المُقيمُ المُسافِرُ الليل / أدونيس
– 1 –
إلى ما لا نهاية، يجرّ الليلُ عربةَ الكون،
ما أطْوَلَ صبرَك، أيّها الليل.
ليلٌ –
جسمي فيه يقاتِلُ بعضُه بعضاً.
– 2 –
جمَعَ الضّوء مراكِبَهُ على ضفّة اللّيل،
وهو الآنَ ينتظِرُ تلك اللحظةَ
التي ينشر فيها الأشرعة.
– 3 –
«أحلامُكَ نفسُها ليست لكَ»
يقول ليَ الليل.
ألهذا غالباً تهجرني؟
– 4 –
باكِراً خرجَ الليلُ من سريري، هذا الصّباح،
تارِكاً آثار خطواتِه على العتبة،
ناسياً حقيبةَ سفَرِه.
– 5 –
ليس للّيل زَمَنٌ،
اللّيلُ هو الزّمَن.
– 6 –
قالت: «أرى وجهَكَ مرسوماً
في دفتر اللّيل».
– 7 –
أحبّ حتّى الورقَ الرّاقِدَ على طاولة اللّيل، –
هل تفهمُني أيُّها الحِبْر؟
– 8 –
لا الجسدُ، بل ظلُّه:
ذلك هو الكوكب الذي يهتدي به اللّيل.
– 9 –
مَهْما أحْبَبْتَ اللّيل،
فلن تقدرَ أن تُقيمَ جداراً بينه وبين الظّلمات.
– 10 –
مرّةً فاجَأْتُ الشِّعرَ
يُلقي رأسَه مُرْهَقاً على صدر الليل.
– 11 –
مهما أوغَلْتَ في ليْل الجَسَد،
فلَن يكونَ هذا الإيغالُ أكثرَ ممّا ينبغي.
– 12 –
قالَت:
«عندما تغيبُ،
أنامُ في حضن الليل».
– 13 –
الجِنسُ بُحَيرَةُ الليل،
والحبُّ ينبوعُها.
– 14 –
أيّامُنا، هي وأنا، سُفُنٌ
تبتكِر للّيل شطآناً أخرى.
– 15 –
الحجرُ والعصفورُ تَوْأمان
في رحِم الليل.
– 16 –
مَهما كان الليلُ حُرّاً في رواق الفضاء،
فهو أكثر حرّيّةً في كوخ الجسَد.
– 17 –
قال اللّيلُ:
«قُلْ لروحِك أن تتعطَّرَ دائماً بمِسْكِ جسدِك»
– 18 –
يتكلَّمُ الغُبارُ، تعمَلُ الرّيح،
تتكلَّم الرّيح، يعملُ الغبار:
ألِهذا يُغيِّرُ اللّيلُ شعرَه كلّما قرأ قصيدةَ الجسد؟
– 19 –
محيطٌ بلا حدودٍ من الكلام،
يختبئ في نطفةٍ صغيرةٍ من اللقاء بين الجَسَدِ واللّيل.
– 20 –
لا أكادُ أن أمدّ يديّ لكي ألمسَ جسمَ الحاضر،
حتّى يحضر بين يديّ جسَدُ الليل.
– 21 –
نعَم،
كثيراً رأيتُ الزّمَنَ يتقلّبُ شهوةً
في سريرِ اللّيل.
– 22 –
نعم، كثيراً رأيتُ الشِّعرَ يحتضِنُ الليلَ بحنان،
يربِّتُ على كتفيه، ويقرأ له آخِرَ ما كتبَه.
– 23 –
لا تقدر النّجومُ أن تخيطَ أجملَ ثيابِها
إلّا بإبْرَةِ الليل.
– 24 –
الليلُ أقربُ الأصدقاء إلى النّهار،
النّهارُ أقربُ الأعداء إلى اللّيل.
– 25 –
أقرأ النّجومَ لغايةٍ أولى:
لكي أُحسِنَ قراءة الجسر الذي
يصِلُ بينها وبيني، وبيننا وبين الليل.
– 26 –
كلّما ضحك اللّيلُ في سريري،
بكى جسدي.
– 27 –
في النّهار أعيش بوحْيٍ من أيامي الماضية،
في الليل، أعيش وأفكّر بوحْيٍ من أيامي الآتية.
– 28 –
تَعَبي وسادةٌ
يتّكئ عليها لَيْلي.
– 29 –
النّهارُ نَهَرٌ يجري فيه رأسُ الليل
مغنِّياً كرأس أورفيوس.
– 30 –
لا يبدو الحبّ في أوج تألُّقه
إلّا عندما نعرفُ كيف نراهُ في أوْجِ اللّيل.
– 31 –
المكانُ بيتٌ للنّهار واللّيل –
الأوّلُ جاهِزٌ دائماٌ للسّفَر،
والثّاني جاهِزٌ دائماً للعودة.
-32 –
عبثاً يبحث النّهارُ عن طريقه الضائعةِ
في غابة الليل.-33 –
أمشي بخطوات النّهار،
فيما أضعُ رأسي على مخدّة الليل.
-34 –
الليلُ قميصٌ داخليّ لجسم الوقت.
-35 –
ورائي، حولي، موتى كثيرون يأتون ويذهبون،
وعَليَّ أن أدفنهم.
لكن أينَ إن لم يكن في الليل، أو في لغة الليل؟
– 36-
كلّ يومٍ يسبقني ليلي إلى سريري
لا لكي ينام،
بل لكي يبتكرَ لشعري سهَراً آخر.
– 37 –
ما أطْولَ الطّريقَ بين الليلِ ووسادتي.
-38 –
اسهَرْ أيّها الشّاعر مع الليل في أوّله – انظُرْ إليه خصوصاً كيف
يغسل وجهه وقدميه قبل أن يدخل إلى سريركَ.
انظرْ كيف يساعدُك على النّوم،
ويظلُّ هو ساهراً.
إنّه أمٌّ ثانية.
-39 –
قالت نجمةٌ:
«سأحاول، اليومَ، أن أغطّي بأهدابي وجهَ الليل».
-40 –
قالت الشّمس:
«لكي تفهم النّهار، يجب أن تُحسِن قراءةَ الليل»
.- 41 –
يُقلِقُني صمتُ الليل،
فيما يطَمئنني صَخَبُ النّهار.
– 42 –
يغارُ شعري من الليل،
لأنّه يحتضِنُ جميعَ الجهات،
-43-
نزل الليلُ عن فرسِه التي أنْهكَها النّهارُ،
وأخذ يتجوّلُ حافِياً في شوارع النّجوم.
-44-
غالِباً،
يتواطأُ الليلُ مع بصيرتي ضدَّ بصَري.
-45 –
تمزّقَ ليلُ طفولتي
وغابَت أشلاؤه في أيّامي.
لكن، كلّما تذكّرتُه، أو تخيّلْتُ أنّني أزوره،
يستقبلني لابساً ثيابَه القديمة.
– 46 –
أتشبّه باللّيل، غالباً، لكي أعرفَ كيف ألبس الضّوء.
– 47 –
الآن؟ كلّا.
لم أُكْمِلْ بعد قراءةَ رسالتك التي تتدلّى من عنق الليل.
– 48 –
الفلّاحُ القَمَرُ يغسل وجهَه الآن،
في هذه اللحظة، بماء الليل.
– 49 –
اللّيلُ، غالِباً، يفسِّرُ ويُعَلِّم.
لكن، عندما يجلس الطِّفلُ في أحضانه،
يحلمُ ويتنبّأ.
– 50 –
أمسِ،
نهَضَ اللّيل من سريره باكِراً،
تارِكاً على فراشي وردةً اسمُها الشّمس.
المصدر: الحياة