مع فقيد الخلق والإبداع: د محمد ولد عبدي
بعد نقاش أطروحة صديقي محمد ولد عبدي وحصولها على مرتبة الشرف الأولى ،مع التوصية بالطبع، بادر الدكتور بتقديم أطروحته للنشر، عبر دار نينوى، اعتمادا على خبرته بخصائص دور النشر التي خبرها، من خلال إشرافه المستمر على معرض أبي ظبي للكتاب، وحضوره الدائم لمعارض الكتب السنوية في الدار البيضاء، وغيرها…فصدر عمله 2008 في كتاب أنيق، تحت عنوان” السياق والأنساق في الثقافة الموريتانية (الشعر نموذجا)”، تقرر تقديمه نقديا، في معرض الكتاب بالدار البيضاء2009، وكم تنازعني التحمُّسُ والتوجُّسُ، حين اتصل بي الأديب د. حسن نجمي، من مديرية الكتب بوزارة الثقافة المغربية، ليخبرني باقتراحهم لي ضمن الأساتذة الذين سيقدِّمُون هذا الكتاب في دورة المعرض تلك، وافقت بالطبع منتصرا لدافع التحمس على وازع التوجس.. وقبيل المعرض جاءتني دعوة لحضور مهرجان الشعر الذي نظمه “أمير الشعراء” في موريتانيا،… ثم بادرت بالعودة إلى المغرب بعد انطلاق فعاليات معرض الكتاب بالدار البيضاء، حرصا على حضور نقاش كتاب ” السياق…” وصلت قبل يومين أو ثلاثة من موعد جلسة تقديم الكتاب، وليست عندي نسخة منه، فذهبت للدار البيضاء للسلام على صيقي المؤلف، واستلام نسختي من كتابه، وفي اليوم الموالي ذهبت إلى المعرض، بعدما حاولت منذ الليلة الماضية تكوين صورة عن الأطروحة المنشورة من خلال بناء هندستها الفكرية، الذي استوحيته من فهرسها، وبإلقاء نظرة على إشكالات المقدمة، وخلاصات الخاتمة.
قابلت الدكتور المرحوم في رواق موريتانيا في المعرض مع ممثلي مكتباتنا وناشرينا، مثل الأستاذ سلاَّمي ولد أحمد المكي، والأستاذ محمد محمود، إضافة إلى الأديب الكاتب الصحفي محمد سالم ولد الداه (الصورة 1)، وكنت نصف محموم، إشفاقا على نفسي من تقديم مشاركة لا تشرف اسم بلدي، ولا تليق بمستوى الكتاب، ولا مقام الكاتب، ولا مكانة الأستاذين الكبيرين المناقشين: د. محمد الظريف الذي قد تمرس بهذه الأطروحة، مشرفا أكاديميا، ومناقشا، ود. يوسف ناوري الذي حصل على نسخته منها في وقت كاف لإعداد مداخلته حولها( الصورة 2).
بدأت الجلسة وكنت آخر المتدخلين، فوجدتني انخرط – ارتجالا- في استنطاق وحدات العنوان، استيحاء لبنيتيْها السطحية والعميقة، موضحا حرص الباحث على تأسيس “الأطروحة” بمفهومها الأكاديمي الإشكالي، الذي قل في السنوات الأخيرة وجوده في البحوث المنجزة بجامعاتنا، إذ البحث حِجاجٌ بطبعه، وقد كان الحِجَاجُ منذ فجر الفلسفة يقوم منطقيا على ثالوث: الأطروحة/ النقيضة/ الجدل بينهما، مستخلصا أن الدكتور قد استطاع أن يؤسس أطروحته، على انقاض نقيضتها التي لم تصمد أمام بنائه المعرفي السليط، مستعينا بترسانة من المقومات قد لا تتكامل في غيره: خبرة المثقف الموسوعي، وبصيرة الناقد الحصيف، وحنكة العالم المتمرس، ورؤية المفكر المصلح، ورهافة الشاعر المبدع، وذكاء الفنان المقتدر….
ثم حاولت أن أضع هذا العمل في مداره البحثي الموريتاني، ملاحظا أن الدكتور: عبد الله بن احميده، قد تكفل ببحث تأسيسي، لمشغل النشأة الغامضة في الشعر الموريتاني الفصيح، والدكتور جمال ولد الحسن، قد تكَفَّلَ بوصْف الخصائص الأسلوبية المائزة لأهم مدونة الشعر الشنقيطي القديم، في حين أنَّ الدكتور محمد بن عبدي بنى فوق الطابقين طابقا ثالثا، تجاوز فيه مشغليْهما، إلى موضوع دراسة السياقات والأنساق في مدونة الشعر الموريتاني الحديث،م إسهاما في إعلاء صرح البحث الأكاديمي في شِعْرِيَّتِنا، منبها إلى هذه الروح التجاوزية التي تسكن هذا الباحث هي سر تميزه، في التنظير، والإبداع معا، وقد تجلت باكرا منذ تخطَّى أسطورة المليون شاعر المتداولة، إلى “ما بعد المليون شاعر، ” من خلال بحث له بهذا العنوان، فاز به في جائزة النقد لدائرة الثقافة بالشارقة 1999، دشَّن عبْره بناء النماذج النقدية النظرية، متجاوزا تصنيفات المدارس الأدبية، التي حاول بعض أسلافه من أدباء موريتانيا تطبيقها على شعرنا، حيث قسَّم مُدَوَّنَتَه إلى ثلاث تيارات شعرية متمايزة :استرجاعي- وشاهد- استشرافي، وكأنه كان مستحضرا فيها، زمن الفعل النحوي: ماضيا – حاضرا- مستقبلا، إضافة إلى أنه قد كان في عنوانه يستبطن أن مشروعه النقدي قائم على التجاوز المستمر، حيث لم يعتبر هذا الكتاب ذاته إلا “مدخلا لقراءة الشعر الموريتاني “. مما يعني عقده العزم على المضي أبعد فأبعد، إذ كانت فكرة التجاوز تتلبَّسُه مبدعا وناقدا ومفكرا، ومن هنا جاءت أطروحة ” السياق والأنساق في الثقافة الموريتانية”، عصارةً لمشروعه الكبير، فكانت متجاوزة لسابقاتها تصنيفا وتوصيفا، ومقاربة.
وقد أكدتُ- ومازلتُ- مطمئنا أن الباحث لو لم ينجز إلا خطاطته العجيبة التي اختزل فيها ثمرة بحثه لأغنت عن مئات الصفحات، حيث نحَتَ فيها هَرَمَ أطروحته الأكاديمية بحكمة الفراعنة، بانيا نموذجه النظري على مقاس روح هذه الأطروحة الثاوية في بنيات السياقات والأنساق، الكامنة وراء الخطاب الشعري، والمؤثرة فيه أيضا، حيث إن إقامة النماذج النظرية النقدية لا يجيدها من العرب إلا أفراد أفذاذ، فهي لا تتأتَّى إلا بعْد قراءة معمقة في النقد عموما، وفي المدونة المدروسة خصوصا، حتى ينبثق منها النموذج، ويستوعبها في الوقت ذاته.
وعلى ضوء هذا صَمَّمَ الباحثُ العبقري محمد ولد عبدي علاقاتِ التراشح عموديا وأفقيا بين جميع أبنية أطروحته، جاعلا الحقب الثلاث: التأسيس والتأصيل- الاستعمار وإرادة التحصين- الدولة وإرادة التحديث/ تتفاعل مع سياقات ثلاثة: اجتماعية- ثقافية – أدبية/ ومع أنساق ثلاثة: دينية تناسب(التقليد)-وثقافية، تناسب(التجديد) – واجتماعية، تناسب (الحداثة). تكون فيها مرجعيات المبدع ثلاث أيضا هي على التوالي: (المماثلة)- (المشابهة)- (المخالفة)، تفرز من أنواع التلقي الشعري ثلاثة: (التأثيم)- (التعظيم)- (التذميم)، تناسبها أيضا من أنماط القراءة ثلاثية: (التحقيق- التعليق- التطببق).
وهكذا كان (المنهج) المناسب لروح الأطروحة، وعمق تصورها، وتركيب بنائها، منافيا –بطبعه- للأحادية في النظر التي تقود إلى عمى ثقافي، أكثر مما تهدي إلى سواء السبيل، فاقترح الناقد المتمرس (استراتيجية) بحثية تتقصد اكتشاف النسق المختفي وراء الخطاب الشعري، عبر (منهاجية نسقية)، لا تضيع في ركام التفاصيل، ولا تتيه في معالجة كتلة من العناصر المتناثرة، ولا تحلل دون تبني إبدال معين، كما يقول. ولهذا كله كان (المنهج الثقافي) هو الأنسب لمقاربة هذه الأطروحة القائمة على تداخل السياقات والأنساق، وتأثير بعضها في بعض؛ حيث لا ترى إمكانية قراءة الخطاب الشعري دون استثمار حواضنه الثقافية.
كل ذلك عبر (أسلوب) أدبي، يجمع بين الشاعرية المُتَوَهِّجَةِ، والأكاديمية المُتبَصِّرَةِ، ويطوِّقُ عناصرَ موضوعه، وبنيةَ أطروحته، عنونة، وتصنيفا، وتوصيفا.
إنها أطروحة/مشروع فكري تستكنه أسرار التراشح (تأثير وتأثرا) بين مكوناتها، تصيُّدا للوصل بدل الفصل، وكانت تستبطن هدفا كبيرا هو نحت “بنية العقل الموريتاني”، على غرار مشروع “بنية العقل العربي”، للمفكر المغربي: محمد عابد الجابري، وهذا الهدف الكبير يندس في تضاعيف المتن، وإن لم يصرح به في بنية العنوان، ربما لتواضعه المعهود.
تلك أهم ملامح مداخلتي يومها.. والتي لا شك أنني غششت في ترجمتها الاسترجاعية هذه، لأنني سبق أنْ أعدتها بشكل أكثر تحضيرا، وتنسيقا، في ندوة “مرايا الحلم والكتابة”، التي نظمها الباحث الرصين والشاعر المبدع، صديقنا معا: الدكتور المرابط ولد متالي، بالتعاون مع اتحاد الكتاب والأدباء الموريتانيين، في انواكشوط 2012، تكريما لمنجز محمد ولد عبدي، وربما تأبينا مسبقا له، وهو حاضر معنا بكامل صحته.، وألْمَعِيَّته. وقد أسفر ذلك التكريم/ التأبين عن كتاب نشره الدكتور ولد متالي، خجلتُ من إدراج مداخلتي فيه، رغم إلحاحه، لأني لا أراها على مستوى ما أريد أن أكتبه عن أطروحة محمد ولد عبدي ومشروعه، رغم إبدائهما معا للإعجاب بها، ورغم إعجاب الجمهور الذي سمعها لأول مرة في الدار البيضاء، فأنا لا أراها إلا تداعيات مختزلة، ما مكان نشرها الأنسب إلا هذا الفيس بوك، البعيد عن الأكاديمية. ولا مقامها الأمثل إلا وحي حديث هذ الصور التي أتملَّى فيها الآنَ استرجاعا لحلاوة زمان الوصل، في ظل مرارة زمان الفصل، بعد رحيل أعز أصدقائي، ومشاركيَّ همومي الثقافية، وطموحاتي الإبداعية، ومشاغلي الأكاديمية، وأشواقي الروحية……ومنافي الصعاليك الأحرار…تغمد الله روحه بوارف رحماته، وبوأه أعلى الجنان، مع الأنبياء والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
أدي ولد آدب – من صفحته على الفيسبوك