الإنسان. ولم تخطئ عيني مزارع خضراء وأشجار مثمرة دانيّة ظلالها ومُذَللة قطوفها. ومما كانت تجود به الأرض: النبغ، و”لگْـلَـيّـه، وإمجيج، وأبَكاكْ، والعَلكْ، وتَـنْقَه (تجْمَخت)، ومَـنْـگاقَه (أيزّن)، وتُـوگّـه ذات النفعين، واگْـرَيْنـات لكْبيشْ، واگْريْتَتْ الرّعيان، وآزْ، وتگسْـراريتْ، وتَظْبَه، إلخ… كانت الأرض خصبة ونشطة؛ تبدو وكأنّها مِفرَش موائد للسكان والمسافرين وعابري السبيل. هذا بالإضافة إلى ما تجودُ به من أعشاب وأشجار صحيٌة تستخدم في صناعة الأدويّة، مثل : أفَلّجيط، وورق السدر، وتيْشّط، إلخ،،، وبمِقدار ما كانت الأرض غنيّة وسخيّة؛ كان المحيط البيئي بمُجمَله في حالة توازن تام وِفقَ نظام متناسق ومتكامل بين الإنسان، والحيوان، والنبات، والهواء، والشمس، والتُّربة، والماء، إلخ.
وممّا لفتَ نظري في ذلكـ السفر أيضا وبقى محفورا في ذاكرتي هو ما كنا نلقاه من ترحيب حار وتكريم من إخوتنا “الفَلاّن”. كانوا جزءا منّا، ونحن جزء منهم. الحياة تجمعنا، واللغة، والدين، والمذهب، والمحاظر، والكتب، والألواح، والدرّاع، واللثام، والشايْ، والألعاب، والنّكت، إلخ… كنا شركاء في الماء والكلأ والثّمار؛ والفرق الوحيد بيننا هو “التِّكيت” والبقَر الأبيض ذي القرون الضخمة! يبقى في ذاكرتي أنّ هذه الأرض كانت دوما موطنا للخير والأخوّة والجمال تحتضن الجميع في حنو ومحبة دون تكلف أو تصنع. سألتُ بعد ذلكـ بسنين عديدة عن مصير أولئك الأهل والأحبّة، فوجدتهم لاقوا المصير ذاته الذي لاقت الأرض والشمس والهواء بسَبَب التغيرات المناخيّة وبطش يد الإنسان. قيل لي إنّ موجات الجفاف المتلاحقة دمّرت حياتهم، وفرضت عليهم النزوح إلى المُدُن، قبل أن تُصيبهم طامّةُ “الترحيل 1989”. ومن أبرز أبناء تلك المنطقة الأصيلة والعزيزة الأخ عبد الله ممدو باه: المستشار السابق للرئيس الأسبق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، حفظ الله الجميع.
وصلنا كيهيدي بعد 3 أيام من السفر، وحللنا ضيوفا على السيد الفاضل اعلِ ولد سيدي المهدي رحمه الله. وهو أحد مؤسسي دولة الاستقلال ؛ وتربطبه علاقات وطيدة بأسرتنا مذْ كان مترجما (أملاز) مع قاضي امبود الفَقيه حامد ولد محمد محمود ولد بلاّل رحم الله الجميع… هنا في كيهيدي، شاهدتُ لأول مرة “المدينة ” وأطوارها وأغوارها وشوارعها ومبانيها وسكانها باختلاف ألسنتهم وألوانهم…وكنت أسأل عن كل شيء : السوق، المحلات التجارية، النهر، القوارب، الدراجات الهوائية، النقود (لفرنك le franc)، إلخ،،، وأستحضرُ هنا طبقا من الأرز بالسّمك (مارُ والحُوتْ) عُرِض علينا في دار مضيفنا، وما دار من حديث ممتع وطريف على المائدة في ذلك اليوم. سمعتُ والدي يلاطفُ ويداعبُ صاحبه اعل ولد سيدي المهدي بقصة الشاعر ولد ابْنُ ولد احمَيدَن مع الشيخ أحمدو بمبه امباكي المعروف باسم “الخديم”؛ حين قال له:
يا شيخُ مَن أوصَيتُم بـــضيافتِى @ عَرَجُوا بِإكرَامِى سَمَاءَ عُرُوجهِ
إلى قوله
خَــلطـوا طــعـامـهـم بــحـوت يــابِــس @ وأنـــا أعافُ الحــوتَ يوم خُـرُوجِـهِ
ههه
و من كيهيدي، كان السفر بحرا الى مدينة “بكّلْ” (Bakel) السنغالية على متن زورق صغير مجهّز بمحرّك كهربائي لمدة يوم وليلة… حمولة ذلك المركب لا تتعدى 7 أشخاص ! ولكم أنْ تتصوروا صعوبَة المبيت على متن النّهر في زورق صغير كهذا بالنسبة لطفل في ال8 من عمره !؟ ومن “بكل” (Bakel) استأجرنا حصانا الى سيلبابي (Sélibaby)، ورجلين مسلحين للحِراسة والتّأمين نظرا لخطورة الطريق. معلومٌ أنّ منطقة سيلبابي هي المنطقة الوحيدة التي تلتقي فيها الدول ال3 : موريتانيا والسنغال ومالي؛ وهي منطقة وديان وعِرَة وغابات ضخمة تشكل ملاذا آمنا لقطاع الطرق واللصوص والوحوش الضاريّة بما فيها “الفيل”. هكذا، كان والدي يتحمّلُ بصبر وحزم وعزم وبمثابرة كبيرة مشقّة هذه الأسفار ذهابا وإيابا على مدى 3 سنوات للوصول في الوقت المطلوب الى محلّ عمله…معتبرا كغيره من معلمي اللغة العربية في ذلك العهد أنه جهاد في سبيل الله وجهاد في سبيل الوطن ودفاع عن الهوية والأصالة وذود عن الكرامة…رغم أن اللغة العربية لم يكن لها أي احترام أو اعتبار في المدرسة الفرنسية، ورغم الحرب النفسية التي كانت تشن ضدّها وضدّ معلميها وحملات التشويه وعبارات التهكم والازدراء … إلاّ أنهم صبروا وصابروا وجاهدوا بضمير مهني وأخلاقي عميق ووعي وطني وديني رفيع.
في سيْلبابي، وجدتُ نفسي وكأنّي ولدتُ من جديد…
يتواصل
تعليق واحد